في المقارنة بين التشريع الجنائي الإسلامي والقوانين الوضعية، بحثنا في الأجزاء السابقة المبادئ والنظريات العامة في الشريعة والقوانين، وبيان وجوه الخلاف والوفاق بينهما، على أن تكون المقارنة شاملة لكل المبادئ والنظريات ما أمكن ذلك.
استكمالاً لما بدأناه، نتطرق اليوم إلى جرائم القول، إن مبدأ القانون في جرائم القول، يحرم على الناس أن يقولوا الحق وأن يتناهوا عن المنكر، وأن يحطوا من قدر المسيء ليرفعوا من قدر المحسن والإحسان. وقد شعر واضعوا القانون المصري بخطورة هذا المبدأ على الشعب إذا طبق على إطلاقه، فاستثنوا منه حالات أربع هي: حالة الطعن في أعمال موظف عام أو شخص ذي صفة نيابية أو مكلف بخدمة عامة: فإن الطاعن لا يعاقب على طعنه إذا حصل بسلامة نية، وكان لا يتعدى أعمال الوظيفة أو النيابة أو الخدمة العامة، بشرط أن يثبت الطاعن حقيقة كل فعل أُسند إلى المقذوف، وقد تقرر هذا الاستثناء لإشعار الموظف والنائب والمكلف بخدمة عامة أن أعمالهم معرضة للانتقاد، فيدعوهم ذلك للانتباه والعمل بدقة أكثر، أيضاً، حالة دعوة الأمة إلى الانتخاب: فإن نص المادة 68 من قانون الانتخاب يبيح الأقوال الصادقة عن سلوك المرشح وأخلاقه أثناء الانتخابات بالرغم من تحريم قانون العقوبات هذه الأقوال في الأوقات العادية، وقد جعلت هذه الإباحة ليستطيع كل مرشح وكل ناخب أن يقول ما يعرف عن سلوك المرشح وأخلاقه دون خوف من العقاب، وليسهل على الناخبين أن يميزوا بين المرشحين ويختاروا من يصلح للنيابة عنهم بعد أن يسمعوا عنه كل ما يتعلق بسلوكه وأخلاقه، والحالة الثالثة هي: حالة انعقاد البرلمان: فإن أعضاءه لا يؤاخذون على ما يبدونه من الأفكار والآراء في المجلسين طبقاً لنص المادة 109 من الدستور، وقد وضع هذا النص لتمكين نواب الأمة من أن يقولوا ما يشاءون دون تحرج أو خوف من المحاكمة والعقاب، ويلاحظ أن هذه الحالة تختلف عن الحالتين السابقتين في أن القاذف في الحالتين السابقتين لا ينجو من العقاب إلا إذا كان صادقاً فيما قال، أما عضو البرلمان فلا يحاكم ولا يعاقب سواء كان صادقاً فيما قال أو مختلقاً لما قال، أما الاستثناء الرابع فهو حالة المحاكمة والتقاضي: فالمادة 309 من قانون العقوبات تنص على الإعفاء من العقاب على القذف أو السب الذي يحدث من الخصوم أو وكلائهم في دفاعهم الشفوي أو الكتابي أمام المحاكم، ولا يترتب عليه إلا المقاضاة المدنية أو المحاكمة التأديبية.
إن مبدأ القانون المصري بما يتعلق بجرائم القول هو ما تأخذ به القوانين الوضعية بشكل عام، مستثنيات المبدأ في مصر، وهي لا تكاد تختلف كثيراً عما في معظم القوانين الوضعية، والعيب الفني في نصوص القانون المصري هو التناقض الظاهر وانعدام الانسجام، فبينما المبدأ الأساسي يقوم على حماية الحياة الخاصة للأفراد، إذا بالاستثناءات تقوم على إباحة الحياة الخاصة والعامة، وبينما المبدأ الأساسي هو تحريم القول الصادق والكاذب على السواء، إذ ببعض الاستثناءات تبيح القول الصادق فقط، وبعضها يبيح القول الصادق والقول الكاذب معاً.
أما المبدأ الأساسي للجرائم القولية في الشريعة فأساسه تحريم الكذب والافتراء، وإباحة الصدق في كل الأحوال، ولذلك فلا عقاب في الشريعة على من يقول الحق، ولا مؤاخذة على من يسمي الأشياء بمسمياتها، والمواصفات بأوصافها، لا عقاب على من يقول للسارق سارق إذا أثبت أنه سارق، ولا عقاب على من يقول للكاذب إنه كاذب إذا لم يعد قول الحق، وليس لهذا المبدأ استثناءات ما، فكل إنسان يستطيع أن يطعن في أعمال الموظفين العموميين والنواب والمكلفين بخدمات عامة وينسب إليهم عيوبهم ما دام يستطيع إثبات مطاعنه، وله أن يتعدى أعمالهم العامة إلى أعمالهم وحياتهم الخاصة ما دام يستطيع إثبات مطاعنه، وليس لهم أن يتضرروا من عيوبهم ولا من الصفات القائمة في أعمالهم أو أشخاصهم، فليس في الشريعة كما في القانون ما يدعو إلى تحليل الصدق في وقت الانتخاب، وتحريمه في غير ذلك من الأوقات؛ لأن الشريعة توجب الصدق على الدوام، ولا تحرمه في أي ظرف من الظروف أو زمن من الأزمان.
