لا شك أن عقوبة القتل أقدر العقوبات على صرف الناس عن الجريمة ومهما كانت العوامل الدافعة إلى الجريمة فإن عقوبة القتل تولد غالباً في نفس الإنسان من العوامل الصارفة عن الجريمة وما يكبت العوامل الدافعة إليها ويمنع من ارتكاب الجريمة في أغلب الأحوال.
وأكثر الدول اليوم تحمي نظامها الاجتماعي بأشد العقوبات تفرضها على من يخرج على هذا النظام أو يحاول هدمه أو إضعافه، وأول العقوبات التي تفرضها القوانين الوضعية لحماية النظام الاجتماعي هي عقوبة الإعدام؛ أي القتل، فالقوانين الوضعية اليوم تعاقب على الإخلال بالنظام الاجتماعي بنفس العقوبة التي وضعتها الشريعة لحماية النظام الاجتماعي الإسلامي.
القصاص
جعلت الشريعة القصاص عقوبة للقتل العمد والجرح العمد, ومعنى القصاص أن يعاقب المجرم بمثل فعله، فيقتل كما قتل ويجرح كما جرح، ومصدر هذه العقوبة، القرآن الكريم والسنة النبوية، قال تبارك وتعالى: (يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى)، وجاءت السنة مؤكدة لما جاء به القرآن، وليس في العالم كله قديمه وحديثه عقوبة تفضل عقوبة القصاص, فهي أعدل العقوبات, إذ لا يجازي المجرم إلا بمثل فعله, وهي أفضل العقوبات للأمن والنظام؛ لأن المجرم حينما يعلم أنه سيجزى بمثل فعله لا يرتكب الجريمة غالباً، والذي يدفع المجرم بصفة عامة للقتل والجرح هو تنازع البقاء وحب التغلب والاستعلاء، فإذا علم المجرم أنه لن يبقى بعد فريسته أبقى على نفسه بإبقائه على فريسته، وإذا علم أنه إذا تغلب على المجني عليه اليوم فهو متغلب عليه غداً لم يتطلع إلى التغلب عليه عن طريق الجريمة, وأمامنا على ذلك الأمثلة العملية نراها كل يوم, فالرجل العصبي المزاج السريع إلى الشر تراه أهدأ ما يكون وأبعد عن الشر وطلب الشجار إذا رأى خصمه أقوى منه أو قدر أنه سيرد على الاعتداء بمثله. والرجل المسلح قد لا يثنيه شيء عن الاعتداء ولكنه يتراجع ويتردد إذا رأى خصمه مسلحاً مثله ويستطيع أن يرد على الاعتداء بالاعتداء. تلك هي طبيعة البشر وضعت الشريعة على أساسها عقوبة القصاص, فكل دافع نفسي يدعو إلى الجريمة يواجه من عقوبة القصاص, دافعاً نفسياً مضاداً يصرف عن الجريمة، وذلك ما يتفق تمام الاتفاق مع علم النفس الحديث.
والقوانين الوضعية الحديثة تعترف بعقوبة القصاص ولكنها تطبقها على جريمة القتل فقط, فتعاقب بالإعدام على القتل ولكنها لا تعاقب بالقصاص على الجراح, وتكتفي في عقاب الجارح بالغرامة والحبس أو بأحدهما، في حين أن الشريعة الإسلامية حين سوت بين القتل والجراح في نوع العقوبة كانت طبيعية ومنطقية.
أما القوانين الوضعية فقد بعدت عن المنطق حين فرقت في نوع العقوبة بين هاتين الجريمتين, وذلك أن جريمتي القتل والجرح من نوع واحد وينبعثان عن دافع واحد، ولا يكون القتل قتلاً قبل أن يكون ضرباً أو جرحاً في أغلب الأحوال, وإنما ينتهي بعض الجروح أو الضربات بالوفاة, وينتهي البعض بالشفاء فتسمى هذه جراحاً كما تسمى تلك قتلاً, وما دام الجريمتان من نوع واحد فوجب أن تكون عقوبتهما من نوع واحد، وإذا كانت النتيجة في كل من الجريمتين تخالف الأخرى، فإن نتيجة العقوبة مخالفة أيضاً بنفس المقدار لا تزيد ولا تنقص، فالجريمتان نوعهما واحد وأصلهما الجرح, وعقوبتهما من نوع واحد وهو القصاص, وإحدى الجريمتين تنتهي بقتل المجني عليه وعقوبتها قتل المجرم, والجريمة الثانية تنتهي بجرح المجني عليه وعقوبتها جرح المجرم, وهذا هو منطق الشريعة الدقيق وفنها العميق الذي لم يصل إليه القانون بعد، والذي قد يصل إليه بعد حين طويل أو قصير ولكنه سيصل إليه دون شك؛ لأن الأساس الأول في الشرائع على العموم هو المنطق, وما دامت القوانين تعترف بعقوبة القصاص وتطبيقها على جريمة القتل, وما دام المنطق يقضي بأن تطبق هذه العقوبة على جريمة الجرح أيضاً, فلابد من أن تخضع القوانين لهذا المنطق الذي أخذت بأسبابه واعترفت بمقدماته.
