لسنوات طويلة مضت، تزيد على العشر سنوات، عمل بنيامين نتنياهو رئيس ما يسمى بحكومة تسيير الأعمال الإسرائيلية من أجل الترويج لأكذوبة “معادلة أمن جديدة” بين الناخبين الإسرائيليين تقول أنه “بات فى مقدور الإسرائيليين التمتع بالأمن دون تقديم أى تنازلات للفلسطينيين”، وتمادى نتنياهو فى خطابه السياسى الذى يعبر عن قناعات ومعتقدات اليمين الإسرائيلى المتطرف بإعلانه الرفض المطلق لاعتبار إسرائيل دولة احتلال، ورفض أى قول بأن إسرائيل تحتل القدس الشرقية والضفة الغربية، وأكد أن “هذه هى أرض إسرائيل” وأن الحروب ابتداءً من حرب عام 1948 كانت “حروب استقلال لتحرير أرض إسرائيل من العرب المغتصبين” .
وكلل نتنياهو هذا التوجه بإقرار الكنيست الإسرائيلى (البرلمان) لما عُرف بـ “قانون القومية” الذى أكد أن كل الأرض الممتدة من نهر الأردن شرقاً وحتى شواطئ المتوسط غرباً هى أرض إسرائيل التاريخية، وهى ملكية خالصة للشعب اليهودى دون غيره، ما يعنى أن الشعب الفلسطينى تحول وفقاً لهذا القانون إلى مجرد “غرباء” أو مجرد “سكان أجانب” يعيشون فى “الدولة اليهودية”. من هنا بالتحديد بدأ التعامل مع القدس الموحدة “الغربية والشرقية” باعتبارها “العاصمة الأبدية للدولة اليهودية” التى أضحت صلب الخطاب السياسى الإسرائيلى، وبدأ التوجه نحو تسريع ضم معظم أنحاء الضفة الغربية وتهويدها باعتبارها جزءاً من هذه الدولة اليهودية.
التحركات الأخيرة فى حى الشيخ جراح فى القدس الشرقية قرب باب العامود لطرد العائلات الفلسطينية وتدمير بيوتهم تمهيداً لبناء مستوطنة إسرائيلية جديدة كان ضمن هذه المفاهيم، والإصرار الإسرائيلى على الاحتفال بما يسمونه “يوم القدس” الموافق ذكرى السيطرة على المدينة المقدسة فى العاشر من مايو كل عام، فى ذروة المواجهة مع الفلسطينيين المرابطين فى الأقصى احتفالاً بليلة القدر، كان خطوة مهمة لتأكيد الترابط بين السعى للسيطرة الكاملة على القدس الشرقية المحتلة وبين السعى للسيطرة على المسجد الأقصى، باعتبار أن هذه السيطرة هى عنوان النجاح لفرض مشروع الدولة اليهودية، الذى لن يكون له أى معنى، فى عرفهم، دون أن تكون القدس كلها هى عاصمة للدولة اليهودية تلك ودون هدم المسجد الأقصى بعد السيطرة عليه وبناء الهيكل المزعوم مكانه، كشعار ورمز للدولة اليهودية التى يعملون جاهدين على تحويلها من طموح إلى واقع ملموس على الأرض.
هذه القناعات كلها هى التى دفعت نتنياهو إلى الدفع بالجيش وقوات الأمن لتأمين اجتياح المستوطنين للمسجد الأقصى فجر الأحد (10 مايو 2021 – الموافق الثامن والعشرين من رمضان المبارك)، وإلى إعلانه رفض أى ضغوط لمنع إسرائيل من البناء فى القدس. كان هذا يعنى تأكيد العزم على اجتياح حى الشيخ جراح وتفريغه من سكانه وإعلان التحدى السافر ليس فقط للفلسطينيين بل وللعالم كله، بأن الضم والتهويد فى القدس وفى الضفة الغربية قرارات سيادية إسرائيلية باعتبار أن هذه هى “أرض إسرائيل”.
هذه المعادلة الأمنية الجديدة دعمتها مجموعة من المرتكزات؛ أولها، أن السلطة الفلسطينية المنخرطة فى تنسيق أمنى مع سلطات الاحتلال منذ التوقيع على “اتفاق أوسلو عام 1993” باتت أولوياتها المواجهة المتصاعدة مع المعارضة داخل حركة فتح التى عبرت عنها بوضوح شديد معركة الترشيح للانتخابات العامة التى جرى وأدها سريعاً بقرار من رئيس السلطة محمود عباس ، ناهيك عن المنافسة القوية من فصائل المعارضة الأخرى خاصة حركة “حماس” التى ظهرت موحدة ومتأهبة للفوز بالانتخابات التشريعية وبعدها انتخابات الرئاسة الفلسطينية. ثانى هذه المرتكزات أن حركة “حماس” وصلت إلى ذروة المعاناة من الحصار الإسرائيلى المفروض على القطاع ومن تداعيات فيروس كورونا، ولن تكون مستعدة للتورط فى حرب مع إسرائيل وهى تستعد لخوض الانتخابات.
ثالث هذه المرتكزات أن الشعب الفلسطينى داخل الخط الأخضر، أى داخل إسرائيل (فلسطين المحتلة عام 1948)، أضحى أكثر انخراطاً فى معادلة السياسة الإسرائيلية وبات مستعداً للمشاركة فى حكومة إسرائيلية، على حساب هويته وجذوره الفلسطينية.
