دعيت سنة 1431 الموافق سنة 2010 ميلادي لحضور ندوة إسلامية في تركيا، وكنت حينها لا أزال في بلدي العراق، وكانت الجهة المنظمة قد حجزت لنا أسبوعا نقيمه في إسطنبول ..
في آخر يوم صليت العشاء في جامع السلطان محمد الفاتح، وكان موعد طائرة الرجوع إلى العراق في اليوم التالي .فوجدت شابين يلبسان اللباس العربي في الجامع، كان ثوبا ابيض وعليه وشاح أخضر لكل منهما .. فسلمت عليهما وسألتهما عن بلادهما، كعادة من يرى بني جنسه في بلاد السفر ..فقالا لي بأنهما من بلدة الأحساء في السعودية، وانهما تلاميذ الشيخ إبراهيم الحصاري .. فقلت لهما: تعنيان الشيخ صاحب الحديث؟ قالا: نعم ..فصعقت فرحا، لأن لقيا الشيخ الحصاري كانت حلماً لي، وزاد فرحي حين قالا بأنه الان موجود في الجامع .
فلم يكملا العبارة حتى جررت أحدهما من ثوبه قائلا: خذني إلى الشيخ بسرعة .
فذهبنا وإذا بالشيخ جالس يذكر الله مغمض العينين، فوقف الطالبان بكل ادب ينتظرانه يكمل .فأحس بوجودنا ففتح عينيه، ونظر إلي وقال: حياك الله، من أين الابن الكريم ؟فجلست وسلمت عليه، وقبلت يديه، وقلت: انا من العراق سيدي ..فقال مباشرة: هل أنت سيد ؟ يعني من آل البيت .فتعجبت من فراسته، وقلت له: نعم سيدي أنا حسيني .فقال بصوت عال: حيا الله السيد يا مرحبا يا مرحبا، واحتضنني .
فقال بأدب وتواضع: هل لي بخدمتكم؟ فقلت: أستغفر الله سيدي، إن أذنتم فأنا أخدمكم، وأتمنى أن اقرأ عليكم بعض كتب الرواية ..فقال: على الرحب والسعة، وما وجهي من السيدة فاطمة إذا رفضت ابنها؟
فنادى التلميذين وعرفني بهما فقال:هذا عبد الرحمن العثمان البكري، من ذرية سيدنا أبي بكر الصديق رضي الله عنهوهذا محمد الحبيب الجعفري، من ذرية سيدنا جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه.ثم قال لهما: خذا رقمه لتدلاه على منزلنا ليزورنا .. فأخذ كل منا رقم صاحبه.
وعند خروجي من المسجد اتصلت بالجهة المنظمة للمؤتمر، وطلبت منهم تأخير موعد رجوعي إلى العراق، وأنا اتحمل غرامة التأخير لموعد الطائرة، وأتحمل تكاليف بقائي، ففعلوا .
فذهبت واستأجرت غرفة في فندق مؤقتا، إلى أن أعرف مكان الشيخ لأستأجر قريبا منه .
اتصل بي القوم في اليوم التالي، وأخبروني بالمكان، وإذا به ممشى خمس دقائق عن محل سكني، ووالله لم يكن في ذلك تدبير إلا من الله تعالى
من هنا ابتدأت الرحلة المباركة
ذهبت للشيخ في شقته المباركة في شارع الوطن، وقرأت عليه الأوائل السنبلية، ووجدت فيه عجبا عجابا في حفظ ومعرفة تراجم الرجال وأحوالهم، ومن وثقهم ومن ضعفهم، مع براعة وسرعة في استحضار الأسانيد وأقوال أهل الجرح والتعديل .
أكملنا الأوائل السنبلية في ثلاثة أيام، في كل يوم مجلس، وكان الشيخ كريما إلى حد لا يوصف، فقد كان يحدد هو موعد المجلس، ويكون في موعد غداء او عشاء، ويقدم مع الطعام خيرا كثيرا من فاكهة وحلوى وعصائر، وفي كل مجلس هدية.
وقرأت عليه شيئا من صحيح البخاري، وفي كل مجلس شرح فقهي ومعلومات نحوية، مع ذكر مدارس الإحساء الحلقية ومناهجها وشيوخها.
ثم أجازني بكل مروياته إجازة رواية .
وبعد مدة استأذنت الشيخ للسفر، فقال لي ممازحا: لماذا انت مستعجل على فراقنا ؟ أريدك ان تبقى، وتترك فندقك وتأتي للسكنى معي في هذا المنزل، فقد أحببناك ..
