بخلاف ديكارت، لا يمكنني الاستدلال على حقيقة آمنة، حتى لو اتسمت بالضحالة، وأنا أجلس مستمتعا بجانب موقد ألماني يعمل بالحطب. الأمر يستدعي اعتلاء أحد منابر الوعّاظ المهجورة، أولئك الذين أطحنا بهم قبل زمن طويل عبر عدم المبالاة والتهكم وحدهما، عندها فقط سوف أكون في موقع ملائم ليس لإلقاء الخطب بالطبع، وإنما لرؤية أفقية واضحة.
تمخض المذهب المادي، بجانب الشكوكية الدينية، في تقوية زعم المرء بأن كل شيء قابل للجدل، ثم بالتالي هو أكثر قابلية للتدمير، وحيث إن المجتمعات، حتى المسْلمة منها، لم تتمكن من وقف هذا الزحف الفكري، كانت اللذة الشيطانية أكبر وأكثر إغراء للجدل في حقيقة الإله لتدميره هو الآخر، لأن سقوطه يفضي إلى تمزيق كل شيء لشظايا مبعثرة، ومهمة جمع شتاتها واستعادة الحالة الطبيعية لها وإعادة نحتها تصبح حرفة منوطة بعقول النخبة من الماديين المترعة بالشذوذ، الأكثر أهمية هي أنها ليست مهمة دماغك، فالإله الذي قمت بالإطاحة به على عجالة لم يكن مؤشرا عن تقدم ذهني أو معرفي، بل حالة من الإذعان ترتب عليها عقل أكثر قلق، وأنت ترى أنه ليس من الحكمة، إن كنت لا تزال تعتقد بوجود أي حكمة في هذا الكون، أن يستولي مثل هذا العقل على دور الإله في التشريع، والذي بدوره سيعيد رسم العالم حسب المقتضى الجديد لمفهوم الخير والشر، وهذه، في الحقيقة، مجازفة لا يتوق العاقل أن يكون جزءا من روايتها.
في الأعوام الثلاثين الماضية، تجلت نزعة الشك في مجتمعاتنا لا لشيء سوى لذهاب هيبة الدين في نفوس الدائنين به، خاصة حينما اقتضت الحداثة، كإحدى طقوسها، النيل من علمائنا بوصفهم رجعيين لا ينبغي أن ينتظر مثقف، لبس ثوب العلم، منهم شيئا.
ومنذ استفحال هذه النزعة، وجد المرء نفسه في موقف يحملق الناس ناحيته بمجرد أن يقحم في حديثه رأي فقيه، فلا يوجد سبب في نظرهم يدفع الإنسان اضطرارا إلى أن يتصرف بطريقة تعيده إلى الوراء سنة ضوئية كاملة، بينما في المقابل، وهذا ما يحدث، فإن الشخص ذاته يصبح مفكرا، حتى دون تفكير، ما إذا اقتبس على سبيل المثال تأملات بول سارتر أو رينيه ديكارت، كما فعلت متعمدا في بداية هذا المقال.
نعم، لا يمكنني إنكار أن استعطاف المجتمع لهم لقصد احتوائهم فرصة سانحة لإعادة ترتيب أوراقهم والكف عن رشق المنابر بالحصى، ولكن هذه الخطوة تحمل أيضا قدرا مساويا من الإيحاء في وجود مكامن ضعف، حتى لو لم تكن حقيقية، تجلب مع الوقت مزيدا من الجرأة، ولهذه الجرأة طاقة ذات شحنة عالية في توليد أفكار تمردية وصلت في بعض المجتمعات حد تحويل الكتب المقدسة ذخائر لبنادق صيد، وهو ما لا أستبعد حصوله عندنا طالما أن قدواتنا، في زعمهم، أصبحوا بين ليلة وضحاها علماء حيض ونفاس.
ربما يكون من السهولة التسليم في الأسباب النمطية لنشأة هذا التيار، كتلك المتعلقة بالفطرة أو نتيجة خطب دينية متطرفة أو اعتبار الله مجال مشروع للبحث العلمي، غير أن جميعها، وبشكل مثير، لم تكن قادرة على تعطيل مواصلة تخلي الكثير من البالغين، مع معرفتهم المبكرة بالأسباب، عن الإسلام، وما يندرج تحت الأشد إثارة، هو سرعة انزلاقهم من الإيمان بالله إلى الإيمان بعدمه، في برهة تجدهم قد تركوا جلودهم خلفهم مثل ثعبان غوفر صغير، هذه الرغبة الفجائية في الانسلاخ طفرة ملفتة بالنسبة لي، فالكتب والعلم وإعادة النظر في الأشياء وحدها ليست كافية لجعل المرء يرتعب من فكرة الإله، ولا تحمل قدرا من الإغراء حتى لالتقاط الحصى.
إنه كي تقتل إيمان فرد، يتوجب عليك، من ناحية، ممارسة ضغط هائل في زمن مماثل للزمن الذي بني عليه الإيمان المتقدم، ومن ناحية أخرى، أنت في حاجة إلى إيمان جديد قائم على براهين متينة بغية اختراق القديم، ولا مجال لتقليص الزمن إلا بتكرار عملية الضغط ذاتها، وهذه قسوة مفرطة ضد الوعي لا يجرؤ العديد منا على مكابدتها، فأنى لشاب بالكاد بلغ الثلاثين أن يدير ظهره، باستياء واضح، عن الله في ظرف زمني يسير؟
افترضوا الآن أننا لصوص بحار مؤهلين وذوي خبرة شرعنا في إلقاء القبطان في المحيط على نحو لم ندع له فيه مجالا للاستيعاب، وذلك لإفساح الطريق لتحطيم مبدأ مقدس لدى القراصنة كان القبطان من أشد المتعصبين له، نقول في هذه الحالة: إن تقليص الحريات وتضييقها كان المحرك خلف الخلع العملي للقبطان إلى وقت لا رجعة فيه، ولكن لماذا تكون هذه الحقيقة أقل قبولا عندما ندرك أن إرادتنا في الأصل كانت مصوّبة لكسر أحد المحرمات؟ ألا تبدو القصة مألوفة؟
تقويض دور الدين لا لشيء سوى لعدم وجود طريقة مريحة تمارس بها المعاصي هو ظفر مخيف لما يسمى بالهوى، أما في ما يخص السعي خلف الحقيقة فهي رشوة يمنحونها لأنفسهم لقضاء أكبر فترة ممكنة للانغماس فيه.
إن الخطوة الأولى والضرورية لتبني هذا المنحنى ليست تقوية الحجج لغرض الدفاع، وإنما عدم وضع اعتبار حتى لحقيقة واحدة، مهما كان صدقها، في مقدورها ثنيهم عما ينزعون إليه، إنه مهما كانت الخطب الرنانة عن إله السماوات تصدح في آذانهم، سيظل ما تحتها أشد جذبا من الجنة.