أما المرتكز الرابع فهو رهان إسرائيل على غياب أى رفض عربى لسياسات التهويد والضم الإسرائيلى فى ظل ما تعانيه معظم الدول العربية من أزمات داخلية باتت تحظى بأولوية الاهتمام على مكانة القضية الفلسطينية، وفى ظل انخراط طرف عربى آخر فى مشروع سلام مع إسرائيل أخذ فى الارتقاء إلى تحالف أمنى لمواجهة ما أضحى يسمى بـ “الخطر الإيرانى” باعتباره مصدر تهديد مشترك لهذه الدول ولدولة الاحتلال الإسرائيلى.
يجئ المرتكز الخامس وهو المرتكز الدولى ليفسح المجال واسعاً أمام نتنياهو للتوسع فى الاستيطان والتهويد فى ظل ما بات يربط إسرائيل من علاقات مصالح قوية مع معظم القوى الدولية سواء كانت روسيا أو الصين ناهيك عن الولايات المتحدة وأوروبا. وهذه كلها لم تعد تجد ما يمنعها من مصالح مع العرب لعدم التمادى فى دعم المشروع الإسرائيلى. كان آخر مؤشرات هذا الدعم أمريكياً عندما امتنعت إدارة الرئيس الأمريكى جو بايدن عن وصف الضفة الغربية والقدس صراحة بـ “الأرض المحتلة” من قبل إسرائيل لتحذو بذلك حذو إدارة الرئيس السابق دونالد ترامب .
وسط كل هذا المشهد الدرامى شديد التعقيد انطلقت صواريخ المقاومة من كافة الفصائل فى قطاع غزة، دفاعاً عن القدس والمسجد الأقصى، لتدك المطارات والمدن الإسرائيلية الكبرى والمرافق الحيوية، ومعها انطلقت مظاهرات المواطنين الفلسطينيين فى كافة المدن الكبرى داخل الخط الأخضر (داخل فلسطين المحتلة عام 1948) واندفع الآلاف منهم نحو القدس دفاعاً عن الأقصى، لتلتقى تظاهراتهم مع تظاهرات وصدامات دامية جرت بين شباب الضفة الغربية وقوات الاحتلال الإسرائيلية لتتوحد فلسطين كلها بانقساماتها الجغرافية مع شعار وحدة الوطن الفلسطينى والدفاع عن القدس عاصمة الدولة الفلسطينية وحماية المسجد الأقصى، بما يتضمنه ذلك من إسقاط لمعادلة الأمن الإسرائيلية الكاذبة التى سعى نتنياهو للترويج لها طيلة السنوات الماضية ليؤسس لواقع جديد ولمعادلة أمن جديدة من شأنها أن “تسقط المعبد على رؤوس الإسرائيليين”.
صحيفة فايننشيال تايمز البريطانية استخلصت هذا المعنى من قراءتها للتحولات الجديدة فى مشهد الصراع الفلسطينى- الإسرائيلى، وهو الاستخلاص الذى يؤكد مصداقية ما سبق أن كشفه أندريه فونتين رئيس التحرير السابق لصحيفة “لوموند” الفرنسية (يهودى الديانة)، عندما كتب أنه “إذا كان الإسرائيليون يمتلكون القنبلة النووية فالفلسطينيون يمتلكون الذاكرة النووية وهنا نجد الاختلال الاستراتيجى لصالح الفلسطينيين”، والذى يكشف خطورة تجاهل نتنياهو والطبقة الحاكمة فى كيان الاحتلال الإسرائيلى للتحذير من “الصعود إلى الهاوية” الذى سبق أن أطلقه المؤرخ الإسرائيلى شلومو صاند مؤلف كتاب “كيف جرى اختراع شعب إسرائيل”.
مازالت المواجهة بين المقاومة وجيش الاحتلال الإسرائيلى الذى يدمر كل شئ فى غزة ويقتل يومياً المئات ويصيب الآلاف من الأطفال والنساء ممتدة بضوء أخطر أمريكى يعطى لإسرائيل “حق الدفاع عن النفس” الذى ينكره على الشعب الفلسطينى صاحب الأرض المحتلة والحقوق المغتصبة، لكن المآلات ستكون ظلامية أمام من يحكمون هذا الكيان حيث ستتصاعد حتماً مطالب محاكمة كل هؤلاء من جانب الإسرائيليين الذين باتو على يقين أن 73 عاماً من احتلال فلسطين ليست كافية لكسر إرادة الشعب الفلسطينى وتمرير الأكاذيب وفرض الأساطير المزيفة، وهذا ما استخلصه كثير من الكتاب الإسرائيليين أمثال جدعون ليفى ونورمان فينكلشتاين الأكاديمى اليهودى المقيم فى الولايات المتحدة.
فإذا كان جدعون ليفى قد توصل إلى مآل واحد ينتظر الإسرائيليين بقوله “وجهتنا يجب أن تكون لأوروبا وعليهم أن يستقبلوننا كلاجئين” فى دعوة مبكرة للرحيل عن فلسطين، فإن فينكلشتاين أعطى للفلسطينيين الحق فى استخدام كل الوسائل للدفاع عن أراضيهم ضد من وصفهم بـ “دولة لصوص الأراضى”. هذه كلها مجرد مقدمات ، لكن الأهم والأخطر لم يأت بعد، كثمن لسقوط تلك المعادلة الأمنية الكاذبة وللتمادى الإسرائيلى فى الصعود بالأحداث إلى الهاوية .
د. محمد السعيد إدريس
جريدة الأهرام 18 / 5 / 2021 م