التاريخ ليس ماضِ يسرد لنا أخبار الأقدمين، هو علم يفتّح أذهان الناس ويقومهم للخوض في سير أعلامهم وعلمائهم وأئمتهم، علمٌ يأخذنا إلى عصر النبوّة وما بعد ذلك، لنصوب مساراتنا، لنتعظ بنهد نبينا الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم، لنتبحّر في علم أحفاده الطاهرين، فكيف وإن اخترنا إمام وعالم جليل وعابد فاضل، وله مكانة جليلة عظيمة لدى جميع المسلمين، إنه شيخ بني هاشم أبي عبد الله جعفر الصادق عليه السلام، من السلالة النبوية المباركة؛ وباب العلم، فهو إحدى ركائز الاندفاعة العلمية الكبرى في تاريخ المسلمين.
هو رمز من رموز التربية والتعبد، كان يتنفس هواء زمانه ويعكس شخصية مكانه (المدينة النبوية)، وإذا كان له من خصوصية أو انفراد فهو تفرد الممثل لعصره المنتمي إليه والمؤثر فيه، فكان عابداً وعكف على العبادة والعلم مبتعداً عن الأمور الأخرى، حتى سُمّي “السجّاد” لكثرة سجوده.
الإمام جعفر الصادق عليه السلام من عظماء أهل البيت عليهم السلام وأشرافهم، ذو علوم جمة وعبادة موفورة وأوراده متواصلة وزهادة بينة وتلاوة كثيرة يتتبع معاني القران الكريم ويستخرج من بحره جواهره ويستنتج عجائبه ويقسم أوقاته على أنواع الطاعات بحيث يحاسب عليها نفسه رؤيته تذكر بالآخرة واستماع كلامه يزهد في الدنيا والاقتداء بهداه يورث الجنة نور قسماته شاهد أنه من سلالة النبوة وطهارة أفعاله تصدع بأنه من ذرية الرسالة نقل عنه الحديث واستفاد منه أعيان الأمة وعلمائها.
ومما لا شك فيه أن الله تبارك وتعالى أراد كل الخير لأمة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، واختارها من بين جميع الأمم لتكون مهبط القرآن الكريم، والذي هو ليس بمعجزة وقتية تنتهي بوفاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم بل حظي بعناية بالغة جداً، وهناك من سخّر حياته كلها في خدمة هذا الكتاب العظيم، ومنهم الإمام جعفر الصادق عليه السلام، الإمام الذي وعائلته وكل آل البيت عليهم السلام لهم قدرهم ومكانتهم العالية عند جميع المسلمين دون استثناء.
وشهد القاصي والداني والجميع أن الإمام صاحب المقام العلمي الرفيع الذي لا ينازعه أحد. حتى توافدت كلمات الثناء والإكبار والإعجاب عليه من قبل الحكام، وأئمة المذاهب، والمؤرخين وأصحاب السير، من أمثال الطبرسي والنيسابوري، وبدأ الإمام الصادق ثورته الفكرية بين المسلمين بأساليب متعدّدة ومختلفة حسب اختلاف عقليّة السائلين والمجادلين، وانتشرت أحاديثه انتشاراً هائلاً، وكثُر الرواة لها في جميع الطبقات، لا سيما وقد أصبح الحديث والرواية علماً مستقلاً بذاته في ذلك الوقت.