لا تسألوا عن مقدار فرحي حين قال (أحببناك) فقلت له: كلامكم امر سيدي، سأمكث اياما ثم اسافر لارتباطي بوظيفة الخطابة.
فمكثت عنده في المنزل أياما هي ضمن أجمل أيام العمر .. وإذ ذاك زارنا في المنزل الشيخ أحمد الجُبَّلي، وهو خليفة العارف بالله الشيخ الولي محمود أفندي حفظه الله، فقال لشيخنا: الشيخ محمود أفندي يسلم عليكم، ويطلب من جنابكم ان تدرس بعض طلابنا الاربعين النووية بالشرح.فأجاب الشيخ بالموافقة مباشرة، وقال: ومن يرد طلب الولي؟ثم التفت إلي وقال لي: هل تعلم يا سيد وليد -وهكذا كان يناديني- بأن الشيخ محمود أفندي هو من الأبدال الاربعين في عصرنا ؟فقلت له: إنما يعرف منازل الولاية أهلها، فقال: لا اله الا الله نحن حثالة، ولكن سمعتهم يقولون ذلك .
قدم من طلاب الشيخ محمود افندي نحو من عشرين طالبا، كانوا صفوة في الدين والخلق والأدب، يحضرون يوميا لمنزلنا فيأخذون درسا، وكان مولانا الشيخ يجلسني على يمينه مباشرة في كل درس، وربما تخلفت قليلا بسب تهيئة شيء لضيافة الطلاب مع اصحابي، او نحو ذلك، فإذا قدمت وسع لي المكان عن يمينه فأجلس .
وقد وجدت في تلك الدروس العجب في استفاضة الشيخ في الشرح ..
وقد وجدت عجبا من تلك الصفوة المباركة من طلاب الشيخ محمود افندي..فمن ذلك أن أحدهم سأل الشيخ مرة: يا شيخ، انا بايعت شيخنا على أن لا اذكر الدنيا بلساني حتى الموت، إلا دنيا تؤدي إلى آخرة، وأحيانا يكلمني أحد ابويّ بأمر الدنيا، فأجد حرجا، فماذا افعل؟فسكت الشيخ وفتح عينيه نحوه، وساد هدوء في المجلس ..فقال له: منذ متى عاهدت الشيخ؟فقال: منذ ثلاث سنوات.فقال الشيخ: ولم تتكلم بامر الدنيا طيلة تلك المدة؟فقال: نعم شيخنا، إلا ما سألتكم عنه في شأن والديّ ..فنظر إليّ الشيخ فقال: هل سمعت ما سمعت ؟ فقلت: نعم سيدي، وأدهشني ما أدهشك .فقال له: يا ولدي، اذا كلمك ابواك وجب عليك ان تجيبهما حتى وإن كان في امر الدنيا، لأن هذا من البر الواجب، ولن تحنث بعهدك لشيخك، لأن الواجب حكم شرعي، فيدخل في الامور الأخروية ..فعجبت من هذا التحرير الفقهي للمسألة، ورحم الله شيخنا ما أفقهه .
ومن عجيب امر هؤلاء الطلاب، أن الشيخ ذات مرة أمر بجلب طعام للجميع من المطعم، وحين جاء عمال المطعم بالطعام رأيت اثنين من الطلاب يكلمان عاملا وهو يضع الطعام ويرتبه، ويهتمان بالموضوع ويشرحان باستفاضة، ولم اكن حينها أعرف شيئا من لسان الاتراك ..فسألتهما: ماذا تقولان له:فقال أحدهما: كلانا بايع الشيخ -أي الشيخ محمود أفندي- على النصح للمسلمين، وحين دخل هذا العامل سألناه: هل تصلي؟ فقال: أصلي وأترك، فصرنا نكلمه عن الصلاة ..
كانت أياما كأنها في الجنة ..
تأخرت كثيرا، وانتهت إجازتي من الأوقاف، فاستأذنت الشيخ في الرجوع، وأني سأذهب لأحجز موعدا لرجوعي في الطائرة ..فقال: يعز علينا فراقك ..فقلت: وهو عليّ أعز يا سيدي، لكنها الضرورة ..
فذهبت وكان يوم اربعاء، وإذا بصاحب مكتب الطيران يقول لي: لا يوجد حجز لمدة عشرة أيام .فقلت في قلبي: لقد قالها الشيخ .. يعز علينا ذلك.
