– الجامعاتُ التونسيةُ أَطَّرَتْ الباحثين العُمانيين بمناهج متقدِّمة في التفكير والبحث العلمي، وتحوي مكتاباتها عشرات الأطروحات في كافة تخصصات العلوم الإنسانية والفقهية العُمانية.
– العلاقاتُ العلميةُ بين عُمان وتونس قديمة العهد، وقامت على روافد ومرتكزات متجذرة ونتج عنها مشاركة تونسية مبكرة في التعليم النظامي العُماني تتمثل في مدرسة “بوذينة” في مسقط.
– حضرتْ تونسُ كعاصمة ثقافية عربية وبلد حضاري عريق في النَّص الشعري العُماني بقصائد قومية أبدعها أعلام الشعر في عُمان.
على تُونسٍ مني وأبناءِ تُونسٍ
سَلامٌ بمَيْمُونِ الوئامِ سُجومُ
يمثـّلني فيهم وإن غبتُ عنهُمُ
ويغدو بأشواقِي وهُنَّ كلومُ
الشيخ عبدالله بن علي الخليلي.
حظيتْ الكتابات العُمانية في المدرسة التونسية بخواصٍّ ربما لا تتوفر كثيراً في غيرها؛ منها التأكيدُ على المنهج كأساس الكتابة البحثية الأكاديمية وتحليل الخطاب، ثم اعتماد طرائق تحليل ذلك الخطاب بما يتناوله من موضوعات مختلفة وفق رؤية معينة تنطلق من آفاق النصوص البحتة بغية تحليلها ومقاربتها بعيداً عن مناخات كتابتها ومحاولة التفكير في المعنى ومناقشته وتبيان رؤى الفكر فيها وفق جدلية القبول والرفض بمعزل عن أية استعراضات خارجية للمرجعيات والبيئات المكونة للنَّص، ورفضاً لأية تدبيجات تعبيرية وجمل إنشائية غير مبررة…
امتازتْ سائرُ الكتابات العُمانية المنجزة في الجامعات والمعاهد التونسية بالكثافة والكثرة منذ أن أمّها الدارسون العمانيون والطلبة مع منتصف العشرية الأخيرة من القرن العشرين، وكان حضورهم مكثفا ًفيها مع العشرية الأولى من القرن الواحد والعشرين فقدَّموا فيها دراسات في العلوم القانونية والشريعة وأصول الدين والتاريخ والأدب والقانون والعلاقات الدولية والفلسفة غيرها.
وقبل أن أتطرقَ إلى هذه الكتابات لا بُدَّ من إيضاح صورة تونس من الداخل كما عرفتها وعايشتها ورأيتها في دراستي الممتدة بين عامي (1998- 2003) عبر جامعاتها ومراكز أبحاثها ومكتباتها ودور العلم والثقافة فيها وأيضا عبر رجالاتها وعلمائها الذين التقيت بهم وعرفت بعضهم عن قرب في تلك الفترة التي وطأت أقدامي أرضها (1998- 2003).
دُهش العُمانيون في أول مقدمٍ لهم لهذه الديار التونسية البعيدة، ولكن أجدادهم وآباؤهم يعرفونها من قبل عبر التعالق الحضاري والصلات الفكرية القديمة بما أملته عليهم وسائل الاتصالات، ومن خلال وحدة الأرومة والعروبة واللغة والتاريخ المشترك والكيان السياسي للأطروحة القومية والأبعاد الدينية العقدية.
.
.
تونس في النصَّ الشعري العُماني بواكير الحضور
.
.
تنحصرُ دائرة حضور تونس دولة وكياناً في النَصِّ الأدبي العُماني عامة وفي النّص الشعري خاصَّة مدحاً وثناء دون سواه، فلم نقع على غيره، ولعل أبرز ما يمثله قصائد في غرض الإخوانيات لشعراء من مثل: عبد الله الطائي، وأبو سرور، وعبدالله الخليلي، وهلال السيابي؛ فلقد مدح هؤلاء الشعراء أصدقاء لهم من التوانسة، وكان حديثهم عنهم مناسبة للحديث عن أوطانهم، أو فاتحة للكشف عن همومهم الوطنية، والشعراء يستغلون فرصة اللقاء ليجدِّدوا روحَ العلاقات العربية التي تربطهم.
