شرحنا في موضوعات سابقة، أنواع العقوبات في الشريعة الإسلامية والمميزات التي تميز كل نوع عن النوع الآخر. وذكرنا أن الشريعة حرصت في عقوبات جرائم الحدود وجرائم القصاص على تقرير عقوبة أو عقوبات خاصة لكل جريمة، وإنها نظرت في تقرير هذه العقوبات إلى الجريمة دون المجرم، وإنها حدت من سلطة القاضي تلقاء هذه العقوبات بحيث جعلته مسيراً لا مخيراً، فلا يستطيع أن ينقص من العقوبة أو يزيد عليها, ولا يستطيع أن يخفف العقوبة أو يقويها؛ لأن العقوبات المقررة عقوبات مقدرة.
كما حدت الشريعة من سلطان القاضي حدت من سلطان المشرع, فليس له أن يستبدل بعقوبة أخرى وليس له أن يعفو عن العقوبة أو يوقف تنفيذها وإن كان له أن يغلظ العقوبة المقرة بعقوبة تعزيرية أخرى, فليس له مثلاً أن يجعل عقوبة القذف خمسين جلدة ولكنه يستطيع أن يضيف إلى عقوبة الجلد المقررة للقذف عقوبة الغرامة أو الحبس, وأن يزيد عقوبة الجلد عن ثمانين جلدة، فتكون الزيادة عقوبة تعزيرية, وليس للشارع أن يستبدل بالقصاص عقوبة أخرى, أو ينقص الدية, ولكن له أن يضيف إلى القصاص أو الدية عقوبة الجلد , الحبس أو غير ذلك من العقوبات التعزيرية، مجموع الجرائم التي اهتمت فيها الشريعة بالجريمة وأهملت شأن الجاني هو اثنتا عشرة جريمة، وما عدا ذلك من الجرائم فينظر فيها إلى الجريمة وإلى المجرم معاً، وقد لا يستطيع الإنسان لأول وهلة أن يفهم حكمة الشريعة الإسلامية من تشددها في هذه الجرائم الاثنتى عشرة وتساهلها في بقية الجرائم وهي تعد بالمئات، وقد يكون عجزه عن الفهم راجعاً إلى أنه ينظر إلى عدد هذه الجرائم الاثنتى عشرة ويقارنه بعدد الجرائم الباقية وهي مئات، والواقع أن النسبة بين عدد جرائم الحدود وجرائم القصاص والدية وبين عدد الجرائم الأخرى هي نسبة ضئيلة جداً، ونستطيع أن نصل إلى هذه النسبة على وجه التقريب لو عددنا نصوص قانون العقوبات التي تكلمت عن جرائم الحدود وجرائم القصاص والدية وقارناها بعدد النصوص التي تكلمت عن الجرائم الأخرى.
ومن تتبع نصوص قانون العقوبات المصري وجد المواد التي تتكلم عن جرائم الحدود وجرائم القصاص والدية لا تصل إلى خمسين مادة، بينما النصوص التي تتكلم عن الجنايات والجنح تبلغ ثلاثمائة مادة، وهناك قوانين خاصة تعاقب على جنح كثيرة، فلو فرضنا أن نصوصها لا تزيد على ثلاثمائة مادة أيضاً وهي في الواقع أكثر من ذلك بكثير كان عدد الجنايات والجنح داخلاً تحت ستمائة مادة، وكانت النسبة بين عدد جرائم الحدود وجرائم القصاص والدية وبين بقية الجرائم الأخرى 8 وهي نسبة لا شك في ضآلتها من الوجهة النظرية.
ولكن المرء يستطيع في يسر وسهولة أن يصل إلى حكمة الشريعة في تشددها في جرائم الحدود وجرائم القصاص والدية إذا علم أن الجرائم لا تقع بنسبة واحدة، وأن أكثر الجرائم وقوعاً وتكراراً هي جرائم الحدود، وجرائم القصاص والدية، وأن معظم الجرائم الباقية نادر الوقوع وأقلها هو الذي يتكرر ويكثر وقوعه، ولكن لا يصل إلى الدرجة التي تتكرر بها جرائم الحدود والقصاص، ونستطيع أن ندرك حكمة الشريعة على حقيقتها إذا رجعنا إلى الإحصائيات الجنائية، فإن هذه الإحصائيات تدل دلالة قاطعة على أن جرائم الحدود وجرائم القصاص والدية هي أكثر الجرائم وقوعاً في الحياة اليومية، وأن هذه الجرائم لو انقطع وقوعها لما عرف الناس الجريمة ولما شعروا بوقوع الجرائم، ونستطيع أن نتخذ الإحصائيات الجنائية المصرية دليلاً على ذلك، فقد بلغ عدد الجنايات 8175 جناية في سنة 1942 – 1943، منها 1752 جناية قتل عمد، 1119 جناية شروع في قتل، 989 جناية سرقة بإكراه وشروع فيها، 243 جناية هتك عرض وفسق، 326 جناية ضرب أفضى للموت، 1196 جناية ضرب نشأ عنه عاهة مستديمة، 634 جناية عود وكلها تقريباً سرقات، وهذه جميعاً من جرائم الحدود وجرائم القصاص والدية ومجموعها 6270 جناية، ومعنى هذا أن جرائم الحدود والقصاص في الجنايات تقع بنسبة 76.6 من مجموع الجنايات، وبلغ عدد الجنح 297557 جنحة في سنة 1942 – 1943، منها 97320 جنحة سرقة، 14828 جنحة خطأ، 1182 جنحة قتل خطأ، 60223 جنحة ضرب، 405 جنحة هتك عرض، 1929 جنحة قذف وسب، 4695 جنحة تعدٍّ ومقاومة، وهذه كلها من جرائم الحدود وجرائم القصاص والدية ومجموعها 181762 جنحة، ومعنى هذا أن جرائم الحدود والقصاص في الجنح تقع بنسبة 61 من مجموع الجنح تقريباً.