فرجعت إلى منزل الشيخ، فأخبرته فقال لي: ثمة خير ينتظرك في إسطنبول، منعك من السفر حتى تناله .
فلم يمر سوى يومين، وإذا بالشيخ أحمد الجبلي يزورنا، فقال للشيخ: يا سيدنا، لقد حصلت على موافقة من والي إسطنبول أن يفتح لنا غرفة البردة الشريفة لنزورها تبركا .(البردة الشريفة هي ثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي عرج به إلى السماء، وهي في غرفة لا تفتح إلا في رمضان وفي 12 ربيع الاول، ويكون عليها ازدحام شديد من الناس، وحراسة أمنية، ويضطر الناس إلى تعجيل النظر إليها والخروج لإتاحة المكان لغيرهم)
فقال الشيخ: هل ندخل وحدنا، ونبقى هناك ما نشاء من وقت؟ فقال: نعم .فنظر الشيخ إلي وقال: ألم أقل لك بأن هناك خيرا ينتظرك .
ثم جاءتنا سيارات وأخذتنا إلى جامع البردة الشريفة، فلما دخلنا الممر المؤدي إلى حجرة البردة، أخذ الشيخ حال من الوجد، فاغمض عينيه، وبدأ يرتجف، وعيناه تذرفان دمعا غزيرا وهو يقول: (الصلاة والسلام عليك يا من عظمك الله) يمدها مدا ، ويكررها بلا توقف .
فوصلنا الحجرة المباركة، فدخل الجميع في حال عجيب من البكاء وحتى رجال الحكومة كذلك، ونحن ننظر إلى بردة سيد الخلق صلى الله عليه وسلم، والتي اخترق بها السبع الطباق، وتنورت بانوار الذات العلية.
لما رجعنا من تلك الزيارة الميمونة، بقي الشيخ يومه ذاك في حالة وجد، لم يكلم أحدنا، ولم يتحرك سوى للصلاة، كان يبكي ويصلي على النبي صلى الله عليه وسلم، حتى نفس عنه من حاله ذاك.
وحين حان موعد رجوعي إلى العراق، فعل الشيخ ما لم يكن بالحسبان، حيث قال: اتصلوا بمطعم، وليذبح لنا خروفا، وليطبخه، وادعو تلاميذ الشيخ محمود أفندي، ولنعمل مائدة نودع بها حبيبنا سيد وليد ..جزاك الله يا سيدي عن خادمك خيرا ..
وأكرمني إكراما آخر بأن منحني إجازة الدراية، بالعلوم العقلية والنقلية.
ودعت شيخنا وسافرت للعراق، وكان قد حملني امانة ان اسلم على أئمة العراق، وأخص منهم الإمام عبد القادر الجيلاني رحمه الله .. ففعلت.
بقيت متواصلا مع الشيخ عبر الهاتف، بواسطة إخوتي الذين معه، والذين لا ازال على تواصل معهم .
وبعدها قدر الله لي سكنى إسطنبول، وكان الشيخ قد اتخذ مسكنا دائما في اسطنبول، في منطقة كايا شهير، التابعة لباشاك شهير، وكان يقضي به نحو نصف العام او يزيد، ويقضي الباقي في بلدته الأحساء في السعودية.
وفي مدة بقائه في إسطنبول كان يعقد مجالس للسماع، أتم فيها الصحيحين والكتب الستة وبعض السنن والمسانيد والأجزاء .
وكان بيته يزخر بطلبة العلم والضيوف ليل نهار، وكان فيه علب كبيرة من عطور المسك والعنبر والعود، وزيت الزيتون، يوزع منها لكل من يزوره، ووجبات طعام تقدم لطلاب العلم وللضيوف ليل نهار، فقد كان الشيخ يعطي عطاء من لا يخشى الفقر، وكان كريما إلى حد لا يوصف.
كنت إذا تأخرت مدة لم ازره يعتب عليّ، ويقول لي: أنت تعلم بأني أحبك وافرح برؤيتك، فلماذا تتأخر ؟
زرته مرة بالبنطال فقال لي: لباسك العربي أجمل عليك، فما اريته نفسي بعدها بالبنطال، على اني لا البسه إلا للضرورة.
