إن حالة الجمود والتخلف التي اعترت العالمين العربي والإسلامي، استوجب فكر صحوي ونهضوي من منطلق ديني ينهض بالأمة قبل أن تغرق، خاصة وأن الاستعمار نهش إلى درجة كبيرة في جسد هذه الأمة محاولاً طمس معالم الإسلام ومحاربته لإضعاف شوكته، لتكون الصحوة الكبيرة من المنطلق الديني والعقائدي هي المقاومة الحقيقية مع بداية العصر الحديث.
إن حال الجمود والتخلف الذي لحق بالأمة الإسلامية بسبب “الاستعمار والانتداب والاحتلال”، أخرج من رحمها من ألهمهم الله تبارك وتعالى فكر التجديد والنهوض بالأمة والإصلاح والتعليم، ومعاداة التقليد أمثال الإمام جمال الدين الأفغاني والإمام محمد عبده رائدي التجديد، وكان للإمام محمد عبده الدور البارز في تشخيص الداء وكشف الدواء في كتاباته وأهمها رسالة التوحيد، من خلال طرح الإشكالية ووضع الحلول بما يضمن النهوض بأمة قوية مجدداً، وذلك من خلال الظروف التي حاجته لأن يكون العقل الجمعي هو الغالب على الفردي بتقوى الله تبارك وتعالى وخدمة للبشرية والإنسانية معاً، إذ أن القراءة الجديدة للخطاب الديني كانت خاضعة للظروف السياسية والتاريخية التي رافقت مراحل التطور الإسلامي، ودون الغوص في هذه التحولات، لكنها كانت أحد أهم العوامل التي أيقظت الكثير من علماء الإسلام في وضع رؤية إصلاحية متبصرة للنهوض مجدداً في هذه الأمة.
إن تداخل المفاهيم في فهم الخطاب الديني بات يتطلب نقله نوعية شهدها الفكر الإسلامي، ولعل محاولة الإمام محمد عبده في كتابه “رسالة التوحيد” هي إحدى أبرز هذه المحاولات في إعطاء رؤية جديدة للخطاب الديني مع بدايات العصر الحديث، الإمام وكما يعلم الجميه هو رائد التجديد والإصلاح ومن الممكن القول كان ثائراً على الجمود والتقليد الذي نسميه في أيامنا هذه بـ “الروتين”، وبحسب نظرته الإصلاحية كان لا بد من فهم الدين فهماً صحيحاً للنهوض بالأمة على أحسن صورة وأكملها، وكما أشرنا في مقدمة المقال أن هناك ظروفاً تاريخية لعبت دوراً بارزاً في تفجر الفكر الصحوي، إذ تعتبر المرحلة التاريخية التي عاشها العالم الإسلامي في أواخر القرن التاسع عشر مرحلة مبينة لواقع الأمة الإسلامية المزري، بسبب الجهل والتخلف والتفكك الداخلي، خاصة مع مجيء الاستعمار الذي نهش الأمة وسرق مقدراتها ونهبها، فكانت التركة على الإمام محمد عبده وأقرانه ثقيلة من تخبطٍ عقدي، وجمود فقهي، وتعصب مذهبي، وتأخر علمي وتربوي، وكسادٍ اقتصادي، وفسادٍ واستبدادٍ سياسي، واحتلال أجنبي لكثير من الأقاليم، وعاشوا هم أنفسُهم أحداثاً تاريخية عصيبةً وداميةً يمكن أن نصفها بأنها أحداثٌ استراتيجية ارتهنت لحسابها، بشكلٍ أو بآخر، مجمل أوضاع الأمة الإسلامية منذ ذلك التاريخ حتى أيامنا هذه.
لقد شهدوا كيف تخلخلت وتهاوت، بفعل العوامل الداخلية والخارجية على حدٍ سواء، مقومات وأركان، وبنيان دولة الإسلام في ذلك الوقت، وما أدى إليه ذلك السقوط من دويٍّ هائل هزَّ أركان المجتمعات الإسلامية، الأمر الذي أدَّى إلى فتح الباب على مصراعيه للقوى الأوروبية لاستكمال ما بدأوا به من قضمٍ، واستتباعٍ، واحتلالٍ لِما تبقى من أجزاء العالم الإسلامي آنذاك، إزاء هذه التركة التاريخية، والتحولات الخطيرة، شمّر عددٌ من رجال الإصلاح عن سواعد الجدِّ، وخاضوا بكل ما يستطيعون من قوةٍ، كلٌ حسب رؤيته وظروفه ومرجعيته، معركةَ إصلاح أحوال الأمة وإنهاضها، وتجديدها من داخلها، لكي تستطيع بسواعد أبنائها وجهودهم المخلصة أن تستعيد روحها الإسلامية الحقَّة، وشخصيتها الحضارية الفذَّة، وتمتلك من جديد القدرة على الفعل التاريخي، ولكي تتمكن في نهاية الأمر من دفع الاحتلال الأجنبي عن أراضيها، وتحقيق استقلالها، وسيادتها الفعلية الناجزة على كل الصُعُد والمستويات في حياتها، وتعود من جديد إلى مسرح التاريخ لتستأنف دورها الإنساني، والحضاري المتميِّز على مستوى العالم بأسره.
