حالة الإسلام والحضارة الإسلامية حالة عظيمة كان لا بد من استمرار ازدهارها، بدل ذلك تراجعت هذه الحضارة لدرجةٍ بتنا نحاول استرجاع التاريخ وسطره من جديد حفاظاً على موروثنا الإسلامي الذي لا معنى لحياتنا بدونه، لكن مع شديد الأسف، الأمة الإسلامية لا تزال تعيش في جهلٍ كبير، رغم ما نراه اليوم من حداثة وتطور وطفرة تكنولوجية كبيرة الدخيلة على حضارتنا الإسلامية، وصناعة غربية، بحكم أننا أمة مستهلكة لهذه الحداثة والانفتاح، وبواقعية متناهية بعيداً عن المثاليات، كأمة تضم كل المسلمين من كافة الطوائف، هل نحن أمة متمسكة بالقرآن؟
لسان حالنا يقول نعم، لكن واقعنا بعيد كل البُعد عن ذلك، الحقيقة المطلقة وأقولها بكل تجرد، إن الجميع متمسك ومتعصب لمذهبه، يأخذون الدين بعاطفة، لا بمنطق قرآني وروح وثقافة قرآنية، ندّعي أننا أهل القرآن، لكن نحصر استخداماته سواء في التبرّك أو العزاء وما شابه ذلك، لكن هناك بُعد حقيقي عن السلوك القرآني، وإن وجد فقليل جداً، ونحن اليوم في القرن الواحد والعشرين، كلنا على هدي النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ونحب الصالحين، وننشد الخير بعيداً عن التمذهب، وقضايا الفرق الإسلامية على أنواعها واختلافاتها، لكن ما يعنيني هنا، الثقافة القرآنية وأهتم أكثر بالمسمّى القرآني، قال تبارك وتعالى: (وجاهدوا في الله حق جهاده هو اجتباكم وما جعل عليكم في الدين من حرج ملة أبيكم إبراهيم هو سماكم المسلمين من قبل وفي هذا ليكون الرسول شهيدا عليكم وتكونوا شهداء على الناس)، فاليوم مهما تحدث الفرق عن أمور بما فيها الأحاديث النبوية، لا قناعة إلا بما يُقدم من دليل، لدى أية فرقة كانت، اعتمدت قواعد العلم لأهل الحديث، وشروط علم الرواية والدراية والجرح والتعديل، فإذا صح حديث النبي متوافقاً لكتاب الله، صحيحاً متواتراً بالشروط العلمية لأهل الحديث، هنا نقول إن هذا مذهبنا، نرتضي بما ارتضاه الله تبارك وتعالى لنا كمسلمين.
المتعصبون للمذاهب، بعيدون كل البعد عن القرآن وروح القرآن، القرآن الكريم أمرنا بالوحدة، فالحديث في مثل هذه الأمور يفرّق، حتى مجرد السؤال عنها هو أمر كارثي، لكن الكارثة الأكبر، أن البعض الكثير لا يفهم معنى العبادة ولا يفقه معنى الحب، فالعبادة هي: اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الباطنة والظاهرة، كالصلاة والزكاة والحج وبر الوالدين، هذه الأفعال طلبها الله سبحانه وتعالى موجودة في القرآن، لم يطلبها من العبد، أو من الرسول، (وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل)، فالأنبياء والرسل أصحاب رسالة، لا أكثر ولا أقل، فإن مثلنا الأعلى ومدرستنا هي محمدية، فهل يجوز أن نمتثل بأدنى من ذلك، حتى ولو كان وصي أو إمام أو صحابي، أو رجل صالح، أو من آل البيت، بالنهاية كلهم بشر، لكن مسلكهم القرآن الكريم لذلك تميّزوا، وعبادتهم من قدوتهم، النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وسلوكهم أيضاً وطاعة الله تبارك وتعالى، أياً كان من الصالحين كلهم يسيرون على نهج العبادة، عبادة الله تبارك وتعالى، كلهم يقرأون القرآن ويصلون لله تبارك وتعالى ويعبدونه لأنه أمرهم بعبادته بأشياء معينة (افعل ولا تفعل)، مثل الصلاة والزكاة وصلة الأرحام، ولمن يتصور أن العبادة محصورة فقط في حقوق الله سبحانه وتعالى، لا، بل حتى حُسن المعاملة مع المسلم وغير المسلم وحُسن الخلق والابتسامة كلها عبادة.