بالتالي، إن الإحصائيات تؤكد أن الشريعة وضعت عقوبات جرائم الحدود والقصاص لأغراض ثلاثة هي: حفظ الأمن, وتثبيت النظام, وصيانة الأخلاق, ولا شك أنه إذا سلم للأمة أمنها ونظامها وأخلاقها فقد سلم لها كل شيء, ولم يقف في طريق تقدمها ورقيها أي شيء.
ولقد أبرزت التجارب الحديثة أحسن الأنظمة الجنائية, وتبين أن هذا النظام المنشود هو الشريعة الإسلامية, وكانت التجارب التي امتحنت فيها عقوبات الشريعة على نوعين: كلية, جزئية، فأما التجربة الكلية فقد بدئ بها في الحجاز قبل أعوام كثيرة، حيث طبقت الشريعة الإسلامية تطبيقاً تاماً, ونجحت نجاحاً منقطع النظير في القضاء على الإجرام وحفظ الأمن والنظام، إذ أن النظام الجنائي في الشريعة الإسلامية يؤدي عملياً إلى قطع دابر الجريمة, وأنه النظام الذي يبحث عنه ويتمناه اتحاد القانون الدولي.
أما التجربة الجزئية فقد قامت بها أولا إنكلترا والولايات المتحدة الأمريكية ومصر وبعض الدول الأخرى, ثم قامت بها أخيراً كل دول العالم تقريباً وقد نجحت هذه التجربة الجزئية أيضاً نجاح منقطع النظير. وقد سميت هذه التجربة بالتجربة الجزئية؛ لأنها جاءت قاصرة على عقوبة واحدة من عقوبات الشريعة الإسلامية وهي عقوبة الجلد, فإنكلترا تعترف بالجلد عقوبة أساسية في قوانينها الجنائية والعسكرية, ومصر تعترف بها في قوانينها العسكرية, والولايات المتحدة الأمريكية وبعض الدول تجعل الجلد عقوبة أساسية في الجرائم التي يرتكبها المسجون, ثم جاءت الحرب الأخيرة فقررت كل الدول تقريباً عقوبة الجلد على جرائم التموين والتسعير وبعض الجرائم الأخرى الماسة بالنظام أو الأمن العام, وهذا اعتراف عام عالمي بأن عقوبة الجلد أفعل من أية عقوبة أخرى, وأنها الوحيدة التي تكفل حمل الجماهير على طاعة القانون وحفظ النظام, وأن كل عقوبات القوانين الوضعية لا تغني عن عقوبة الجلد شيئاً, وهذا الاعتراف العالمي هو في الوقت نفسه اعتراف بنجاح الشريعة الإسلامية في محاربة الجريمة؛ لأن عقوبة الجلد هي إحدى العقوبات الأساسية في الشريعة.
هذه هي التجارب قاطعة في أن عقوبات الشريعة الإسلامية تؤدي عملاً إلى نتائج أكيدة في كفاح الجريمة وأن أي نظام جنائي وضعي يعجز عن الوصول إلى بعض النتائج التي يصل إليها نظام الشريعة الجنائي, ولعل السر في نجاح الشريعة أن عقوباتها وضعت على أساس طبيعة الإنسان, ففي طبيعة الإنسان أن يخشى ويرجو, وهو لا يأتي أي عمل إلا بقدر ما ينتظر من منافعه, ولا ينتهي عن عمل إلا بقد ما يخشى من مضاره، لأن طبيعة الإنسان تلازمه في الخير والشر، في الأعمال المباحة والأعمال المحرمة, فلا يرتكب الجريمة إلا لما ينتظره منها من منفعة, ولا ينتهي عن الجريمة إلا لما يخشاه من مضارها, كلما اشتدت العقوبة كلما ابتعد الناس عن الجريمة, وكما خفت العقوبة كلما ازداد إقبالهم على الجريمة.
د. عبدالعزيز بن بدر القطان