استكمالاً لسلسلة مقالات التوحيد، ولفهم طبيعة هذا العلم المستقل والذي هو أساس الدين والدعامة الرئيسية التي أرست العقيدة الإسلامية وتعاليمها في أفضل صورة، ومن أحد أسس التوحيد، علم الكلام الذي يمثل لبنة من لبنات الثقافة الإسلامية وثمرة اجتهادات العقل الإسلامي، التي امتازت واشتهرت بها الحضارة الإسلامية، كما أشرنا في الموضوع السابق، وذلك في بناء صرحها المعرفي والفكري والعقدي، والذي تحدد نشأته في القرن الثاني للهجرة، على الرغم من أن المشكلات الدينية كانت قد ظهرت قبل ذلك التاريخ بنصف قرن من الزمان.
قبل أن يبزغ علم الكلام النور كانت مباحثه مندرجة في مباحث الفقه، وكان الباحث في الدين آنذاك يسمى فقيهاً، ثم خص البحث في العقائد باسم “الفقه الأكبر” (وهو كتاب في العقيدة الإسلامية، ويعد هذا الكتاب أصلاً من أصول علم الكلام، وقد اعتمده وشرحه فيما بعد علماء المذهب الماتريدي ومنهم الإمام أبو منصور الماتريدي) من قبل الإمام أبي حنيفة النعمان (80 هـ – 150 هـ)، ويعتبر علم الكلام علم أصلي نشأ في البيئة الإسلامية العربية، اختص بإثبات مبادئ العقيدة الإسلامية، وإبطال أدلة خصومها، ما جعل كثيرون يرون فيه مكملاً للفقه وقريناً له، إذ ان المتكلم يعمل بالإثبات العقلي للأصول الشرعية التي يستنبط منها الفقيه أحكامه وفتاويه.
لقد ظهرت تسمية علم الكلام في العصر العباسي، في عهد الخليفة المأمون، وبحسب المؤرخين والعلماء أن هذه التسمية جاءت لأن شيوخ المعتزلة طالعوا كتب الفلسفة حيت تم تفسيرها في زمن المأمون، فخلطت مناهجها بمناهج الكلام، وبالتالي جاءت التسمية إما لأن أظهر مسألة تكلموا فيها، وتجادلوا عليها هي مسألة الكلام، وإما لمقابلتهم الفلاسفة الذين اعتبروها فناً من فنون علمهم بالمنطق، بينما رأت فئة أخرى أن التسمية أوعزت إلى القدرة التي يورثها علم الكلام في الشرعيات وعلى الخصم، وما بينهما المرجح يكون بسبب ما اكتساه موضوع الكلام الإلهي من الاهتمام إلى درجة أنه أصبح الموضوع الأول للعلم، ولون الكلام من أكثر الصفات المتنازع عليها، ومن مسميات علم الكلام، أصول الدين وعلم النظر والاستدلال، أي ما يشمل من أصول الدين والإيمان بالله تبارك وتعالى ووحدانيته، وصفاته وأفعاله والإيمان بالوحي والرسل والبعث، والثواب والعقاب في الآخرة.
ويعرف ابن خلدون، علم الكلام بأنه: (علم يتضمن الحجاج عن العقائد الإيمانية بالأدلة العقلية، والرد على المبتدعة المنحرفين في الاعتقادات عن مذاهب السلف وأهل السنة، وسر العقائد الإيمانية هو التوحيد)، وعليه ومن منطلق هذا التعريف إن الغاية الأساسية لعلم الكلام هي الدفاع عن العقيدة بالحجج العقلية والحفاظ عليها من أهل البدع، وبالتالي إن مهمة علم الكلام الأساسية هي بحث ودراسة مسائل العقيدة الإسلامية بإيراد الأدلة وعرض الحجج على إثباتها، ومناقشة الأقوال والآراء المخالفة لها، ومحاكمة أدلتها بإثبات بطلانها، مع نقد الشبهات التي تُثار حولها ودفعها بالحجة والبرهان، ومن هذه الشرح يصبح التوحيد هو لب علم الكلام، ويعتبر علم الكلام هو علم نظري وعملي معاً.
من الناحية النظرية: يتيح علم الكلام للإنسان معرفة الحجج العقلية لتأكيد عقائده الدينية، فيقدم دعائم هذه العقائد من الناحية العقلية، كذلك يدافع عن تصوره الخاص ضد التصورات الدينية الأخرى ومن هذا الجانب تتجلى فائدته العلمية.
