القمة الأميركية التركية التي عقدت بين الرئيسين جو بايدن ورجب اردوغان على هامش قمة حلف شمال الأطلسي، يبدو أنها لم تحقق النتائج التي طمح إليها الرئيس التركي، فأغلبية التحليلات الصحفية أشارت إلى أنها «قمة باهتة»، وآخرون وصفوها بأنها «قمة اللانتائج»، وأعطاها بعض الصحفيين الأتراك علامة «الصفر»! ولكن تحليلات أخرى تحدثت عن أن أردوغان أراد الإيحاء بحسن علاقاته مع واشنطن، وأنه يكفيه أن يلتقط الصورة مع بايدن لينام الأتراك قريري العين مطمئنين على مستقبلهم.
يكتب سركان ديميرطاش في «حرييت ديلي نيوز» أن قمة الناتو تؤشر لعصر جديد في علاقات تركيا مع أميركا والغرب، وأن القمة أعادت الاعتبار لـقيمة ووزن تركيا، في الحلف! دون أن يوضح ديميرطاش المقصود بالقيمة والوزن، وهو ما أوضحه أمين عام حلف الناتو ستولتنبرغ حينما اعترف بالدور المفتاحي لتركيا في العاصمة الأفغانية كابول للحفاظ على وظائف المطار بعد انسحاب قوات الناتو التي خرجت مهزومة بعد أكثر من 19 عاماً من الاحتلال العسكري لأفغانستان تحت عنوان «مكافحة الإرهاب»، أي إن دور تركيا سيكون دور «كلب الحراسة» لحلف الناتو بعد انسحابه من مستنقع أفغانستان، والكذب لمدة عشرين عاماً حول الديمقراطية، وحقوق الإنسان، ومكافحة الإرهاب، وهنا يسأل أحد نواب المعارضة التركية: «لماذا يجب أن يقتل الجنود الأتراك في أفغانستان، ومن أجل ماذا»؟ وهو السؤال نفسه الذي طُرح حينما قتل عشرات الجنود الأتراك في سراقب السورية قبل تحريرها، أي عن ماذا يدافع هؤلاء هناك؟! ما يعيدنا إلى سؤال ديميرطاش عن قيمة ووزن تركيا، الذي أعطاها لها حلف الأطلسي.
الحقيقة أن سر الخلاف الأميركي التركي الذي لم يظهر للعلن هو أن أنقرة أرادت إعادة التموضع الجزئي ضمن إطار التغيرات التي يشهدها العالم مع صعود الصين وروسيا، ولكن ليس من منطلق مبدئي، إنما من منطلق تكتيكي، للاستفادة من هذا الصعود، حيث عملت على تنمية علاقاتها مع موسكو وبكين بهدف اللعب على حبال المحاور كما اعتاد اردوغان أن يفعل لسنوات، ومرر الكثير من الوقت والمصالح بناءً على ذلك، دون أن يدرك أن هذا التكتيك سوف ينتهي وقته، وساعتئذٍ عليه أن يقرر أين يجب أن يكون! فالروس يعملون على التخفيف من سم أنقرة، وبدلاً من أن تكون في حضن واشنطن بالكامل، حاولت موسكو عبر ربط أنقرة بـمصالح اقتصادية بمليارات الدولارات تحييدها قدر الإمكان، وفي الوقت نفسه امتلاك أدوات الضغط عليها حين اللزوم، إذ إن عدم وجود أي علاقات سيفقد موسكو القدرة على التأثير، والبعض الآخر يقول إن الأمر كذلك لأنقرة، حيث تحاول التأثير في موسكو قدر إمكانها، واللعب بالأوراق التي لديها بما فيها المصالح الاقتصادية والجيوسياسية، والتي لا تميل لمصلحة أنقرة دائماً.
في كل الأحوال، للتذكير، لم يتصل بايدن بأردوغان إلا بعد أشهر من دخوله البيت الأبيض، حيث تم الاتصال في 23 نيسان 2021، ولكن الاتصال لم يكن للاطمئنان، وإنما لإبلاغ اردوغان أنه سيعترف بإبادة الأرمن في 24 نيسان، أي اليوم التالي للاتصال، وآنذاك اتفقا على اللقاء على هامش قمة الناتو، وهو ما حدث فيما سمي «القمة الباهتة» التي أدت إلى انهيار سعر الصرف من 8.3 إلى 8.51 ليرة تركية مقابل الدولار الواحد حتى تاريخ يوم أمس، أي إن القمة لم تبرد قلق الأسواق التركية، ولم تهدأ قلق أردوغان نفسه، الذي حاول إعادة إنتاج دور تركيا القديم «كلب الحراسة لحلف الناتو» حسب أحد السياسيين الأتراك الذي أطلق صوته عالياً ذات يوم للقول متى نتوقف عن أن نكون كذلك، ونخلق الدور الذي يفترض أن تلعبه تركيا!
