القاعدة القانونية المتّبعة في عالمنا المعاصر، إنما وضعت على أساس الواقع وحاجته إليها، وانطلاقاً منها، يتحدد ما يجب فعله، أو ما يتعين تركه عبر مسألة تنظيم سلوك الأفراد داخل المجتمع، في زمان معين، والقانون الوضعي مرتبط ارتباطاً وثيقاً بالبشر لا ينظر للوجدان، بل للواقع وللبيّنات المتواجدة والملاحظة فيه. فهدف القانون هو الحفاظ على استقرار المعاملات وعلى النظام، ولا يبتعد في مسعاه هذا عن الواقع، لكن الشريعة تنظر إلى جانب تطبيق القانون، إلى مسألة الأخلاق والتركيز عليها.
من هذه المقدمة، وحاجة واقع اليوم إلى العمل وتضافر الجهود على كافة الأصعدة، خاصة الأوضاع المجتمعية لأن المشاكل والجرائم في أجزاء كبيرة منها هي “آفات مجتمعية” لسنا بصدد تحديد المسؤول عنها، لكن اليوم قد تتوجه أصابع الاتهام إلى أعلى الشخصيات، التي تحاول شراء السلطة الدينية غلى حساب الشعوب وبالتالي هذا مساس مباشر في جوهر الشريعة.
واستكمالاً لشروحات كتاب الشهيد عبد القادر عودة، الذي بذل عناية خاصة به رغم قلة أدواته كما ذكر في مقدمة الكتاب، منطلقاً من الحالتين السياسية والاجتماعية التي كانت تعيشها مصر، وإذا ربطنا القديم بالحديث، نجد أن فروقات كثيرة حدثت، وينّت مئات القوانين الوضعية التي تتماشى مع التطورات الجديدة، لكن هنا إن لم نُبقِ على روح الشريعة، فهذا يعني أن هناك خللاً مجتمعياً، وهنا أنطلق بحكم بلادنا إسلامية، وأشدد على ضرورة تفعيل دور الهيئات الدينية، في جعل الشريعة والقانون الوضعي قانوناً سائداً، جنباً إلى جنب، من خلال الجماع على آراء شرعية لكن تتوافق وطبيعة المجتمعات الحديثة.
كان القانون الجنائي الوضعي حتى آخر القرن الثامن عشر يميز بين الأفراد ولا يعترف بالمساواة بين المحكومين، وكان يميز بينهم في المحاكمة وفي توقيع العقوبة، وتنفيذها، حتى جاءت الثورة الفرنسية، فجعلت المساواة أساساً من الأسس الأولية في القانون، وأصبحت القاعدة أن تسري نصوص القوانين على الجميع، ولكن مبدأ المساواة بالرغم من ذلك لم يطبق تطبيقاً دقيقاً حتى الآن، إذ لم يكن من السهل التخلص من التقاليد القديمة دفعة واحدة وإنكار الماضي كله، فبقيت حالات من التمييز وعدم المساواة اعتبرت استثناءات من مبدأ المساواة التامة، لكن في آخر القرن التاسع عشر والقرن العشرين ،جعلت أغلب المفكرين اليوم يدعون إلى مساواة التامة، ويعملون جاهدين لتحقيقها، وقد تتحقق المساواة التامة قريباً وقد لا تتحقق، ولكنها الأمل الذي تحتاج له القلوب وتتجه إليه الإنسانية، هذا مثلاً يتعلق بالواقع المعاصر بقضية رئيس وزراء حكومة العدو “بنيامين نتنياهو” الذي يستغل موقعه في السلطة والحصانة الممنوحة له في تجاوزه على العقوبات التي قد تطيح به وبمستقبله السياسي، هنا القانون الوضعي لم يفعل فعله بل استطاع واضعو القانون الالتفاف وتجنيب هذا المدعو، المسائلة القانونية حتى يتم تجريده من منصبه، كذلك الحكم الملكي يمنح حصانة تشمل الملك وكل العائلة الملكية، والحكم الجمهوري لا يحاكم رئيس الدولة إلا في حالة الخيانة العظمى، فالدستور الفرنسي يجعل رئيس الجمهورية مسؤولاً جنائياً في حالة واحدة هي حالة الخيانة العظمى، ودستور التشيك قبل الحرب الأخيرة أجاز التحقيق مع رئيس الجمهورية في حالة الخيانة العظمى، والدستور البولندي الذي وضع بعد الحرب عام 1914 جعل رئيس الجمهورية مسؤولاً جنائياً في حالة الخيانة العظمى والاعتداء على الدستور، كما جعله مسئولاً إذا ارتكب جريمة عادية، واشترط لمحاكمته إذن البرلمان وأغلبية خاصة.
