كتب (ميشيل كولمان) المبعوث الرئاسي للتنوع والشمول في رابطة الناشرين الدولية في مقال له بعنوان (لا تزال الكلمة المكتوبة قادرة على تغيير العالم) – المنشور ضمن مجلة (WIPO) الصادرة عن المنظمة العالمية للملكية الفكرية (الوايبو)، في عدد يونيو 2020، “إن الكلمة المكتوبة في أبسط أشكالها تتيح نقل المعارف من أفكار المؤلف مباشرة إلى قلوب وعقول القُرَّاء في جميع أنحاء العالم. فهي أحدثت منذ قرون تحولاً في مجتمعنا، ونحن بحاجة في عام 2020 إلى الكلمة المكتوبة – وإلى الناشرين – أكثر من أي وقت مضى”
فكولمان في مقاله هذا يؤكد على سياسة (التنوع والشمول) التي تقوم على أساسها دور النشر المعاصرة، وهي سياسة تتخذ مبدأين أساسين في أنظمة العمل أولهما القدرة على الابتكار في مجال النشر بما يتناسب ومتطلبات العصر التكنولوجي الحديث، وفي هذا يعرض لنا العديد من نماذج الابتكار الخاصة بمجال النشر كما في شركة Springer Nature ، التي قامت بتجميع ونشر نموذج ابتكاري لكتاب يستخدم خوارزميات التعلم الآلي، الذي جرى تطويره بالتعاون مع معمل اللغويات التطبيقية المحوسبة بجامعة غوتة بألمانيا- حسب المقال -، أما ثاني تلك المبادئ فهو (حق المؤلف) باعتباره المسؤول عن فرص الابتكار في صناعة النشر، والذي أتاح للناشرين في المجالات العلمية تقديم معلومات موثوقة في مجالي الصحة والبحث، وهو “أمر مهم دوما، لا سيما الآن أثناء جائحة كورونا” – على حد تعبير كولمان -، وبالتالي فإن دور الناشرين يتعاظم اليوم لضمان توفير محتوى موثوق بفضل حماية حقوق المؤلفين.
ولهذا فإن الحديث عن الملكية الفكرية يبدأ دوما بالابتكار الذي دفع الأمم عبر التاريخ الإنساني إلى حفظ حقوق المبدعين عبر وسائل عدة، حتى أصبحت الملكية الفكرية (بنية قانونية) مهمة، ليس فقط على مستوى حقوق الإنسان، بل أيضا على المستوى الاقتصادي والتنموي عموما، فسياسات الملكية الفكرية وقوانينها لها دور فاعل في إدارة البحوث العلمية، وتعزيز بيئة الابتكارات وريادة الأعمال وتطويرها بما يتناسب مع المعطيات التقنية ومجتمعات المعرفة. مما دعا الدول إلى إيجاد منظمات دولية مختصة، إضافة إلى المعاهدات الدولية والإقليمية التي تأسست منذ القرن التاسع عشر، بغية تشكيل منظومة قانونية ثقافية واقتصادية قادرة على ضمان حقوق الملكية الفكرية.
ولقد أسهمت سلطنة عُمان في ضمان الحقوق الوطنية للملكية الفكرية من خلال مجموعة من التشريعات؛ بدءا من قانون حماية التراث القومي، وقانون حماية المخطوطات، وحتى قانون التراث الثقافي، وقانون حقوق المؤلف والحقوق المجاورة، وقانون المطبوعات والنشر، وقانون الرقابة على المصنفات الفنية، إضافة إلى القوانين المتعلقة بالملكية الصناعية وبراءات الاختراع. كلها تتأسس وفق منظور حماية الملكية الفكرية الوطنية وعلى رأسها حماية التراث الثقافي والموارد الوراثية، وقد تم تعزيز هذه القوانين والسياسات الوطنية بالانضمام إلى العديد من المعاهدات والاتفاقيات الدولية؛ منها الانظمام إلى المنظمة العالمية للملكية الفكرية، ومنظمة التجارة العالمية، والانضمام إلى اتفاقية باريس لحماية الملكية الصناعية، واتفاقية برن لحماية المصنفات الأدبية والفنية وغيرها.
وعلى الرغم من تلك القوانين والسياسات التي اتخذتها السلطنة لحماية الملكية الفكرية الوطنية التي تنبثق من وعيها لأهمية الحقوق الفكرية ودورها التنموي، إضافة إلى الجهود التي تقوم بها المؤسسات المعنية والجامعات، إلا أن الأدوار في غالبها ترتكز على حماية الإرث الثقافي والحضاري سواء أكان ماديا أو غير مادي، إضافة إلى حماية حقوق المؤلف، وهي جهود تشكل – على أهميتها – الدور الأولي لغايات الملكية الفكرية المتمثلة في (الحماية)، والتي تنطوي – بحسب الوايبو – على “الاعتراف بحقوق استئثارية وممارستها”، ولهذا فإن هذه (الحماية) تشمل (الصون) و(الوقاية)، وبالتالي ضمان عدم استخدام الابتكار والإبداع الفكري بشكل غير مناسب لمواد التراث الثقافي والموارد الوراثية بأنواعها المختلفة.