لكن لا بد من التعريج على الفترة التي كان فيها الإمام جعفر الصادق عليه السلام، هذه الفترة الحساسة جداً، على الصعيد السياسي، لكن الإمام نأى بنفسه عن هذه الأمور وترك نفسه للعلم وطلبه ونشره، حتى ولو أن أحد أولاده شارك بالثورات التي حدثت في تلك الحقبة، لكن الإمام اشتهر بالفقه أكثر من انشغاله بالحديث وهذا الكلام يجده كل من يريد التحقق في كل الكتب الإسلامية المحققة والموثوقة، الجدير بالذكر هنا، أن بعض الفرق الإسلامية اعتمدت التدوين في القرن الخامس الهجري، لكن القرن الثاني والثالث للهجرة كان الأمر مختلفاً حيث كان هناك الكثير من علماء الحديث الذين رووا عن الإمام وما كل رواية هي صحيحة، منها مثلاً “لماذا الإمام البخاري لم يروِ عن الإمام؟” وهذه ردوا حولها علماء كثر لكن أستطيع تلخيصها بكلمتين، ان الإمام الصادق عليه السلام كان مشهوراً بالفقه أكثر من الحديث، فضلاً عن أنه كان صاحب مقامٍ عالٍ ويأتيه الناس من كل حدبٍ وصوب للاستفادة منه بسبب مكانته وعلمه وللفتاوى الصحيحة وغير ذلك.
الإمام جعفر الصادق عليه السلام، قمر من أقمار بني هاشم، وإمام من أئمة المسلمين الفطاحل بلا منازع، لكن هنا المنهج العلمي لا بد لنا فصله عن العاطفة، فهناك الكثير ممن يروي عن الأئمة الكبار، دون تحقق، وهذا خطأ شائع وقع به الكثير من الفرق الإسلامية، وهذا ما ننادي إليه دائماً، التحقق من كل رواية من خلال القواعد الصحيحة لعلم النقل والجرح والتعديل والرجال والسند الصحيح، فكلما دعمنا الرواية بضوابط شرعية محققة، كلما كنا نقدر هؤلاء الأئمة ونجلهم، فالحديث الذي يجب أن نأخذه يجب أن يكون مسنداً وثابتاً وأن تكون متصلة السند إلى الإمام جعفر بن محمد الصادق عليه السلام، المشكلة اليوم ليس مع الأئمة بل مع من ينقل عنهم بعاطفة دون تراجم وشروط النقل الصحيحة المعروفة للقاصي والداني.
ولد الإمام الصادق عليه السلام سنة “80 هـ”، وقيل سنة “83 هـ”، وهو أبو عبدالله جعفر الصادق بن محمد الباقر بن زين العابدين علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب عليهم السلام، ووالدته فروة ابنة القاسم بن محمد بن أبي بكر، وكان من ألقابه الفاضل والطاهر وأما الصادق فجاءت لصدق مقاله، كما كان سخياً كثير العطاء، شجاعاً لا يخشى إلا الله تبارك وتعالى، الإمام الصادق عليه السلام نشأ في أسرة هي أعظم أسر العرب، فهي الأسرة التي أنجبت خاتم النبيين، وسيد المرسلين محمد صلى الله عليه وآله وسلم، ينتمي الإمام الصادق من جهة أبيه إلى بني هاشم، ومن جهة أمه إلى بني تميم بن مرة، فهو ابن الخليفة (مجازياً) أبي بكر الصديق أفضلُ أولياء الله، وصحابةُ رسول الله صلى الله عليه وآله سلم من جهتين، حيث كان جعفر الصادق يقول: ولدني أبو بكر الصديق مرتين، فأمه هي: أم فروة بنت القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق، وأمها، أي جدته من قبل أمه، هي أسماء بنت عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق، فإذا كان هؤلاء أخواله، والصديق جده من الجهتين فلا يتصور في مثلِ جعفر بن محمد وهو من هو في دينه وقربه من الأصل النبوي، أن يكون شاتماً أو مبغضاً أو حاقداً على جده، (وهذا الأمر برسم المنكرين الذين يريدون بث التفرقة بين المسلمين، فهذا النسب يبين متانة العلاقة ما بين الصحابة الكرام وآل البيت عليهم السلام)، وبالطبع والده غني عن التعريف، فهو الإمام محمّد بن عليّ الباقر عليه السلام كان من قراء وفقهاء المدينة المنورة، نشأ الإمام جعفر في مهد العلم، ببيت النبوة الّذي توارث علمها، وأشرق في قلبه نور الحكمة بم درس، وكان قوة فكرية في عصره، فلم يكتف بالدراسات الإسلامية وعلوم القرآن والسنة النبوية والعقيدة بل درس الكون وحلق في أفلاكه وعني بدراسة النفس البشرية، حتى ملأ الدنيا بعلومه وهو القائل: “سلوني قبل أن تفقدوني فإنه لا يحدثكم أحد بعدي بمثل حديثي”، ولم يقل أحد هذا الكلام سوى جده الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام.
