فيليب ستيفنز – الفاينانشال تايمز /
ترجمة قاسم مكي
بالنسبة (للبعض) في أفغانستان عودةُ حكمِ طالبان مأساة وخيانة للثقة. وبالنسبة للولايات المتحدة الفرار من كابول هزيمة استراتيجية. وبالنسبة لأوروبا ما حدث تعبير مزلزل لما صار إليه العالم.
وسيجد المؤرخون في الأحداث الكئيبة التي شهدها هذا الأسبوع استعارةً وصفية للاضطرابات الجيوسياسية في العقود الأولى من هذا القرن.
عندما وصلت القوات الأمريكية إلى كابول بعد هجمات القاعدة في الأول من سبتمبر 2001 كان الافتراض السائد هو أن الهيمنة الأمريكية في العالم لن تواجه تحديا في أي مكان يمكن أن يمتد إليه البصر. لكن في الحقيقة كانت لحظة سيطرة القطب الواحد في حقبة ما بعد الحرب الباردة تنقضي.
تحدي النظامِ القديم لم يكن مصدره فقط طموحات الصين التي تعاظمت جرأتها ورغبتها في التحول إلى قوة عظمى. فتحويل السطوة الاقتصادية والعسكرية إلى نفوذ دولي يتطلب إرادة سياسية. والقيادة لها ثمنها. الهزيمة في العراق والانسداد في أفغانستان والمتاعب الاقتصادية الداخلية جعلت الأمريكيين يضيقون ذرعا من سداد ثمنها. ربما تربك الصور التلفزيونية (القادمة من كابول) الرئيس جو بايدن. لكن الناخبين الأمريكيين يريدون خروج القوات الأمريكية.
لا يمكن للغرب أن “ينتصر” إطلاقا في أفغانستان. أحلام بناء البلدان التي وَسَمَت نزعةَ التدخل الليبرالية في ذروتها كانت حسنة المقاصد بما يكفي. ليس ثمة شيء خاطئ في الترويج للديموقراطية وحكم القانون. لكن “قالب” الغرب لم يعترف بحقائق مجتمع قبلي ومتشظ لم يقبل أبدا أن يحكم من المركز. ( نزعة التدخل الليبرالية مقاربة في السياسة الخارجية ويقصد بها الدعوة إلى تدخل الدول الليبرالية في شؤون الدول الأخرى من أجل أهداف ليبرالية. ويشمل هذا التدخل الغزو العسكري والعون الإنساني. وهي جزء من مبدأ الدولية الليبرالية في العلاقات الدولية– المترجم)
تُظهِر سجلات التاريخ أن الأفغان ظلوا يدحرون الأجانب الذين يسعون لفرض وضع جديد عليهم؟ لكن إذا كان هنالك ثمة شيء يوحد قادة الغرب في الفترة الأخيرة فهو تجاهلهم لدروس التاريخ.
لكل ذلك كان من الممكن لبايدن اختيار الإبقاء على الوضع القائم رغم عدم مثاليته. هناك، نُتَفُ الحداثةِ وما يشبه مظاهر الديموقراطية والحقوق الأساسية للنساء كل ذلك تحقق بتكلفة مستدامة. وهي تكلفة تتقاسمها الولايات المتحدة مع حلفائها في الناتو.
الرئيس الأمريكي لا يرى وجوبا للاعتذار عما حدث. كانت المسارعة إلى الفرار تصرفا غريزيا للرئيس دونالد ترامب. لكنها الآن جزء من مبدأ بايدن ( في السياسة الخارجية). فالحدود التي تعرِّف المصالح الوطنية للولايات المتحدة يلزم التشدد في رسمها. وأمريكا ستعمل على الدفاع عن نفسها عندما تُهدَّد مباشرة. لكنها لن تخاطر بالتضحية بدمائها وأموالها للحفاظ على شيء يسمَّى أمن العالم.
كل هذا لا ينسجم بسهولة مع مقولة بايدن “أمريكا عائدة” ويناقض فكرته القائلة بأن الولايات المتحدة يمكنها إعادة تشكيل نفسها كمدافعة عن الحرية والديموقراطية. باختيارها تكريس كل طاقاتها للتنافس مع الصين، تركت الولايات المتحدة التفوق الأخلاقي وراءها. لن تقاتل أمريكا بعد الآن من أجل أولئك الذين لن يحاربوا لأنفسهم. لا مجال هنا للقيم. لكن هذا ما تبدو عليه دائما السياسة الواقعية.
للواقعية لها ثمنها الخاص بها. تحتاج الولايات المتحدة إلى حلفاء في المنافسة مع الصين. والتقهقر في أفغانستان بالكاد يمنح أصدقاء أمريكا سببا لوضع ثقتهم في واشنطن. كيف يمكن أن يكون حلفاء الناتو واثقين من أن البيت الأبيض عندما يجدُّ الجد مع روسيا فلاديمير بوتين سيعتبر الدفاع عن حدود أوروبا مصلحة حيوية للولايات المتحدة؟
قد يجد الأوروبيون انتظاما أو اتساقا معينا (في السياسة الخارجية الأمريكية). فإدارة جورج دبليو بوش لم تستشرهم بشأن الإطاحة بحكم طالبان. وبايدن، بنفس القدر، تجاهلهم في تقرير الانسحاب من أفغانستان .
لا يمكن لأحد أن يشكو وهو محق بأنه فوجئ. فبايدن يمضي على خطى باراك أوباما وأيضا ترامب في الإيحاء بأن أمريكا حصلت على ما يكفيها من التدخلات العسكرية في آسيا الوسطى والشرق الأوسط.
أوروبا تريد التظاهر بأن العالم على خلاف ما هو عليه. صحيح كثيرا ما يدعو رئيس فرنسا إيمانويل ماكرون رفاقَه الأوروبيين إلى الشروع في اتخاذ خياراتهم الخاصة بهم.
المشكلة هي أنه كثيرا جدا ما يبدو وكأنه يريد من الأمريكيين الرحيل ( عن أوروبا).
أما “بريطانيا العالمية” التي يتصورها بوريس جونسون في مرحلة ما بعد خروجها من الاتحاد الأوروبي فقد غيَّبت نفسها من المسرح العالمي. وألمانيا آنجيلا ميركل ببساطة ترفض الإقرار بأن نزعة الدولية الليبرالية تخلت عن مكانها للسياسة الواقعية التي تنتهجها القوى العظمى .
أنفق قادة القارة الأوروبية في أحسن الأحوال وقتا ضئيلا في دراسة الكيفية التي يمكن أن يدعموا بها الحكومة الأفغانية بدون الأمريكيين. ومن الممكن جدا أن يقودهم التداول الجاد حول ذلك إلى أن ليس ثمة شيء يمكن عمله. لكنه على الأقل سيكون قد شكل خطوة صغيرة في الابتعاد عن الاعتماد القَدرِي (على الولايات المتحدة).
في يوم ما سيلزم أوروبا الإقرار بأن النظام (العالمي) القديم انتهى وإدراك أن العلاقات مع الحلفاء وكذلك مع الخصوم في حقبة تنافس القوى العظمى ستكون شائكة جدا.