إن منظومة الملكية الفكرية الوطنية للتراث الثقافي والحضاري تضمن حمايته وقدرته على الصمود، والاعتراف بحقوقه الاستئثارية، إضافة إلى حماية الحقوق غير الامتلاكية كأنظمة التعويض المنصفة والحماية من المنافسة غير المشروعة وغيرها. إلَّا أن هذه المنظومة لا تكتمل سوى بإعداد خطط مستقبلية تتأسس على البحث والتكنولوجيا والإبداع والابتكار، الأمر الذي بدأته (الاستراتيجية الوطنية للابتكار)؛ فالاقتصادات الحديثة قائمة على الابتكار في الخدمات والمنتجات بأنواعها، التي لا يمكن أن تنمو وتزدهر دون ضمان لحقوق ملكيتها الفكرية. ولهذا فإن تنشيط البيئة المناسبة للابتكار والإبداع يعني مباشرة تنشيط بيئة الملكية الفكرية بما يعزز التوازن بين البيئة القانونية والإبداعية، ويضمن تنمية المنتجات الابتكارية واستدامتها.
ولهذا فإن إعداد (استراتيجية وطنية للملكية الفكرية) يضمن البيئة المناسبة للابتكار والإبداع والتأليف والنشر وغيرها، ويحدد مؤشرات الأنظمة الابتكارية والإبداعية ويقيس القدرات الشبابية ويطوِّرها بناء على معطيات المرحلة التنموية للدولة، فلا يكفي أن تكون هناك قوانين وأنظمة تحفظ الملكية الفكرية وتحميها، بل أيضا عليها أن توجِد البيئة المناسبة لتنمية المهارات الإبداعية والابتكارية، وآفاق دعمها واستثمارها للمنتجات الابتكارية سواء أكانت مصنفات فنية أو مؤلفات أو ابتكارات صناعية، فتلك المنتجات هي ما يضمن استدامة الابتكار، وضمان حقوق الملكية الفكرية للدولة، وقدرتها على تنمية مهارات مبدعيها ومبتكريها لتحقيق أهداف رؤيتها المنشودة.
يعرض لنا تقرير (الملكية الفكرية لتعزيز الابتكار في المنطقة العربية) الصادر عن اللجنة الاقتصادية والاجتماعية لغربي آسيا (الإسكوا)، تلك العلاقة التي تربط بين بيئة الابتكار وحقوق الملكية الفكرية بناء على أهداف التنمية المستدامة، باعتبار أن المنظومة القانونية لحقوق الملكية الفكرية تشكل البيئة التنظيمية للابتكار في المنطقة العربية، ووفقا لذلك فإن حقوق المؤلف في الصناعات الثقافية والبحوث العلمية والتعليمية، والمنشورات المطبوعة والإلكترونية، إضافة إلى قواعد البيانات وصناعة البرمجيات المرتبطة بحقوق المؤلف، يمكن أن تفقد “من دون هذه الحقوق قيمتها التجارية” – بحسب التقرير –. ولهذا فإن تطور بيئة الابتكار خاصة التقنية منها ترتبط بحفظ الحقوق الثقافية والاقتصادية والتي لا تتأتى سوى بحماية الملكية الفكرية.
وبعيدا عما يعرضه تقرير الإسكوا من تحديات تواجه حقوق الملكية الفكرية وتنميتها في المنطقة العربية، فإنه ينشغل برصد (حق المؤلف/ة، والتوظيف، والناتج المحلي الإجمالي)، والذي يهدف إلى بيان مساهمة الاقتصادات الصناعية القائمة على حق المؤلف في الناتج المحلي وفتح فرص العمل والتجارة، ويقصد بها (الصناعات الإبداعية)، التي تنمو بناء على تطورات التقنية، مما يفتح آفاق هذه الصناعات والوظائف المرتبطة بها، وبالتالي يدعم التوازن القائم بين إنتاج المعرفة ونشرها وامتلاكها، وإيجاد حلول ابتكارية للتحديات التي تواجه الإبداع والإنتاج والتوظيف. ومن أجل تحقيق ذلك لابد أن يكون ضمن أنظمة حقوق الملكية الفكرية أسس لتقييمها من حيث (البيئة التنظيمية)، و(الفاعلية)، و(الفائدة التسويقية)، للوصول إلى إنشاء مصنف محمي، قادر على المنافسة الإقليمية والعالمية على مستوى الإبداع الابتكاري، ومنافس على المستوى التجاري، حتى يحقق الهدف من ابتكاره أو إبداعه، وبالتالي يسهم في العملية التنموية اجتماعيا وثقافيا واقتصاديا.
ولهذا فإن أهمية قوانين حقوق الملكية الفكرية وأنظمتها لا تقتصر على (الحماية) وحسب، بل إن هذه الأهمية تكمن في تشكيل البيئة المحفزة للإبداع والابتكار والحفاظ على حقوق المبدعين والمبتكرين وبالتالي تعزيز تفاعلهم مع التكنولوجيا لإنتاج صناعات جديدة ووظائف إبداعية ذات سمات داعمة لنقل التكنولوجيا عبر الاستثمارات التقنية والمعرفية القائمة على الصناعات الإبداعية المتطورة.