قِبلة العلم
الإمام الصادق عليه السلام، ممن تفتح قلبه للعلم، كان يقظاً بصيراً، حتى أن ما أفيض على قلبه من التقوى، أن الأحكام كانت لا تدرك عللها، والمسائل التي تقصر الأفهام عن الإحاطة بها، مدركة لديه، وقيل إن أربعة آلاف من الرواة قد ارتوا بعلومه، وقد نشروا العلم والثقافة في كل الأمة الإسلامية ونشروا معالم الدين وأحكام الشريعة، منهم أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد بن حنبل، فالإمام الصادق هو الإمام الوحيد من أهل البيت عليهم السلام الذي أتيحت له الإمامة دامت أكثر من ثلث قرن، تمحض فيها مجلسه للعلم، دون أن يمد عينيه إلى السلطة، حيث لم يكن الوضع السياسي في أفضل حالاته حينها، فكانت فترة تجاذبات سياسية شهدتها نهايات الدولة الأموية وصدر الدول العباسية، بمواقف سياسية مختلفة، وبهذا التخصص سلم الأمة مفاتيح العلم النبوي، ومنه يبدأ التأصيل الواضح لمنهج علمي عام للفكر الإسلامي، نقلته الأمم، فمدرسة الإمام الصادق عليه السلام هي المدرسة التي ربطت العلم بالدين.
ولقد كان أول ما عني به الإمام الصادق تفسير القرآن الكريم وعلومه وقراءاته وبلاغته وازداد اهتمام الإمام الصادق بحديث جده المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم، اهتماماً عظيماً بعد أن كثر الكذب والوضع على رسول الله صلى الله عليه وآبه وسلم، وعلى الرغم من كثرة الرواة والتلاميذ عن الإمام جعفر، إلا أن مروياته التي نقلت في كتب أهل الحديث والأثر المعتمدة ليست بالكثرة بسبب الأحوال السياسية التي كانت سائدة في عصره.
وتجدر الإشارة إلى اعتمادي ربط هذا الموضوع بمدرسة أهل الحديث والأثر، كمرجع قويم معتمد، هذه المدرسة العلمية الأصيلة، فأي حديث يجب أن يعرض على القرآن، وأن يكون متواتراً، وأن يكون مسنداً ورجاله معروفين غير مجهولين لهم تاريخ ميلاد ووفاة وترجمة ومن ثم نقرأ ما قاله عنه أهل الحديث، هذه هي الشروط المعتبرة، وبالتالي الإمام عالماً فقهياً من علماء المدينة المنورة الكبار، ويجب أن نحترم مكانته باتباع الشروط الصحيحة بعيداً عن الغلاة والجفاة.
شيوخ الإمام
أخذ جعفر بن محمد الصادق عن كبار علماءِ العلم والحديث، حيث أدرك أواخر الصحابة؛ منهم سهل بن سعدٍ الساعدي، وأنس بن مالك، بالمقابل، روى عن والده محمد بن علي الباقر الكثير، ووفقاً للمصادر الثقة، فإن الإمام الصادق أكثرُ رواياته من طريق أبيه عن جده الحسينِ بن علي أو علي بن أبي طالب عن رسول الله صلى اللهُ عليه وآله وسلم، وهي أعلى مروياته سنداً، وهي أمثل نماذج رواية الأبناء عن آبائهم.