وبالتالي، وفي هذا الشأن يأخذ القانون الوضعي ثلاث نظريات حول مسؤولية رؤساء الدول عما يرتكبون من جرائم، فالنظرية الأولى لا تجعل الرئيس مسؤولاً عن أية جريمة ارتكبها، والنظرية الثانية تجعله مسؤولاً عن بعض الجرائم دون البعض الآخر، والنظرية الثالثة تجعله مسؤولاً عن كل الجرائم التي يرتكبها، ولا شك أن مسؤولية رؤساء الدول قد تطورت في القوانين الوضعية تطوراً عظيماً، فبعد أن كانت القاعدة العامة حتى القرن الثامن عشر، إعفائهم من المسؤولية إعفاءً تاماً، أهملت تلك القاعدة، وأصبح الكثيرون من رؤساء الدول مسؤولين مسؤولية جزئية أو مسؤولية تامة، لكن ماذا عن رؤساء الدول الأجنبية؟
تعفي القوانين الوضعية رؤساء الدول الأجنبية ملوكاً كانوا أو رؤساء جمهوريات من أن يحاكموا على ما يرتكبونه من الجرائم في أي بلد آخر غير بلادهم، سواء دخلوه بصفة رسمية أو متنكرين، وهذا الإعفاء يشمل كل أفراد حاشية الملك أو رئيس الجمهورية، والحجة في ذلك، أن إجازة محاكمة رؤساء الدول وأفراد حاشيتهم لا تتفق مع ما يجب لهم من كرم الضيافة والتوفير والاحترام. وهي حجة لا تستقيم مع المنطق؛ لأن رئيس الدولة الذي ينزل بنفسه إلى حد ارتكاب الجرائم يخرج على قواعد الضيافة، ولا يستحق الاحترام، ومثل هذا يقال في أفراد الحاشية. والواقع أن الإعفاء تقليد قديم كان معمولاً به قبل أن تأخذ القوانين الوضعية بمبدأ المساواة، وظل معمولاً به حتى اليوم، وقد ساعد على بقائه اعتراف الدول به، وصيرورته جزءاً من القانون الدولي، والمعروف أن القانون الدولي لا يتطور بمثل السرعة التي تطور بها القوانين الخاصة، أما أعضاء السلك الدبلوماسي، تعفي القوانين الوضعية المفوضين السياسيين الذين يمثلون الدول الأجنبية من أن يسري عليهم قانون الدولة التي يعملون فيها، ويشمل الإعفاء حاشيتهم وأعضاء أسرهم. والحجة في ذلك أن الممثلين السياسيين يمثلون دولهم أمام الدولة التي يعملون في أرضها، وليس لدولة على أخرى حق العقاب، وأن الإعفاء ضروري لتمكينهم من أداء وظائفهم، وحتى لا تتعطل لتعريضهم للقبض والتفتيش والمحاكمة. ويمكن الرد على هاتين الحجتين بأن الممثل السياسي ليس إلا فرداً من رعايا دولة أجنبية، وأن للدولة حق العقاب على رعايا الدول الأجنبية إذا ارتكبوا جريمة في أرضها، ولا يمكن أن يعطل سريان القانون على الممثل السياسي أعمال هذا الممثل ما دام يحترم القانون ويطيعه ولا يعرض نفسه للوقوع تحت طائلته.
كذلك تعفي القوانين الوضعية أعضاء مجلس الشعب، وقد أخذ الدستور المصري بهذا الاتجاه، والمقصود من هذا الإعفاء إعطاء أعضاء البرلمان قدراً من الحرية يساعدهم على أداء وظائفهم حق الأداء، إلا أن الإعفاء بالرغم من هذا اعتداء صارخ على مبدأ المساواة؛ لأن هناك مجالس نيابية أخرى هي مجالس المديريات ليس لأعضائها أن يتمتعوا بمثل الحصانة التي يتمتع بها أعضاء البرلمان، ولأن هناك من الوطنيين من يشتغل بالمسائل العامة وله فيها تأثير أكثر مما لأي عضو من أعضاء البرلمان، وبالرغم من ذلك فهم محرومون من مثل حصانة أعضاء البرلمان، وأما التمييز بين الأغنياء والفقراء، في القانون المصري، قانون تحقيق الجنايات يوجب على القاضي أن يحكم بالحبس في كثير من الجرائم، على أن يقدر للمحكوم عليه كفالة مالية إذا دفعها أجل تنفيذ الحكم عليه حتى يفصل في الاستئناف وإن لم يدفعها حبس دون انتظار لنتيجة الاستئناف، وفي هذا خروج ظاهر على مبادئ المساواة، إذ يستطيع الغني دائماً أن يدفع الكفالة فلا ينفذ عليه الحكم، بينما يعجز الفقير عن دفعها في أغلب الأحوال فينفذ عليه الحكم في الحال. وبالتالي نظرية المساواة هنا تحتاج إلى كثير من العمل لتحقيق العدالة الصحيحة، حيث هي موجودة في الشريعة الإسلامية منذ 14 قرناً، قال تعالى: (يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكرٍ وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم)، فالناس جميعاً في الشريعة متساوون على اختلاف شعوبهم وقبائلهم، متساوون في الحقوق، متساوون في الواجبات، متساوون في المسؤوليات.