من هنا، كان الإمام محمد عبده مع غيره من علماء العصر المتصدين لهذه الحالة، ليتم جمع المسلمين واستعادة مجدهم من خلال الإصلاح، وتحديداً إصلاح العقيدة وتقديمها بطريقة عقلية بعيدة عن الخلاف بغية تحقيق وحدة الأمة بعيداً عن الأمور التي فرقت المسلمين وجعلت العدو ينال منهم، وبالتالي اقتنع الإمام بضرورة الإصلاح الديني وأن يكون مقدماً على الإصلاح السياسي، وإعطاء فهم جديد للمعارف العقدية وذلك عبر بناء وعي سلوك الأمة من خلال التربية والتعليم، وكتاب رسالة التوحيد أساساً هو عبارة عن دروس دينية ألقاها الإمام على طلبة مدرسة السلطانية في بيروت عام 1885، بعد إبعاده عن مصر، وعندا شعر بحاجة تجميعها عمل على تنقيتها وإعادة صياغتها وإبصارها النور وإخراجها إلى الطباعة العام 1897، هذا الكتاب استفاض به الإمام في الإلهيات بمنهج عقلي تجديدي، يقول الإمام عبده: (يقسمون المعلوم إلى ثلاثة أقسام ممكن بذاته وواجب لذاته ومستحيل لذاته، ويعرفون المستحيل بما عدم لذاته من حيث هي، وأما الواجب فهو ما كان وجوده لذاته من حيث هي، والممكن ما لا وجود له ولا عدم من ذاته، وإنما يوجد لموجد، ويعدم لعدم سبب وجوده)، وبالتالي من هنا يتجلى المنهج العقلي للإمام رافضاً التقليد، لأن الغرض هو معرفة الله تبارك وتعالى بالدليل لا باعتماد التقليد.
الإمام عبده سلك مسلكان في بيان حاجة البشر إلى الرسالة والرسل، من الاعتقاد ببقاء النفس البشرية بعد الموت وأن لها حياة أخرى، وطبيعة الإنسان وتنظيم حياته بما نعرفه بموضوع المقاصد في تنظيم دنيا الناس، فالرحمة الإلهية هنا جاءت والناس في أمسّ الحاجة لمن ينير دربهم وطريقهم ويهديهم إلى طريق الحق، وهذا تحقق مع مجيء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، لكن مما يبدو أن العامل الإنساني كان مهماً جداً في فكر الإمام، حيث اهتم به اهتماماً مباشراً، من خلال تبيانه لقيمة العقل واعتباره الوسيلة للوصول إلى الحقائق، والإنسان هو حامل العقل وهو أساسه، قال الإمام: (فمما شرف الإنسان امتلاكه لهذا العقل الذي يحصل به التأمل والتدبر، فاستقلت إرادته وتحرر فكره، فكملت إنسانيته، وبهما استعد لأن يبلغ من السعادة ما هيأ الله له بحكم الفطرة التي فطر عليها)، هذا ما قاله الدكتور محمد عمارة في تقديم رسالة التوحيد: (فإذا كان العقل بنظر الإسلام وبعبارات الأستاذ الإمام هو أفضل القوى الإنسانية على الحقيقة فإن العقلانية الإسلامية كما تجسدها فصول هذه الرسالة تهيئ للإنسان المسلم بمقتضى دينه أمرين عظيمين، طالما حرم منهما، وهما استقلال الإرادة واستقلال الرأي والفكر)، وفي ذلك إشارة على الاهتمام بالعقل وإعطاء دفع تنويري يحرر الإنسان من غياهب الجمود والتقليد إلى النهوض بالأمة من خلال تصحيح عقيدتها والتفاف العقل والدين لدفع خطى الأمة على درب تحررها العقلي وتقدمها الحضاري نحو الأمام.
من هنا، لقد استطاع الإمام إدخال مفاهيم جديدة من خلال نظرته الإصلاحية التجديدية حيث أبرز العديد من القضايا بقالب تجديدي وفق مقتضيات المرحلة ودفاعه عن عقيدة التوحيد هي إثبات أن الدين الإسلامي دين توحيد في العقائد لا دين تفريق في القواعد، فلقد استطاع النهوض بالدين تجسد بالإيمان الكبير بالإنسان وقدرته على النهوض بالأمة لتستوعب مكتسبات التقدم واللحاق بالتطور فكان طرحه نابعاً بدافع الخير وبالتالي إن سياق رسالته هو سياق الإصلاح والدعوة الإصلاحية بنظرة تخدم العقل وتزيد من قيمته.
د. عبدالعزيز بن بدر القطان