ومن شيوخه الأفاضل، شيخ التابعين، عطاء بن أبي رباح، ومحمد بن شهاب الزهري، وعروة بن الزبير، محمد بن المنكدر، وعبدالله بن أبي رافع، وعكرمة مولى ابن عباس، كما روى الإمام عن جده القاسم بن محمد بن أبي بكر، وأكثر شيوخه من علماء المدينة، والجماع بينهم أنهم كلهم ثقات وأهل ديانة وصدق وأمانة وعدالة.
تلامذة الإمام
من بين تلامذة الإمام جعفر الصادق، الإمام أبو حنيفة النعمان وكانوا قد نسبه له قولاً هو: “لولا السنتان لهلك النعمان” أي المدة التي قضاها في الدراسة لدى الإمام الصادق عليه السلام، وهنا لا بد من التأكيد أن هذه الرواية غير صحيحة وغير موجودة ونسبت للإمام النعمان، لكن لم تذكرها كتب السير والتراجم أبدأ، ثم مالك بن أنس، كان مالك أول من انتقى الرجال من الفقهاء بالمدينة، وأعرض عمن ليس بثقة فِي الحديث، ولم يكن يروي إلا ما صح، ولا يحدث إلا عن ثقة، وهناك سفيان الثوري، وسفيان بن عيينة ويحيى بن سعيد بن قيس الأنصاري، وابن جريح والقطان وغيرهم.
فقد أخذ تلامذته عنه العلم روايةً وفقهاً، من أشهرهم يحيى بن سعيد الأنصاري القطان ، ويزيد بن عبد الله بنِ الهاد الليثي المدني، وهو أكبر من جعفر، ومات قبله بعشر سنين، وعبد الملك بن عبد العزيز بن جريج، وهو من أقرانه، وأبان بن تغلب، وأيوب السختيان، وأبو عمرو بن العلاء، ومالك بن أنس الأصبحي إمام دار الهجرة، وسفيان الثوري، وشعبة بن الحجاج إمام النقاد، وسفيان بن عيين، ومحمد بن ثابت البناني، وغيرهم، وروى له جماعة الكتب الستة إلا البخاري فلم يخرج له في صحيحه بل في غيره.
وأما رواة الحديث، منهم إسماعيل بن جعفر، وحاتم بن اسماعيل وزهير بن محمد التميمي وغيرهم، وقال أبو حنيفة عن الإمام الصادق عليه السلام، “ما رأيت أفقه من جعفر بن محمد”، وقال أبو حاتم “ثقة لا يسئل عن مثله”.
نقل الآراء الفقهية للإمام جعفر الصادق عليه السلام الأئمةُ أبو حنيفة النعمان ومالك بن أنس ومحمد إدريس الشافعيّ وغيرهم من كبار العلماء، مما يدلّ على أنّ رواياته ومقولاته ساهمت في تشكيل الشخصية العلمية لمؤسسي المذاهب الفقهية الكبرى، شأنه في ذلك شأن غيره من كبار أئمة التابعين، كما ظل الفقهاء عبر العصور ينقلون فتاويه في كتبهم الفقهية، فأبو حنيفة روى كثيراً عن جعفر واستدلّ برواياته في صياغة مسائله، وبالنسبة للإمام مالك بن أنس؛ نقل عنه في كتابيْه الحديثي “الموطأ” والفقهي “المدونة”، آراءه ومروياتِه عن آبائه من أهل البيت عليهم السلام وغيرهم من الصحابة، ففي الكتابيْن المذكوريْن نلقى بكثرة أسانيد من قبيل: “عن مالك عن جعفر الصادق بن محمد الباقر بن علي عن أبيه”، أو “عن مالك عن جعفر بن محمد عن أبيه.
ونجد كذلك روايات الإمام جعفر عند الإمام أحمد بن حنبل الشيباني، في “المسند”، وفي “السنن” لكل من الإمامين، الترمذي والنسائي.