وللمجني عليه ولوليه حق العفو عن عقوبة القصاص, فإذا عفا سقطت العقوبة، والعفو قد يكون مجاناً وقد يكون مقابل الدية, ولكن سقوط عقوبة القصاص بالعفو لا يمنع ولي الأمر من أن يعاقب المجرم بعقوبة تعزيرية مناسبة، والأصل في الشريعة أن المجني عليه ليس له في الجرائم عامة حق العفو عن العقوبة, ولكن هذا الحق أعطى استثناء للمجني عليه أو وليه في جرائم القصاص والدية دون غيرها من الجرائم؛ لأن هذه الجرائم تتصل اتصالاً وثيقاً بشخص المجني عليه, ولأنها تمس المجني عليه أكثر مما تمس أمن الجماعة ونظامها، ولم تخش الشريعة أن يمس حق المجني عليه في العفو الأمن العام والنظام؛ لأن جريمة القتل والجرح إذا كانت اعتداء خطيراً على أمن الفرد, فإنها ليست في هذه الخطورة بالنسبة لأمن الجماعة، فكل إنسان لا يخاف قاتل غيره أو ضارب ولا يخشى أن يعتدي عليه؛ لأنه يعرف أن القتل أو الجرح أو الضرب لا يكون إلا عن دافع شخصي, أما السارق مثلاً فيخافه كل فرد ويخشاه؛ لأنه يعلم أن السارق يطلب المال أنى وجده ولا يطلب مال شخص بعينه.
ولقد كانت الشريعة عملية ومنطقية في منح حق العفو للمجني عليه أو وليه؛ لأن العقوبة فرضت أصلاً لمحاربة الجريمة ولكنها لا تمنع وقوع الجريمة في أغلب الأحوال, أما العفو فيؤدي إلى منع الجريمة في أغلب الأحوال، لأنه لا يكون إلا بعد الصلح والتراضي وصفاء النفوس وخلوها من كل ما يدعو إلى الجريمة والإجرام, فالعفو هنا يؤدي وظيفة العقوبة وينتهي إلى نهاية تعجز العقوبة عن الوصول إليها, وهذا هو الوجه العملي لتقرير حق العفو.
أما من ناحية المنطق فقد قلنا إن جرائم القتل والجرح جرائم شخصية, فهي تصدر عن دوافع شخصية في نفس المجرم سببها شخصية المجني عليه, وهي تمس المجني عليه في حياته وبدنه أكثر مما تمس المجتمع في أمنه, فمن حق المجني عليه أن يكون لشخصيته اعتبار في توقيع العقوبة ما دامت الجريمة متصلة بشخصه هذا الاتصال، وإذا كانت الشريعة الإسلامية قد اعترفت بحق المجني عليه في أن يعفو عن عقوبة بعض الجرائم, فإن القوانين الوضعية تعترف بنفس هذا المبدأ وإن كانت لا تطبقه على نفس الجرائم التي ينطبق عليها في الشريعة, ذلك أن من القوانين الوضعية ما يعترف بحق الزوج وهو المجني عليه في جريمة الزنا في أن يعفو عن عقوبة زوجته الزانية.
الشريعة إذن لم تأتِ بشيء غريب حين اعترفت للمجني عليه بحق العفو وإنما جاءت بمبدأ تعترف به اليوم أحدث القوانين, وتبقى الشريعة بعد ذلك متفوقة على القانون الوضعي تفوقاً ظاهراً في أنها أحسنت اختيار المنطقة التي يطبق فيها المبدأ؛ لأن تقرير حق العفو في جرائم القتل والجرح يؤدي إلى الوفاق والوئام، ويقضي على دواعي النفور وبواعث الانتقام، فتقل بذلك الجرائم وتخف حدة الإجرام، أما القانون فقد أساء اختيار المنطقة التي يطبق فيها المبدأ, لأن تقرير حق العفو ي جريمة الزنا يؤدي إلى شيوع الفاحشة وفساد الأخلاق, ويهدم نظام الأسرة وإن أريد به الوفاق الوقتي بين الزوجين, وإذا هدم نظام الأسرة فقد هدم الركن الركين الذي يقوم عليه المجتمع, وما وجد القانون لهدم الجماعة وإنما وجد للمحافظة عليها.
من هنا، تفوقت الشريعة على القانون الوضعي لجهة أمن الأوطان والمجتمعات مع العناية بالإنسان، هذا ما سيتبين لاحقاً من خلال التفريق بين احكام الشريعة والقانون الوضعي بحسب آراء الفقهاء القانونيين والشرعيين.
د. عبدالعزيز بن بدر القطان