سمعته يقول: أيام الدولة السوفيتية الشيوعية، ذكر لي أحدهم كتابا في الحديث (أخبرني به ونسيته) مدفون في مغارة في جبل، يعرفه بعض أهل تلك البلدة، ولا يخبرون به خوفا من الحكومة، فالحقبة السوفيتية كانت تمنع نشر الإسلام وتحاربه ..قال: فذهبت إلى دولة السوفييت (روسيا) وقصدت تلك البلدة فلم يرشدوني إلى الكتاب، وعرفتهم بنفسي لكنهم كانوا يخافون، ثم ما زلت ادعو الله ان يهديني إلى من يوصلني حتى استجاب لي، فجاءني رجل خفية وقال: انا اوصلك، فأخذني على حمار فصعدنا الجبل فأخرجنا المخطوط، ولكنه بسبب الدفن قد تآكل ورقه ومحيت كتابته فلا تكاد تفهم، فلم أنتفع منه .. قال: ثم يسر الله بأن هيأ لهذا الكتاب من يطبعه من مخطوطة أخرى.
في ختام مجلس صحيح البخاري أخذت معي إلى الشيخ اثنين من الإخوان، وهما أخي الشيخ صهيب عبد الرحيم الحسون السامرائي واخونا أحمد إبراهيم العنود السامرائي، فجلسا عنده، وطلبت منه الإجازة لهما فأجازهما بصحيح البخاري.
وفي ختام مجالس إملاء سنن ابن ماجه، حين أجاز شيخنا رحمه الله طلاب المجلس، استجزته لثلاثة من مشايخ سامراء، وهم شيخنا عز الدين محيي آل غلام الرفاعي، وشيخنا إياد جهاد العزاوي، وشقيق الروح أخي الشيخ ذياب حامد الحسني الطالبي ..فسألني عنهم، فأجبته بما يستحقون، فقال: من وثقهم سيد وليد فهم محل ثقتنا، ومن أحبهم أحببناهم، قد أجزتهم بسنن ابن ماجه إجازة خاصة، وبكل مروياتي إجازة عامة .
كان إذا ذكر إسطنبول قال (إسلام بول) وأحيانا (بلاد الفاتح) ويقول: هي ارض مباركة، ولولا ذلك لما بشر النبي صلى الله عليه وسلم بفتحها .
كان في دروسه وفي حديثه يكثر من استعمال كلمة (نعم)
حملت له نعاله مرة ووضعته امامه، فمد يده ليمنعني وقال: استغفر الله لا تفعلها مرة أخرى فأنت من آل البيت ..فقلت له مبتسما: وأنت من آل البيت أيضا شيخي، وجدك أكبر من جدي (لأنه حسني وأنا حسيني، والحسن أكبر) فابتسم الشيخ رحمه الله ..
كان يحب يوم الجمعة، ويجعله يوم حفل، فيعطر البيت أكثر من سائر الأيام، ويهتم لشأنه، وقد سمعته غير مرة يدعو بأن يموت يوم الجمعة او ليلتها ..فاستجاب الله له، فتوفي يوم الجمعة، غرة الأشهر الحرم، في الأول من ذي القعدة، لاثنتين وأربعين بعد الألف وأربعمئة من الهجرة، في إسطنبول .
وكان شيخنا رحمه الله قد أوصى ان يدفن في مقبرة سيدنا أبي ايوب الانصاري رضي الله عنه قرب الشيخ العارف بالله عبد القادر عيسى رحمه الله، صاحب كتاب (حقائق عن التصوف)
صلينا على الجنازة في جامع السلطان محمد الفاتح، وكان موكبا مهيبا حضره عشرات الآلاف، وفي يومها لم يكن في السماء قطرة مطر قبل الجنازة، وبعد ان صلينا صلاة الميت نزل المطر فبللنا وبلل النعش المسجى، وبعد الجنازة مباشرة انقشع الغيم واشرقت الشمس .ذكرني ذلك بما ذكره الإمام السيوطي في جنازة الإمام ابن حجر العسقلاني رحمه الله، حيث نزل عليها المطر في غير موسمه، وهو يروي ذلك عن الشهاب المنصوري رحمه الله، والذي قال حينها:
قد بكت السحب على قاضي القضاة بالمطروانهدم الركن الذي كان مشيدا من حجر
وتم تنفيذ وصية الشيخ، ودفن في مقبرة سيدنا ابي ايوب الانصاري رضي الله عنه، ليجاور في آخر حياته، صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، مع من حوله من العلماء والأولياء والقادة الفاتحين.
وهناك مواقف وسماعات أخرى خلال صحبتي معه، سأدونها لاحقا إن شاء الله.
تغمده الله بواسع رحمته، وأنزله منازل المقربين، وجمعنا معه في دار كرامته، مع سيد الخلق سيدنا محمد صلى الله آله وسلم د. وليد فائق الحسيني