لكن يبدو أن العوامل السياسية لعبت دوراً كبيراً في التضييق على آل البيت عليهم السلام، وأثرت سلباً على مروياتهم، فمثلاً الإمام مالك بن أنس صاحب دار الهجرة أحد تلامذة الإمام جعفر الصادق عليه السلام لم يروِ عنه حتى انتهاء الخلافة الأموية، ولذلك الأمر روى الإمام النسائي في سننه: عن ابن عباّس قوله: “قد تركوا السّنة من بغض علي”، وللأسف ما حدث في أيام الخلافة الأموية، تكرر في الخلافة العباسية، فهذا العلامة الثقة نصر بن علي بن نصر بن علي الجهضمي، من كبار الأعلام، كما يقول الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء، عندما أمر الخليفة المتوكل العباسي بضربه ألف سوط لأنه روى حديثاً عن آل البيت عليهم السلام.
إلى جانب العلوم الدينية، امتد الأمر إلى العلوم التجريبية أيضاً، وهذا يعيدنا إلى علماء آخرين مثل أبو الريحان البيروني والاهتمام آنذاك بعلم الفلك والفلسفة والجغرافيا والطب وسائر العلوم المختلفة، لم يهتم الإمام فقط بعلوم الدين، بل وظّف بعض العلوم لإثبات التوحيد، وعلاقة الدين بباقي العلوم، وهنا لا بد أن نستحضر مثالاً عن تلميذه جابر بن حيان، عالم الكيمياء، إذ ذكر بن حيان في بعض رسائله أن الإمام الصادق له فضل عليه في علمه بالكيمياء، ما يعني أن الأمور العلمية كانت تسير جنباً إلى جنب مع العلوم الدينية.
وبالتالي إن آل البيت عليهم السلام، مدرسة نهل منها جميع المسلمين، وهي امتداد وانعكاس صادق لمدرسة النبوّة، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (أنا مدينة العلم وعلي بابها)، ولا ننسى أن الإمام جعفر بن محمد الصادق كان يقول كما قال جده الإمام علي عليه السلام: (سلوني قبل أن تفقدوني)، إن الإمام هو أحد أعلام المدرسة الربانية، الذي أتاح له عصره أن ينشر فيها من العلوم ما شاء الله له أن ينشر شرقاً وغرباً، والبحث في سائر العلوم سنتطرق إليه تباعاً، والأحاديث التي رواها، كلها وردت في صحيح مسلم وسنن الترمذي وسنن النسائي وأبي داوود وأبن ماجه ومسند الإمام أحمد بن حنبل وموطأ الإمام مالك بن أنس، فكان هناك أحاديث في العقائد والعبادات والمعاملات وموضوعات أخرى، لكن للغوص في هذه المرويات لا بد بدايةً أن نتعرف على الظروف السياسية التي عاصرها الإمام جعفر بن محمد الصادق.
ولد الإمام الصادق في عهد عبد الملك بن مروان، وعاصر بعض ملوك بني أمية، فكان ذلك العصر مليء بالفتن والثورات والاضطرابات حتى نهاية الدولة الأموية وبدء الدولة العباسية التي بذلت آنذاك جهوداً كبيرة لإرساء الاستقرار السياسي، وقد ترك الإمام الصادق، السياسة، وابتعد عن طريقها، وعكف على العلم، كما العبادة، لكن رغم ذلك الاضطرابات السياسية لم تتركه في حاله، فلقد عاصر ثورة عمه زيد بن علي ضد هشام بن عبد الملك، وبالتالي إن المتتبع للوضع السياسي في تلك الحقبة، يرى أن الاضطراب العقائدي والأخلاقي كان سمة من سمات ذلك العصر، حيث كاد زيد بن علي أن ينتصر على الأمويين لولا وقوع الفتنة بين أتباعه، وقد روى الطبري أن (أتباع زيد دخلوا عليه مرة فقالوا: رحمك الله ما قولك في أبي بكر وعمر؟ قال زيد: رحمهما الله وغفر لهما، ما سمعت أحداً من أهل بيتي يتبرأ منهما، ولا يقول فيهما إلا خيراً) وبصرف النظر عن هذه الواقعة التي كانت عبارة عن خدعة للفتنة، لكن كان رده بليغاً وكما نقول دائماً إن مدرسة آل البيت عليهم السلام، كانت تنبذ الفتن والتي هي في عصرنا الحالي “مرض الطائفية”، لكن خلاصة القول في هذه الفترة أن الأوضاع كانت صعبة على الإمام جعفر الصادق عليه السلام، حيث ترتب عليها التضييق عليه وعلى رواية الحديث عنه وبالتالي قلة الأحاديث الصحيحة عنه.