ونجد العبادة في فاتحة الكتاب، في (إياك نعبد وإياك نستعين)، ما يعني ان تكون عبادة الإنسان خالصة لله تبارك وتعالى فقط لا غير، عزك وذلك وانكسارك وعبادتك كلها لله سبحانه وتعالى، ما جعلني اكتب حول ذلك مشاهدتي لمقطع مصور، لأحد أدعياء العلم من المعممين، يتكلم إن كان لعبدٍ حاجة فليسجد ويذكر اسم سيدة صالحة ثلاث أو أربع مرات ثم يطلب حاجته، فهل يجوز السجود لغير الله تعالى؟! هذا من باب الدين لا علاقة له لا بالعبادة ولا بالإسلام ولا بالنهج المحمدي أو الثقافة القرآنية مع شديد الأسف، وهذا المعمم افترى على السيدة الفاضلة التي ذكرها، لأن سلوكها كان محمدياً خالصاً وعبادتها وأقرانها ممن كانوا في زمن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وما بعده لله تبارك وتعالى، وسلوكهم جميعاً في (إياك نعبد)، ونحن لا ننكر ورع وتُقى وإيمان هؤلاء الذين هم أكثر من كانوا متمسكين بالقرآن وقمة التوحيد نجدها في سلوك الإمام علي عليه السلام، وكذلك عند السيدة فاطمة الزهراء عليها السلام، وعند الحسن والحسين وعلي بن موسى الرضى والإمام موسى الكاظم، وكل أئمة أهل البيت عليهم السلام، لكن هناك من يصورهم بصورة مخالفة للقرآن وروح القرآن، وهو يسيء لأهل البيت، وإن كان يعلم أو لا يعلم، هذا كذب وافتراء على آل بيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وكذب وافتراء على الإسلام والمسلمين، ما يضع الأمة أمام خصومها في موضع استهزاء، من خلال كم الجهل الذي يروجون له، وبعد كبير عن الثقافة القرآنية، وبعيدون كل البعد عن ثقافة (إياك نعبد وإياك نستعين).
نحب الصالحين ليكونوا قدوتنا بسلوكهم بعبادتهم بأخلاقهم وتوحيدهم ومحبتهم وصلاتهم لله تبارك وتعالى، بطريقة تمسكهم بالنهج المحمدي الصحيح وطريقة تعبدهم وأفكارهم، على سبيل المثال، الإمام زين العابدين في الحج، بقول له أحدهم: لمَ لا تقل (لبيك اللهم لبيك يا بن بنت رسول الله)؟، قال: (خشيت أن أقول (لبيك الله لبيك، فيأتيني نداء يقول لا لبيك ولا سعديك) تأملوا الورع والخشية والتُقى والأدب مع الله سبحانه وتعالى، تأملوا الروحانية والرقي والأخلاق والروح الجميلة، هذا هو سلوك أهل البيت عليهم السلام وهذا ما نعرفه عنهم ولا نعرف غير ذلك، أما السجود والطلب من غير الله تبارك وتعالى حتى من آل البيت أنفسهم، هذا مخالف لروح القرآن الكريم، رغم أن البعض ينبري ويدافع دفاعاً كبيراً استناداً على العاطفة لا على العلم والثقافة القرآنية، بالتالي تجده يصطدم مع القرآن، ويبرر لتلك الروايات المنقوصة والمكذوبة على أهل البيت، لو عاد إلى القرآن لكان إنساناً عاقلاً، ليقرأ قول الله تبارك وتعالى: بسم الله الرحمن الرحيم (والذين يدعون من دون الله لا يخلُقُون شيئاً وهم يُخلَقون)، رسالة الأنبياء والرسل واضحة هي عبادة وتوحيد الله تبارك وتعالى لا غيره، فإن البعض شرّع شيء بعيداً عن ثقافة (إياك نعبد) هذا حتماً لا يُرضي الله تعالى، ولا النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأنه جاءنا ليبلغنا، بالسنة المطهرة والقرآن الكريم، فهذا سلوك أهل البيت وكل المسلمين المؤمنين الخشّع التُقاة.