كذلك، لا تفرق الشريعة بين الأغبياء والفقراء فهم لدى الشريعة سواء، وقواعد الشريعة لا تسمح أن يستفيد الغني من غناه أو أن يضار الفقير بفقره، ولهذا لا تعترف الشريعة بنظام المالي أو الكفالة المالية إذا كانت العقوبة الحبس لا لشيء إلا أنه نظام يقوم على غير المساواة، والمعروف في الشريعة هو نظام الكفالة الشخصية، ويطبق في حالة الحبس للدين، فمن كان محبوساً لدين جاز أن يفرج عنه إذا كان له كفيل، ولا شك أن كل محبوس لدين يستطيع أن يجد شخصاً يكفله؛ لأن الحبس للدين لا يكون إلا عند الامتناع عن الدفع مع القدرة عليه، ولكن كل محبوس لا يستطيع أن يدفع فوراً قدراً من المال. أما الحبس في الجرائم على ذمة التحقيق والمحاكمة فيراه بعض الفقهاء نوعاً من التعزير، أي عقوبة اقتضتها حالة الاتهام التي نزلت بالمتهم، ويترتب على اعتبار هذا النوع من الحبس عقوبة أنه لا يمكن إخلاء سبيل المتهم بكفالة شخصية؛ لأن الكفالة لا تقبل في العقوبة. ويرى بعض الفقهاء أن الحبس في هذه الحالة حبس للاحتياط وليس عقوبة، وعلى هذا الأساس تجوز فيه الكفالة الشخصية ولا شك أن كل محبوس حبساً احتياطياً يستطيع أن يجد له كفيلاً ولكن كل محبوس لا يستطيع أن يدفع ضماناً مالياً، وسواء اعتبرنا الحبس تعزيراً أو احتياطاً فإن قبول الكفالة الشخصية أو عدم قبولها أساسه المساواة التامة بين الأفراد.
والقاعدة في الشريعة أن التعويضات لا ينظر فيها إلى شخصية المجني عليه، ولا مركزه، ولا ثروته، وإنما يقدر التعويض على أساس نتيجة الفعل الذي وقع عليه، فإذا قتل شريف ووضيع فديتهما واحدة، وإذا أصيب عامل في شركة ومدير الشركة في حادث وترتب على الحادث أن فقد كل منهما ذراعاً أو إصبعاً عوض كل منهما تعويضاً مساوياً لتعويض الآخر.
وليس في القوانين الوضعية الحديثة قانوناً واحداً لم يسلك مسلك الشريعة من حيث جعل بعض الجرائم عاماً يقع من كل الرعايا، وبعضها خاصاً يقع من بعض الرعايا فقط، ولكن القوانين لا تجعل أساس التفرقة الدين، وقد اضطرت الشريعة الإسلامية لسلوك هذا الطريق لتحقيق العدالة، وتوفير حرية الاعتقاد، والمحافظة على النظام، وأساس النظام في الشريعة هو الإسلام. أما القوانين الوضعية فليس فيها ما يحمل واضعها على سلوك هذا الطريق؛ لأن القوانين تجرد عادة من كل ما له مساس بالعقائد والأخلاق والدين على العموم، ويكتفي فيها بحريم ما يمس علاقات الأفراد المادية، أو يمس الأمن، أو نظام الحكم، ولعل عذر المشرعين الوضعيين فيما حدث أن القوانين الوضعية كانت إلى ما قبل الثورة الفرنسية تقوم على أساس ديني يراعى فيه مذهب الحاكم واعتقاده، لا مذاهب المحكومين جميعاً وعقائدهم، بحيث كان المخالفون في العقيدة يحملون حملاً بسطوة القانون على اعتناق مذهب الحاكم أو عقيدته، وقد أدى هذا المسلك إلى إثارة الشحناء والبغضاء بين أفراد الشعب الواحد، وإراقة الدماء وتعدد المذابح، مما كان له رد فعل قوي حمل المشرعين على أن يعالجوا هذه الحالة بتجريد القوانين الحديثة من كل ما يمس العقائد والأخلاق والأديان، ولكن هذا العلاج أدى إلى نتائج لا تقل سوءاً كما رأينا، ولا أظن أن هناك علاجاً موفقاً كعلاج الذي ارتأته الشريعة، فإنه يؤدي إلى الأخذ بمبدأي المساواة وحرية الاعتقاد، كما يؤدي في الوقت نفسه إلى الاحتفاظ بالقيم الأخلاقية والروحية، وهي الأساس الأول في احترام الشرائع والقوانين.