أما في العصر العباسي، حرّك العباسيون العواطف بقوّة، وحاولوا إقناع الناس بأن الهدف من دعوتهم هو الانتصار لأهل البيت، الذين تعرّضوا للظلم، والاضطهاد، ونجح العباسيون إلى حد ما لأن الناس حينها ملت الاقتتال والفتن والثورات، وكانوا يترقبون ظهور الحق على يد أهل بين النبوة، وكنا قد أشرنا في بداية نشوء الدولة العباسية في الجزء الأول عن الثورات والفتوحات والمعارك قبيل الاستقرار، فلم تكن بداية خلافتهم معبدة بالورود، وبالتالي التزم الإمام الصادق بالمستجدات السياسية ووقف منها موقف الحياد، لكنه واصل العمل في نهجه السابق وأخذ يتحرك بقوة ويوسع من دائرة الأفراد الصالحين تحقيقاً لهدفه وهو بناء الإنسان، هذا البناء أيها الأخوة هو أساس نهضة أي أمة، من يزرع يحصد، من يؤمن بأن الإنسان كائن مؤمن تستطيع أن تبني منه مشروعاً حياً لا ينضب إلى نهاية الرحلة، لذلك أشدد دوماً على ان بناء الإنسان لأهم بآلاف المرات من كنز الذهب والفضة، لأهم من السياسة وتشعباتها، والبناء بالعلم والدين والتقوى والمحبة.
وبعد أن تولى أبو جعفر المنصور الحكم خلفاً لأخيه أبي العباس السفاح علم 136 هـ، بالغ بالتضييق على الإمام جعفر بن محمد الصادق، فمثلاً استقدم العلماء ليغطوا على علمه، لإضعاف الانجذاب الجماهيري نحوه، لكن الصادق بقي على حياده، ومكملاً في نهجه، وهذا يبين لنا أنه ما كان يخشى إلا الله تبارك وتعالى وكان ضد السلاح بل بناء المجتمعات كما أشرنا أعلاه لا بد أن يخرج من المجتمع نفسه وذلك بالعلم والإيمان لأنهما كفيلان بالقضاء على الجهل، لنتأمل هذه الحكمة وهذا التفكير “أفلا تتدبرون”، سبحان الله جل جلاله، بين الحرب والسلام يقف رجل إما يأخذ شعبه إلى التهلكة، أو ينقلهم إلى بر الأمان، وعندما يكون الإنسان مصمم على تحقيق هدفه لا يقف شيء عائقاً أمامه.
لكن من بعد كل هذا السواد لا بد للإشراق أن يبرز، ولا بد للنور أن يسطع، رغم كل هذا المشهد السياسي والعواصف السياسية لم تقف عائقاً كما أشرنا، أمام الإمام الصادق، فلقد كان عصره من أزهى العصور الإسلامية من الناحية العلمية، حيث ظهر جل أئمة الفقه، والتفسير، والحديث، والكلام، وغيرها، من العلوم الإسلامية التي أخذت في الازدهار في عهد الدولة الأموية لكنها حققت المجد في عهد الدولة العباسية، ففي العهد الأول لم يكن هناك انفتاحاً على حضارات أخرى، بعكس العهد العباسي الذين انفتحوا على الشعوب الأخرى، وازدهرت حركة الترجمة، فتمت ترجمة الكثير من الكتب والثقافات، وتم افتتاح مدارس ومراصد وأنشأ الخليفة المأمون دار الحكمة، وكان العلماء مقربين من الولاة، وقد اغتنم الإمام الصادق تلك الفرصة العظيمة، وحركة الازدهار، وأسس مدرسة علمية وليس من المبالغة أن تسميتها الحقيقية بوزن جامعة إسلامية، خلفت ثروة علمية، وخرجت عدداً وافراً من رجال العلم، وأنجبت خيرة المفكرين وصفوة الفلاسفة، وهذا ليس غريباً عمن نشأ في مهد العلم في بيت النبوة، حيث شرب العلوم الإسلامية وعلوم القرآن والسنة والعقيدة وكل العلوم الأخرى، كدراسة الكون ،وأسراره، وعلوم الفلك، الإمام الصادق، درس السماء والأرض، والإنسان وشرائع الأديان.