وفقهاء الشريعة الإسلامية وإن كانوا يشترطون في الإمام أي رئيس الدولة الإسلامية شروطاً لا تتوفر في كل شخص، إلا أنهم يساوونه بجمهور الناس أمام الشريعة، ولا يميزونه عنهم في شيء، وهذا متفق عليه فيما يختص بالولاة والحكام والسلاطين والملوك الذين يخضعون للخليفة أو يستمدون سلطتهم منه، إلا أنهم اختلفوا في الإمام الذي ليس فوقه إمام، ولهم في سريان نصوص الشريعة عليه نظريتان:
النظرية الأولى: وهي نظرية أبي حنيفة، ويرى أن كل شيء فعله الإمام الذي ليس فوقه إمام مما يجب به الحد كالزنا والشرب والقذف لا يؤاخذ به إلا القصاص والمال، فإنه إذا قتل إنساناً أو أتلف مال إنسان يؤاخذ به؛ لأن الحد حق الله تعالى، وهو المكلف بإقامته ومن المتعذر أن يقيم الحد على نفسه؛ لأن إقامته بطريق الخزي والنكال ولا يفعل ذلك أحد بنفسه، ولا ولاية لأحد عليه ليستوفيه، ويؤخذ على نظرية أبي حنيفة أنها تقوم على أساس ضعيف؛ لأن الإمام ليس إلا نائباً عن الجماعة، ولأن الخطاب في التشريع الإسلامي موجه للجماعة وليس للإمام، وإنما أقامت الجماعة الإمام ليقيم أحكام الشريعة، ويرعى صالح الجماعة، فإذا ارتكب أحد الأفراد جريمة كان للإمام أن يعاقبه بما له من حق القيام على تنفيذ نصوص الشريعة نيابة عن الجماعة، وإذا ارتكب الإمام نفسه جريمة عاد للجماعة حقها، وعاقبت الإمام حيث لا يصلح للنيابة عنها في هذه الحالة.
النظرية الثانية: هي نظرية مالك والشافعي وأحمد، وهم لا يفرقون بين جريمة وجريمة، ويرون الإمام مسؤولاً عن كل جريمة ارتكبها سواء تعلقت بحق الله أو بحق الفرد؛ لأن النصوص عامة والجرائم محرمة على الكافة بما فيهم الإمام، معاقب عليها ممن ارتكبها ولو كان الإمام، ولا ينظر هؤلاء الأئمة إلى إمكان تنفيذ العقوبة كما ينظر الحنفية؛ لأن تنفيذ العقوبات ليس للإمام وحده، وإنما له ولنوابه، فإذا ارتكب جريمة وحكم عليه بعقوبتها نفذ العقوبة على الإمام أحد من ينوبون عنه ممن لهم تنفيذ هذه العقوبة.
ولم يكتف الفقهاء بتقرير عقوبة رئيس الدولة الأعلى على ما يرتكبه من جرائم، بل بحثوا فيما كان ينعزل بارتكابه الجرائم، فرأى البعض أن الإمام ينعزل بارتكابه المحظورات، وإقدامه على المنكرات، تحكيماً للشهوة وانقياداً للهوى؛ لأن عمله هذا فسق يمنع من انعقاد الإمامة، ويمنع من استدامتها، وبالتالي إن الشريعة لا تميز رئيس الدولة الإسلامية الأعلى فهي من باب أولى لا تميز رئيس دولة أجنبية، فالشريعة تسري على رؤساء الدول الأجنبية وعلى رجال حاشيتهم أثناء وجودهم في دار الإسلام، فإذا ارتكبوا أية جريمة عوقبوا عليها. وإذا كان أبو حنيفة يرى عدم إمكان عقاب الإمام على الجرائم التي تمس حقوق الجماعة، فإن هذا الرأي لا يفيد رؤساء الدول الأجنبية شيئاً؛ لأن أساس هذا الرأي أن الإمام لا يمكن أن ينفذ العقوبة على نفسه، والعقوبة هنا لا تقع عليه وإنما تقع على غيره.
لكن رؤساء الدول في دار الحرب وحاشيتهم يمكن أن يستفيدوا من نظرية أبي حنيفة في تطبيق الشريعة على المستأمن، ورؤساء الدول في دار الحرب وحاشيتهم ليسوا إلا مستأمنين، وطبقاً لهذه النظرية لا يعاقب المستأمن إلا على الجرائم التي تمس حتى الأفراد، أما الجرائم التي تمس حق الجماعة فلا يعاقب عنها.
أخيراً للقانون الوضعي ميزاته في هذا الشأن، كذلك الشريعة، لكن الشريعة تتفوق في هذه الناحية تفوقاً عظيماً، سواء نظرنا إلى المسألة من وجهتها الفنية، أو نظرنا إلى المسألة من الوجهة الاجتماعية والأخلاقية.
د. عبدالعزيز بن بدر القطان