القضية الأساس لواشنطن وفقاً للرؤية الجديدة التي وضعتها لحلف الناتو هي أي توجه إستراتيجي ستتخذه تركيا؟ هنا يكمن السؤال الأهم! والرؤية الجديدة أن الصين هي تهديد للحلف، ولا يتشارك معها في القيم، وروسيا عدو تاريخي يجب مواجهته! وبناءً على تحديد تركيا لموقعها الجديد في هذه المواجهة ستحدد واشنطن مواقفها في الملفات العديدة بين البلدين، ذلك أن واشنطن كانت واضحة من أن إس 400 خط أحمر، ولن يسمح به! فأخرجت تركيا من برنامج طائرات F35، وفرضت عقوبات على بعض المؤسسات العسكرية التركية، وبعض الشخصيات ذات العلاقة، والهدف هو إعادة تركيا إلى دورها التقليدي في حظيرة الناتو.
بين 29 آذار و13 نيسان 2021 أجري استطلاع سنوي لحلف الأطلسي نفذه «صندوق مارشال الأميركي بفرعه الألماني» في 11 بلداً أطلسياً والملفت للنظر هذا العام أن 50 بالمئة من الأوروبيين لا يعتقدون أن أميركا هي القائد العالمي الأكثر نفوذاً، وأن 75 بالمئة لا يثقون بـتركيا كشريك أطلسي يمكن الوثوق به، ونتائج هذا الاستطلاع دفعت أحد الصحفيين الأتراك لدعوة حكومة بلاده للعمل على تحسين صورتها أمام الرأي العام الأطلسي والأوروبي.
أدوات أردوغان لاستدرار عواطف الغرب أصبحت بالية وقديمة، فالهجوم على الرئيس بشار الأسد من خلال اتهامه بقصف المدنيين والمستشفيات في إدلب، أصبح أسطوانة مشروخة، وكذبة مفضوحة، وخاصة حينما يعرف العالم أن أردوغان هو حاضن الإرهاب وراعيه، وأن إدلب التي يتباكى عليها تحولت إلى أخطر تجمع للإرهابيين في العالم، ما يهدد الأمن القومي ليس لسورية فقط، إنما لروسيا والصين وإيران، وهؤلاء الإرهابيون الذين يرعاهم يصدرهم حيث يخدم ذلك أجندة الناتو، كما سنرى ذلك مستقبلاً، إذ سوف نراهم في أفغانستان على حدود روسيا والصين وإيران، وهو ما يتطلب معالجة ملف إدلب قبل انتشار سرطان الإرهاب الذي يرعاه أردوغان.
لقد وصل أردوغان إلى مفترق طرق مهم وخطير، فحلف الناتو الذي اعتبر تركيا ذات دور مفتاحي، أعلن في الوقت نفسه أن روسيا والصين عدوان، أو منافسان أساسيان للحلف، أي لأميركا، وما على الحلفاء إلا التأقلم مع هذين العدوين، وإذا كان أردوغان قد وافق على وثيقة الناتو، والأمر على ما يبدو كذلك، فهذا يعني أنه يريد إعادة تركيا لدورها القديم أيام الحرب الباردة، وهو ما ظهر من خلال الاستعداد لخدمة الحلف في أفغانستان، على الرغم من تحذير حركة طالبان من أن لذلك تداعيات سلبية.
الخيار أمام تركيا الآن لم يعد ممكناً من خلال اللعب على الحبال، وإنما من خلال تحديد الخيارات الإستراتيجية، أي إما دولة إقليمية مستقلة تبحث عن مصالحها، ما يتطلب مقاربات مختلفة تجاه جيرانها وخياراتها، أو العودة إلى دور «كلب الحراسة» خارج خيمة الناتو، وهو ما يبدو أن أردوغان ما زال يحن إليه.
د. بسام أبو عبدالله
صحيفة : الوطن