اعتاد المسلمون وخلال مسيرة الدعوة الإسلامية منذ انبثاقها بشخصية سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ، أن يواجهوا في طريق دعوتهم عقبات ، وهذا أمر عانت منه النخب الدعوية في كل العصور التي عاشتها ، وهي سنة إلهية في تهيأة وإعداد الدعاة إعدادا ناجحا وفي ذات الوقت تمحيص ليميز الله تعالى أصحاب الأنفس الأبية النقية من أصحاب الأنفس المريضة الطامحة لتحقيق مآرب أخرى .
وكما كان للغلو آثار ترتب عليها تحزب أصحابها ، كان لما سواه من المشاكسات على شاكلته أو بشاكلة أخرى أثرها في تقوقع أصحابها .
وهكذا يكون للعقبات أثر في تلكؤ المسيرة أحيانا ، وفي بعض الأحيان تأخير لها عن تحقيق تطلعاتها ، ولكن ومع تقادم الزمان تحولت تلك العقبات إلى صخور صماء وعتبات كؤود ، تشل حركة المسلمين ، وتضعف من تماسكهم ، لا سيما تلك الخلافات الناشئة عن الغلو الممقوت ، والصراعات الناشبة من جراء التنافس المحموم على التصدر والظهور ، حتى صار البعض يسمي خلافياته حقوقا ، ومنهم من يسميها مباديء ، ومنهم من تعصب إلى الحد الذي عدها خطوطا حمراء فتخندق ضد أهله وبني جلدته ، متحزبا وإن لم يكن أطلق على نفسه ذلك ، ومتعصبا فئويا وإن لم يتبن تأسيس فئة بالعلن ، فضلا عمن تفاخر بتصنيفه إلى حزب أو فئة .
إن الحدود المصطنعة ، أو كما يصطلح عليها أصحابها بالخطوط الحمراء .
وأعني بها المباديء التي قامت على أساسها الأحزاب والجماعات ، فبصرف النظر عن مشرعية التحزب من عدمها ، فهي محل خلاف بين العلماء بين مؤيد ومعارض . ولها – أي الأحزاب – إيجابيات وسلبيات ، وهذا الأمر من الناحية السياسية والتنظيمية لا يعنينا ، الذي نوليه عنايتنا هو زجها لنفسها في واقع الحياة الإسلامية على أنها الممثل الشرعي الذي يمثل التوجه الصحيح لنهضة الأمة . هذه السلبية فضلا عن تطفلها على مباديء الشريعة الإسلامية وعلمائها ، فهي في الوقت نفسه قد أفرزت بدورها جيلا يحمل في عقليته ثلاث مشكلات :
الأولى : الجيل الخائف من الردة عن الإسلام في حال خروجه عن إرادة حزبه بالنقد لسياسات ذلك الحزب لأن سلوك الفرد هذا في نظر حزبه خيانة للحزب الذي يعد الممثل الشرعي الوحيد للأمة فبالتالي تعد خيانة عظمى للأمة .
الثانية : الجيل نفسه يتصف بالإزدواجية فهو بعد ولائه للحزب أشرب مواد نظامه الداخلي والتي فيها فقرات ( الرأي والرأي الآخر أو النقد الذاتي أو النقد البناء ) ولكنها فقرات ليست قابلة للتطبيق على الواقع داخل أروقة حزبه ما يجعله – أي الفرد – يعتقد بأن الازدواجية مقبولة للمصلحة ، فيكتسي الفتى بثوب التلون لكل مرحلة أو مقام تحت عنوان المصلحة. فتراه حينا مستقيما وحينا يروغ روغان الثعلب .
الثالثة : الجيل نفسه متحسس من مجتمعه الرافض لفكرة حزبه ومشحون على الدوام للتصدي للمخالفين لأن عقليته بنيت داخل الحزب أو الجماعة على تصور أن روح القدس مع قادته .
ونحن أمام هذه الإشكاليات نرى أن تكون الأحزاب صريحة في أهدافها وأن لا يتداخل عملها مع صنعة الأئمة المفتين والمجتهدين وأن تتجرد من الاستعلائية على مصادر العلم والفتوى وتعترف بأنها واجهة سياسية إسلامية ولا تمثل مجمعا علميا شرعيا فقهيا فتوويا ، ( قل كل يعمل على شاكلته ) .
ومع مرور الوقت نلاحظ تشتت أفكار النشء المسلم الذي ينشأ في ظل هذه التناقضات ، وفي مرحلة هي من أخطر مراحل نموه كإنسان ، وأخطرها من حيث استهداف الدعوات التغريبية لأجيالنا الواعدة الصاعدة ، فلا بد من وقفة شجاعة تحمل كل معاني النبل والمصداقية لإنقاذ شبابنا من التيه الفكري الذي تشتتوا في بيدائه الفسيحة الملئا بالوحوش والضواري .
إن الطيش الحاصل في مؤشر البوصلة عندنا سببه غياب الرصانة والمتانة في الجانب الأصولي ، فقد يكون لدى بعضنا شيئا منها ولكنها ليست بالمستوى المطلوب وقد يكون فينا من يحملها على الوجه الأتم ولكنه غير مسموع الكلمة وسط هذه الفوضى العارمة .
حالنا هذه جعلتنا نفقد السيطرة على أوجه الخلاف في القضايا الشرعية الخلافية حتى انعدم عندنا التأطير ، فلم نجعل القضايا الخلافية ضمن أطرها المناسبة لها وفق القوانين والقواعد الأصولية ، هذا بدوره أحدث فوضى في باب تشخيص العلل لدى الأفراد حتى صرنا لا نميز بين : المعذور بالجهل ممن لاعذر له به !! والمتأول المعذور بتأويله ممن لا يقبل التأويل منه ولا يعذر به !! ومن هو المجتهد الذي إن أخطأ فله أجر ولا يتبع فيما أخطأ به ، ومن لا يحق له الاجتهاد أخطأ أم أصاب !! وبين الفعل الذي يعد بدعة من الفعل الذي يعامل صاحبه على قدر نيته !! وبين الأحكام التي تعتقد ولا تطلق والأحكام التي تعتقد وتطلق !! وأي الأحكام يعتقد ولا يطلق لأن في إطلاقه مفسدة ، وأيها يكون في عدم إطلاقه والسكوت عنه مفسدة !!
وكل هذا كلن له انعكاساته المدمرة على الجيل الحالي الذي يعاني ما يعاني من الضياع ، فالله الله ، بالأمة يا علماء الأمة وحكامها ، فهذا تيه حقيقي لا خلاص للأمة منه إلا بتعظيم مكانة القرآن العظيم والسنة النبوية المطهرة وسنة الخلفاء الراشدين البررة ، واتباع الأئمة الأربعة أصحاب المذاهب المعتبرة ، والتخلق بأخلاق كبار أمتنا أصحاب القرون المفضلة بالخيرية ومن نهج نهجهم من صالحي القرون البقية الذين سعوا في الحفاظ على لحمة الأمة ووحدة أبناءها ، وترفعوا عن النزول لرغبات من يبتغي سفاسف الأمور ومصادر التشغيب والعبث .
التوقيع
السيد أنس صلاح السامرائي
بغداد 20 / ذو القعدة / 1443
الموافق 19 / يونيو حزيران / 2022