لقد اعتبره الإمام أبو حنيفة النعمان أستاذه في الفقه، وهنا لا بد من التنبيه مجدداً، على مسألة قول : (لولا السنتان لهلك النعمان، وهذا القول غير موثق في أيٍّ من كتب أبي حنيفة النعمان، الي كان منشغلاً بعلومه بين البصرة والكوفة وبغداد)، وقد كان من مظاهر سعة علمه أن أخذ من علومه أربعة آلاف من الرواة وبدورهم نشروا هذه العلوم ومعالم الدين وأحكام الشريعة الإسلامية، وأول ما عني به عليه السلام كان تفسير القرآن الكريم، واهتم الإمام جعفر الصادق باحاديث جده المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم، اهتماماً كبيراً بعد أن كثر الكذب والوضع عليه، وعلى الرغم إمن كثرة الرواة والتلاميذ، عن الإمام جعفر، إلا أن مروياته التي نقلت في كتب أهل الحديث والأثر المعتمدة ليست بالكثيرة، يقول ابن حيان عن الإمام عليه السلام في كتابه “الثقات”: (كان من سادات أهل البيت فقهاً وعلماً وفضلاً).
إذ أن مسألة الرواية عن أهل البيت عليهم السلام، هي سهلة جداً لأن منهج أهل البيت هو منهج سيدنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ومنهج القرآن الكريم وبالتالي المتقدمين الذين رووا في القرنين الثاني والثالث للهجرة لأهل البيت، وهم الأوثق، وأما المتأخرين من الفرق الإسلامية الأخرى، بدأوا التدوين في نهاية القرن الخامس الهجري، لكن من باب الإنصاف أن أهل مدرسة الحديث والأثر في صحاحهم ذكروا مرويات لآل البيت، كالإمام الباقر وأبيه علي وجدهم الحسين والحسن، ولأمهم وأبيهم عليهم السلام، لكن مسألة الرواية بشكل عام موضوع شابه شيء من الغلو، لكن الروايات بطبيعة الحال موجودة في الكتب المعتمدة الصحاح لدى الثقات كما أشرنا أعلاه، وقد رووا في غير ذي باب كما ذكرنا آنفاً في العبادات والمعاملات والعقائد، وغير ذلك، وبالتالي إن الإمام جعفر بن محمد بن علي بن الحسين، فقد روي له في كتب مدرسة أهل الحديث والأثر أجمعها، ما عدا الإمام البخاري، الذي روى معلقة واحدة فقط، كحال الإمام الشافعي وأحمد بن حنبل، لأن الإمام الشافعي شرطه في الكتابة غير شروط الأئمة الآخرين، حيث كان يهتم بعلوّ السند، بغير النظر إلى من روى، لإنشغاله بالعلو والأسانيد المتصلة، التي لا تشوبها علّة.
وبالتالي كما أشرت إن مسألة الرواية عن الإمام الصادق مسألة جدلية، لكنها لا تعني أن الرواية عنه غائبة كلياً، والرواية عنه موجودة، واهتم بها الأوائل ويكفي أن أهل مدرسة الحديث والأثر قد رووا عنه وعن طريقه مما حصلوه من أحاديث، لأن واحداً على سبيل المثال من الأسباب التي جعلت الإمام البخاري يعرض عن الرواية عن الإمام جعفر بن محمد الصادق أن هلم يسمع طريقاً صافياً نقياً إليه، بينما الإمام مسلم وغيره كانوا قد التقوا بأناسٍ صلحاء وثقات رووا عنه وكان الطريق عبر ابن جريج و سفيان الثوري وهما إمامين جليلين من مدرسة أهل الحديث والأثر.
