يشير آخر تقرير سنوي متاح لوزارة التنمية الاجتماعية (2019) إلى وجود (32) جمعية مهنية، و(30) جمعية ومؤسسة خيرية، و(59) جمعية للمرأة العُمانية، بالإضافة إلى (12) ناديا اجتماعيا للجاليات الأجنبية، تشكل بنية (مؤسسات المجتمع المدني/ الجمعيات الأهلية) في السلطنة، ولكننا لا نستطيع على وجه الدقة الإجابة على أسئلة محورية بمساهمة هذه المؤسسات في مشهد التنمية المستديمة من قبيل:
– كم تبلغ نسبة مساهمة هذه المؤسسات في الاقتصاد الوطني باعتبارها قطاعا ثالثا؟
– كم تستوعب هذه المؤسسات من مجمل القوى العاملة الوطنية؟
– كيف يمكن قياس فكرة العائد الاقتصادي من التطوع بشكل عام في السلطنة؟
تتجاوز الكثير من الأدبيات اليوم مفهوم (الجمعيات) إلى مفهوم القطاع الثالث أو القطاع غير الربحي، في إشارة إلى الدور المحوري الذي يلعبه هذا القطاع في الاقتصادات الوطنية ومشهد التنمية المستديمة إلى جانب القطاع الحكومي، والقطاع الخاص، وبرزت خلال السنوات الماضية اتجاهات لتأطير مفهوم الشراكة بين القطاع العام والقطاع الثالث، موازاة بأدبيات الشراكة بين القطاع العام والقطاع الخاص (PPP). ويعرف القطاع الثالث أو القطاع غير الربحي- بحسب منتدى الرياض الاقتصادي- على أنه: «كيانات قانونية أو اجتماعية منشأة بغرض التخفيف من المعاناة، وتعزيز مصالح الفقراء، وحماية البيئة، وتوفير الخدمات الاجتماعية الأساسية، أو القيام بتنمية المجتمع، وإنتاج السلع والخدمات». وبالتالي فهو يتوسع في مفهومه ليشمل أشكال (التعاونيات – الأوقاف – مؤسسات النفع العام – المبادرات الشبابية – التطوع الموسمي/ التطوع أثناء الأزمات) وسواها من الأشكال التي يمكن أن ينخرط فيها أفراد المجتمع ليس لأغراض ربحية صرفة، وإنما لتحقيق النفع المجتمعي والمساهمة في التنمية الاجتماعية المستديمة.
وأصبح مفهوم القطاع الثالث يقترن اليوم بمفهوم آخر وهو اقتصاد التضامن أو الاقتصاد الاجتماعي في إشارة إلى الدور الذي تلعبه هذه الكيانات في تحريك شكل جديد من أشكال الاقتصاد وبروزه وهو كما يعرفه خوسيه لويس مونزون: «مجموعة المؤسسات الخاصة المنظمة رسميًا، والتي تتمتع باستقلالية القرار وحرية العضوية، والتي تم إنشاؤها لتلبية احتياجات أعضائها من خلال السوق من خلال إنتاج السلع وتقديم الخدمات والتأمين والتمويل، حيث يتم اتخاذ القرار وأي توزيع للأرباح أو لا ترتبط الفوائض بين الأعضاء بشكل مباشر برأس المال أو الرسوم التي يساهم بها كل عضو، ولكل منهم صوت واحد. يشمل الاقتصاد الاجتماعي أيضًا المنظمات الخاصة المنظمة رسميًا التي تتمتع باستقلالية القرار وحرية العضوية التي تنتج خدمات غير سوقية للأسر والتي لا يمكن للجهات الاقتصادية التي تنشئها أو تتحكم فيها أو تمول فوائضها، إن وجدت». ويضم القطاع الثالث في بلد مثل بلجيكا ما يزيد عن 12% من نسبة القوى العاملة، وحسب آخر تقرير للمعهد الحضري في الولايات المتحدة، فإن القطاع ساهم في الاقتصاد الأمريكي بما نسبته 5.6% في عام 2016 خالقًا 12.3 مليون وظيفة غير ربحية، كل هذه الأرقام والمؤشرات في تقديرنا لا يمكن أن تقرأ في معزل عن طبيعة التمكين والفلسفة التي يتم التعامل بها إزاء القطاع وتنظيمه والاستراتيجيات المساهمة في تعزيز أدواره في التنمية المستديمة.