منهج علم الكلام
يعتمد علم الكلام على منهج المناظرة الجدلي الجامع بين أصول النقل ومبادئ العقل، والذي يتحدث فيه أو يناظر يجب أن يتوافر فيه شروط معينة، أن يكون معتقداً بما ورد بالكتاب والسنة ومسلّماً بهما، وأن يكون ناظراً لأصول العقيدة عبر سلوك سبيل الاستدلال والإقناع، وأن يكون له القدرة على قيادة الحوار، إذ أن المقدمات الأولية الكلامية هي مقدمات يقينية مصدرها الإيمان نصاً وشرعاً، من هنا تكون فائدة هذا العلم، تكون بالصنعة الكلامية التي تقوم على المناظرة العقدية لحفظ الأحكام الإيمانية كالدفاع عن العقيدة الإسلامية في وجه أصحاب الديانات الأخرى كاليهودية والمسيحية، وذلك عن طريق إيراد الأدلة العقلية والرد على الشبهات كما ذكرنا أعلاه، وبهذا كان لعلم الكلام دوراً إيجابياً في إثبات صحة العقيدة بالعقل ضد الخصوم المنكرين لها، بالأدلة والحجج، وبالطبع إبطال الشبهات التي أثيرت حول قواعد العقائد، وبالتالي، ينتفع بهذا العلم كل من يخوض في علم اللغة وعلم الفقه وعلم الأصول، إلى جانب أنه علم مقصدي، إذ يشتمل على مقدمات عقدية، أما عن أسباب ظهوره فتباينت بين مقتضيات داخلية وأخرى خارجية:
العوامل الداخلية
السبب الرئيس لظهور هذا العلم هو القرآن الكريم، قال تبارك وتعالى: (لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا)، إذ تدل هذه الآية على الحجة بأنه واحد لا شريك له، وبالتالي إن المتكلمين في توحيد الله يرجع إلى الآيات القرآنية، وكذلك سائر الكلام في تفصيل فروع التوحيد والعدل المأخوذ أيضاً من القرآن الكريم، ما يعني أن النص القرآني هو المرجع الأساسي الذي استقى منه المتكلمون المعارف الكلامية والمنهج الكلامي، لأن القرآن يحوي آيات محكمات يسهل فهمها، وأخرى متشابهات يلتبس معناها على القارئ، وعليه يكون علم الكلام وجد منطلقاً له من القرآن الكريم منهاجاً وموضوعاً، ففي كتاب الله آيات كثيرة تحث المسلمون على النظر في ملكوت السماء والأرض وأن يتفكروا ويتدبروا في كل ما هو موجود ليدركوا حقيقة موجود واحد مطلق ولا متناهٍ، يقول الله تبارك وتعالى في محكم كتابه العزيز: (إن في ذلك لأية لقومٍ يتفكرون)، ويقول تعالى: (إن في ذلك لآياتٍ لقومٍ يعقلون).
العوامل الخارجية
تمثل المقتضى الخارجي في ظهور أنساق عقدية دعت الضرورة إلى مواجهتها، كالنسق العقدي اليهودي والنصراني والصابئي، وانتشار الفلسفات اليونانية وغيرها في المجال التداولي الإسلامي العربي، فضلاً عن التأثر الأجنبي من خلال الثقافات الوافدة، التي استطاعت أن تترسب إلى بعض فئات المجتمع الإسلامي الأمر الذي أثار بعض المشاكل في الدين، مما استلزم الرد عليهم من جانب المتكلمين حفاظاً ودفاعاً عن الدين الإسلامي، وعلى سبيل المثال من أسلم من الديانات والثقافات الأخرى أصبحوا يفكرون في الحقائق الإسلامية من منطلق معتقداتهم القديمة مما خلق حالة صراع فكري وعقدي بين المسلمين وبين أصحاب الديانات الأخرى، مما كان عاملاً حاسماً في نشأة وتحديد جملة من الموضوعات في علم الكلام، ومثال على ذلك ما حدث بين الديانتين الإسلامية واليهودية في مسألة نسخ الشرائع وعصمة الأنبياء، إذ أن اليهود ينكرون النسخ، بينما الإسلام يقره، واليهود ينسبون الكبائر والرذائل بينما المسلمون يوجبون عصمتهم لأنهم محميين عن المعاصي من الله تبارك وتعالى، وعليه كانت الحاجة في التصدي للتيارات العاتية ومقاومتها مثل المزدكية والمانوية والزرادشية وغيرهم، والرد عليهم، إلى جانب الديانات الوضعية الأخرى التي كانت من أهم العوامل على بلورة مواضيع ومناهج الفرق الكلامية الإسلامية.
من هنا، تتوزع مهام علم الكلام ليس في الدفاع عن عقيدة التوحيد فقط، بل تتعداها إلى شرح وتفسير مسائله وتمكين العقول منها، كما أن وجه الحاجة لهذا العلم يكمن في محاربة التقليد، إذ بقي عبر التاريخ يقف مدافعاً عن العقيدة الإسلامية، فإذا أردنا أن ندخل مجال التجديد في العلوم الإسلاميّة، فينبغي أن نعرف أنّ علم الكلام يحظى بأهمية كبيرة نظراً لتقدّمه الرتبي ولموقعه الحسّاس وبالغ الأهمّية في منظومة العلوم الإسلاميّة، ولهذا يرى الكثير من العلماء والباحثين في القرن العشرين أنّ التجديد في الفقه أو في الأصول لا يصحّ بمعزلٍ عن التجديد والبحث في قضايا علم الكلام كافّة، فإنّ الاجتهادات الشرعيّة في علوم الفقه والأصول تنبني على نتائج مباحث علم الكلام.
لكن التطوير هذه المرّة لن يكون بمجرّد نشر هذا العلم، بل نحتاج إلى تغيير جذري يلامس البنيات التحتيّة والمنظومة الكلاميّة، الأمر الذي لن يحصل إلا عن طريق فتح باب الاجتهاد في علم الكلام لتأتي عقولٌ جديدة وتفكّر وتحلّل لتقديم منظومة كلاميّة جديدة تختلف في مسائلها ومناهجها، بحيث تستطيع أن تستوعب جميع الإشكاليّات الحديثة.
د. عبدالعزيز بن بدر القطان