بالمناسبة، إن سلوك آل البيت وكل عبادتهم وأقوالهم ترجع إلى القرآن وسلوكهم قرآني، وهم أهل التوحيد، رغم كل ما يشاع من الروايات المكذوبة والافتراءات والأشياء المختلقة تُنسب لهم، وهنا أحذر، ليس كل عبارة نقرأها (قال فلان وقال فلان) لا تصدق كل ما تقرأ حتى تتبين، هناك كما أشرت آنفاً، قواعد لعلم الحديث وعلم الرجال، فهناك أطنان من الروايات المكذوبة خاصة على أهل البيت حيث أدخلوا فيها أشياء لعل أخطرها العبادة من دون الله تبارك وتعالى، وللتأكد العودة إلى القرآن هي الحل، فهو الملاذ الآمن الذي يبين الحقيقة كما هي، فإن لم نعتمد القرآن كمنهج لنا نحن المؤمنون والمسلمون، فعلى الدنيا السلام، فالأتقياء من الأنبياء والصالحين والمؤمنين هم قدوة لنا لكن هم بشر، ولكن ليس فيهم خصائص من الله تبارك وتعالى، فالتعمق في صفات الله تعالى وأسمائه الحسنى والعودة إلى الثقافة القرآنية سيتأكد الكثير انهم كانوا في ضلال وتيه، وهنا لا بد من الإشارة لنقطة مهما، أنه لا أقول إن محبة الأشخاص خطأ، فهذا كله سلوك إيماني مهم، للتفكير بخشوع عند زيارة القبور على سبيل المثال، فالزيارة هنا فيها من العظة الكثير وأن الإنسان مهما كبر وتجبر إن لم يتعظ فمصيره الموت الذي هو حق، فما بالكم إن كان هذا الإنسان من أهل الورع والتُقى، هذا جميل فالمحبة جميلة لكن الأجمل أن تسير على خطى من تحب، لا أن تفتري عليه، خاصة الأشخاص الأتقياء.
أخيراً، كن مع الله، ولا تطلب إلا من الله تبارك وتعالى، ولتجعل العنوان الأبرز في حياتك القرآن الكريم، ولا تذل نفسك لكائن من كان ولا لأي مخلوق على هذه الأرض إلا الله تبارك وتعالى، رغم أن الإنسان لدى رب العباد، مكرم (ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا)، فالإنسان لا يذل نفسه إلا للخالق عز وجل في طاعته من سجود وطلب واستغاثة واستخارة فاللجوء إلى الله هو الصحيح ودونه (ضلال وشرك بالله)، قال تعالى: (أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَٰهٌ مَّعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَّا تَذَكَّرُونَ)، لنرجع إلى الله ولا غير الله تعالى.
إن “إياك نعبد”، تستحضر لك الخشوع والعبادة والعظة والعبرة، ففيها سر عظيم وكنز ثمين، ومعنىً رائع في سياقٍ قرآني إن تأملته بروحانية تشعر بصلتك المقربة من الخالق عز وجل، وكيف لا وهو الذي كرمك واصطفاك دون سائر العباد، قال تبارك وتعالى: (ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا)، فالعبادة هي غاية التذلل، ولا أحد يستحق العبادة إلا الله. لا أحد يستحق أن يتذلّل له نهاية التذلل إلا الله وحده. هذه هي العبادة، (إياك نعبد وإياك نستعين) هي رسالة الأنبياء من سيدنا آدم عليه السلام إلى نبي الله محمد صلى الله عليه وآله وسلم، فالهدف من هذه الآية وقف الصراع الذي كان منذ بداية الخلق إلى يومنا هذا، من خلال عبادة الله تبارك وتعالى دون غيره، ولا يُدخل الجنة إلا عبادة الله عز وجل، فكرامة الإنسان وتكريمه هي في (إياك نعبد وإياك نستعين).
الجانب الآخر لقوة الآية العظيمة ستكون عن الحب بعد توضيح العبادة، في مقالٍ لاحق بعونه تعالى.
ملاحظة: أتمنى قراءة كتاب “تفسير الآلوسي – روح المعاني” للآية أعلاه، ففيها تحذير وشرح لكثير من العلماء، وهنا أنصح نصيحة لوجه الله تبارك وتعالى، أن يرجع الإنسان إلى القرآن وإلى الثقافة القرآنية دون أن ننصت لأحدٍ يتحكم بنا بالعواطف، فلنجعل عقلنا مع القرآن ومع المنطق القرآني، ففي كتاب الله العصمة والخير والهدى، وفيه خير الدنيا والآخرة.
د. عبدالعزيز بن بدر القطان