وبالتالي، إن الغالبية العظمى من أسانيد الإمام جعفر الصادق صحيحة، والرواة عنه معظمهم من الثقات، وقد بلغت أحاديث الإمام الصحيحة الموثقة لدى علماء أهل الحديث والأثر، 206 حديث وذلك لأن الغاية تنقية تراثه من المكذوب عليه، فهو مذهب فقهي متكامل ومن أقدم المذاهب الفقيهة، قال تبارك وتعالى: (فوجدا عبداً من عبادنا آتيناه رحمةً من عندنا وعلّمناه من لدنّا علماً).
والإمام جعفر الصادق غصنٌ من دوحة النبوة المباركة نبت نباتاً حسناً في حديقة الصدّيق أبي بكر العطرة، جمع عليه السلام بين شرف النسب المصفّى من جهة الأب حفيد علي، والنسب المعتَّق من جانب الأمّ سليلة “عتيق” (أبو بكر الصديق)، إذ كانت العلاقات وثيقة أكيدة بين بيت النبوة وبيت الصديق لا يتصور معها التباعد والاختلاف، قال تبارك وتعالى: (وإن أوهن البيوت لبيت العنكبوت لو كانوا يعلمون)، وحفيدة أبو بكر الصديق كانت متزوجة من محمد الباقر الإمام الخامس وحفيد علي كما يذكر الكليني في أصوله تحت عنوان “مولد الجعفر”، وهو والد جعفر الصادق أمه فروة بنت القاسم بن محمد بن أبي بكر وأمها أسماء بنت عبد الرحمن بن أبي بكر، ولهذا كان الصادق عليه السلام يقول: ولدني أبو بكر مرتين.
توفي الإمام جعفر الصادق 148 للهجرة في المدينة المنورة، لكن بما يتعلق بأسباب الوفاة التي ذهب البعض فيها إلى قصص وروايات لم تثبت تاريخياً ولست في معرض الخوض فيها، لكن القول إنه توفي مسموماً من قبل الخليفة العباسي، أبو جعفر المنصور، لا يوجد إثبات أو دليل علمي لا في أي مصدر من مصادر التراث الإسلامي لمن لديه ادنى علم من علوم الجرح والتعديل وعلمي الرواية والدراية وعلى معرفة بالأسانيد، يعرف أن مثل هذه الروايات لا تصح سنداً ولا متناً ولا تأريخاً، وهذا الكلام كله مختلق من قبل بعض الرواة والمؤرخين (الشعوبين) الحاقدين على الإسلام وعلى بني العباس، وآل بيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وذلك من خلال استخدام مظلومية أهل البيت عليهم السلام، مطية لتحقيق مكاسب سياسية باتت معروفة، فالثابت أنه توفي وفاة طبيعية
في مسيرة جعفر الصادق كان رجل علم وتزكية وإصلاح، وهو ما ساهم في جعله مرجعية علمية في عصره، كما يفسر محاربته للغلوّ والغلاة الذين اتهمهم بوضع الحديث عليه وعلى علماء وأئمة آل البيت عموماً. ويبقى السبق للإمام الصادق في كافة هذه العلوم بحيث كان المنارة التي شعت منذ النصف الأول من القرن الثاني الهجري لتذكي فتيل النهضة العلمية في القرنين التاسع عشر والعشرين، ولتلفت أنظار علماء الغرب إلى ذلك العبقري الفريد الذي تمتع بنبوغ متميز لم يسبقه سابق قبله بألف عام ولم يلحقه لاحق بعده خلال ألف عام، ذلك هو الإمام جعفر بن محمد الصادق عليه السلام.
عبدالعزيز بن بدر القطان /كاتب ومفكر – الكويت.