وتمثل المرحلة الراهنة من عمر الدولة والمجتمع في عُمان إلحاحًا لضرورة الانتقال من مفهوم الجمعيات الأهلية إلى توسيع الرؤية نحو تفعيل القطاع الثالث غير الربحي، والانتقال هنا ليس في صورة التسمية وحدها، وإنما في الاستتباعات الهيكلية التي يفرضها المفهوم، وفي تقديرنا فإن ذلك يمكن عبر إعادة النظر في القوانين والتشريعات الناظمة للقطاع عمومًا وضم التطوع والمبادرات الشبابية والفرق الأهلية إلى نطاق القطاع غير الربحي وتخفيف القيود على توسع هذه الكيانات جغرافيًا تحقيقًا لمبدأ (اللا مركزية) الذي يعتد به كأحد موجهات التنمية الوطنية في السنوات المقبلة، وتعزيز اتجاهات المجتمع نحو إنشاء التعاونيات وتعميمها في مختلف المحافظات بما يحقق إتاحة السلع والمنتجات والخدمات في إطار اقتصادي يتلاءم وواقع المجتمع المعيشي وحاجياته وإمكانياته، كما أن المرحلة تقتضي ضرورة الانخراط في برامج وطنية لإعداد وتأهيل قادة القطاع الثالث بطريقة توازي تأهيل القيادات في القطاعين العام والخاص، وفق أحدث الممارسات التي يمكن من خلالها لهذه القيادات أن تضع أفكار ورؤى ابتكارية للمنتجات والخدمات وطرائق استيعاب القطاع للقوى البشرية وتعزيز جاذبية مؤسساته للتطوع والعمل من قبل الأفراد ومواجهة مشكلات العزوف العام عن العمل المدني في صيغه المؤسسية.
لا زالت مؤسسات المجتمع المدني في عُمان تعاني من إشكال قدرتها على الجذب، فعدد الأعضاء في مختلف أشكال المؤسسات أقل من 1% من إجمالي السكان، ونعتقد أنه من مداخل تعزيز جاذبية القطاع الانخراط في تأسيس الشراكة وفق نهج استراتيجي بين (مؤسسات المجتمع المدني والقطاع العام) فهناك عديد المشروعات والبرامج والخدمات الحكومية التي يمكن إسنادها لهذه المؤسسات وخاصة في مجالات (الرعاية الاجتماعية – الخدمات الاجتماعية – صيانة المرافق العامة – الخدمات الصحية الأولية– خدمات الاستشارات بمختلف أشكالها – خدمات التوعية والإعلام – الخدمات الثقافية – خدمات بناء القدرات وتعزيز رأس المال البشري) وغيرها من القطاعات التي يمكن أن تخدم فيها هذه المؤسسات بالشراكة الفاعلة – الممنهجة – الاستراتيجية مع القطاع العام بما يحقق: تمكين هذه المؤسسات – تخفيف العبء عن المؤسسات والموازنات الحكومية – والإسهام في اقتصاد التضامن، عوضًا عن ذلك ستسهم هذه الشراكة في إدماج فئات كثيرة من المختصين والخبرات في مجالات مختلفة في عمل هذه المؤسسات وفي الخدمات والسلع والمنتجات التي تقدمها، خصوصًا فئة الخبرات المتقاعدة من العمل الحكومي، والشباب الباحث عن فرص الشغل، مما يوقف نزف القدرات والكفاءات عبر دورة الحياة الاجتماعية.
كما يمكن بحث إيجاد خيارات تمويل متعددة المصادر لأعمال هذا القطاع عوضًا عن الدعم الحكومي، بما في ذلك خيارات تمويل بنكي تشترط وفق نظم محددة للحوكمة والاستثمار. كل ذلك في سبيل إرساء قطاع ثالث قادر على توفير اقتصاد التضامن وحفزه لتحقيق ثلاثية (العدالة الاجتماعية – المساواة – إتاحة الخدمات والمنتجات الأكثر ملاءمة لواقع المجتمع المعيشي).