وحين نقارن القوانين الوضعية بالشريعة الإسلامية، أن الشريعة الأخيرة شريعة دينية أساسها الإسلام، فلا يمكن بطبيعة الحال أن تتجه اتجاهاً يخالف الإسلام، وأن الدين الإسلامي يعتبر النظام الأساسي للدولة بكل ما يشتمل عليه من صوم وصلاة وزكاة وحج وتوحيد، وبكل ما يوجبه ويحرمه، وهو نظام لا يقبل التجزئة بطبيعته، فليس من المستطاع الأخذ ببعضه وترك بعضه؛ لأن الأخذ ببعضه وترك بعضه هدم له. فالشريعة لا يمكن بأي حال أن تتخلى عن العقاب على الجرائم الدينية أو الأخلاقية؛ لأنها تقوم على النظام الإسلامي، ولأنها وجدت لحماية هذا النظام والمحافظة على مقوماته، فلابد أن تحرم كل ما يمسه وتعاقب عليه.
كل نظام له أسسه التي يقوم عليها، ومقوماته التي لا يستمر بغيرها، ولا يمكن أن يقوم أي نظام وضعي إذا أهملت أسسه، وتجوهلت مقوماته، فالديموقراطية لها أسس معينة ومقومات خاصة، وكل نظام من هذه الأنظمة تختلف أسسه ومقوماته اختلافاً ظاهراً عن أسس النظام الآخر ومقوماته، ولا يمكن أن يعيش أي نظام من هذه الأنظمة إذا أهملت بعض أسسه أو تجوهلت بعض مقوماته؛ لأنه بهذه الأسس والمقومات وجد وعاش، وتميز عن غيره من الأنظمة، وكل نظام من هذه الأنظمة الثلاثة يضع عقوبات قاسية على كل ما يمس أسس النظام أو يهدم مقوماته، فلا عيب إذن على الشريعة إذا عاقبت على كل ما يمس النظام الذي قامت عليه؛ لأن ما تفعله الشريعة هو طبيعة لازمة لكل نظام يراد له البقاء والنماء والاستقرار. وإذا كانت الشريعة تعاقب على ما لا تعاقب عليه القوانين الوضعية فليس ذلك بشيء؛ لأنه يرجع إلى تغاير النظم واختلاف طبائعها، وما دامت اتجاهات النظم مختلفة، وطبائعها مختلفة، فلا يمكن أن تتفق فيما تحل وفيما تحرم.
في الأنظمة الوضعية، تعاقب الشيوعية على الدعوة للنازية والديموقراطية، والنازية تعاقب على الدعوة للديموقراطية والشيوعية، والديموقراطية تحارب الشيوعية والنازية وتعاقب عليهما، والملكية الفردية مباحة إلى غير حد في البلاد الديموقراطية، ولكنها جريمة في البلاد الشيوعية. فاختلاف الأفعال المحرمة في النظم لا يمكن أن يكون عيباً لأن قيمة النظام لا تقاس بما يحل وما يحرم، ولا بعمومه وخصوصه، إنما يقاس بما يؤدي إليه من إسعاد الجماعة، ورقيها ونشر العدل والمساواة بين أفرادها.
كما أن الشريعة نصت على أفعال معينة واعتبرتها جرائم، وأوجبت العقوبات عليها، ولم تجعل لولي الأمر حق العفو عن العقوبة أو الجريمة في بعض هذه الجرائم، وهي الحدود والقصاص، وجعلت له حق العفو عن الجريمة أو العقوبة في بعضها الآخر، وهي جرائم التعازير، كذلك ترك لولي الأمر أن يحرم كل الأفعال التي تقتضي مصلحة الجماعة والنظام العام تحريمها، وأهم هذه الأفعال هي الأفعال التي تخالف روح الشريعة أو مبادئها العامة.
والعقوبة المقررة للجرائم الدينية، قررت لمصلحة النظام الإسلامي دون غيره، وما كان مقرراً لمصلحة نظام ما فلا يصح أن يجادل فيه من يريد إقامة هذا النظام، ولا يصح أن يتهاون في شأنه القائمون على أمر هذا النظام، ولا ضير في أن تخالف الشريعة الإسلامية القوانين الوضعية في العقاب على الجرائم الدينية، فإن الخلاف راجع إلى اختلاف طبيعة النظم، ولن يثني هذا الخلاف المسلمين عن تفصيل النظام الإسلامي على غيره من الأنظمة، كما لم يثن الشيوعيين عن تحبيذ الشيوعية وتفضيلها على غيرها من الأنظمة، مع أنها تخالف كل نظام وضعي أو سماوي وجد على وجه الأرض حتى اليوم، كما أنها لا تتفق مع طبائع الأشياء.
د. عبدالعزيز بن بدر القطان