والطريف في هذه النَّص الشعري العُماني الذي وظف تونس كتناص مكاني / جغرافي أن الشاعر يستثمر فيه روح العلاقة العقدية التي تربطه بمن عناه الشاعر في تونس، فالشاعر فيه يخاطبُ أصدقاءً له تربطه بهم صلات دينية / مذهبية على نحو ما يقول أمير البيان العُماني الشيخ عبدالله الخليلي: “يمثلني فيهم وإن غبتُ عنهم……”. وكأنه يومئ إلى أن هؤلاء الأصدقاء، وإن كانوا بعيدين عنه، فإن ديارهم ستبقى خالدة في ذاته لا يبارحها شيء.
.
.
تونس الحضور المبكرة في الذاكرة الجمعية / العلمية العُمانية
.
.
تونسُ غيرُ بعيدةٍ عن وعي العُمانيين منذ أن وفدَ طلبتها لطلب العلم في المدارس الفقهية العُمانية الأولى، منذ أن ذكرتها المصادر التاريخية العُمانية شأن ” نهضة الأعيان ” للشيبة محمد السالمي الذي ينقل فيه ” أن ثمانين طالبا مغاربيًّا تخرجوا من مدرسة العلامة ابن بركة “، ومنذ تأسيس الأستاذ التونسي محمد علي بوذينه مدرسته في مسقط عام ثلاثة عشر وتسعمائة وألف، ومنذ قدوم مئات التوانسة للتدريس بالمدارس والمعاهد والجامعات في عصر النهضة الحديثة؛ كما أن الدورَ التاريخي لإِباضية “جربة” حافلٌ بمساقات التواصل مع أهل عُمان بفعل وشائج القرابة المذهبية التي وطدت علاقات متميزة رغم بُعْد المسافة، وظروف العصر، فكان لذلك أصداء كبيرة في نفوس العُمانيين، منذ قرون طويلة، ونجم عنه حضور مئات العمانيين لإكمال دراساتهم في رحاب مؤسسات التعليم العالي التونسية شأن جامعة الزيتونة وكلية الآداب والعلوم الإنسانية وجامعة القيروان وصفاقس وغيرها فالطلبة العمانيون الذين قدموا للدراسة في تونس غالبا ما يقعُون في الحَلْقَةِ الثانيةِ من طُلاّبِ الخليجِ العرَبي الذين دَرَسُوا في هذه الجَامعة، بلْ وتتلمذوا على مشرفين أكفاء شأن الدكتور محمد الهادي الطرابلسي الذي نقرّ – شخصيًّا- بدوره في تأطيرنا، والدفع بنا إلى صرحها العلمي، بمثل ما كان له الفضل في تكوين جيلٍ من الباحثين قبلنا تبوؤوا اليوم مكانة في بلدانهم الخليجية. فالجامعات التونسية تحظى بالسمعة العلمية المتميزة في مجال الدراسات الأدبية، ومناهج النقد الأدبي، لهذا دفعتنا إلى القدوم إليها دون تردد. وكانت محصلتنا منها مئات الأطروحات العُمانية ضمتها مكتبات جامعاتها ولاسيما مكتبة جامعة الزيتونة حيث تكدس العُمانيين وذهابهم إليها أفواجا بجهود قادتها وزارة الأوقاف والشؤون الدينية ورعاية علمية من لدن الشيخ الدكتور فرحات الجعبيري الذي سهل قدوم هذه الأفواج وأوجد لهم مناخا تعليميا تخرج على أثره طلاب كثر من حملة الماجستير والدكتوراه وانخرطوا في سلك الفقه والدعوة والقضاء ومما يحسب لهم أنهم عرفوا بتراث عُمان وفكرها ومن بين إنتاجهم فيه مئات العناوين علمية في الفقه والشريعة وأصول الدين والقضاء والشعر والأدب والتاريخ والحضارة نعدد منها يلي: شعر اليعاربة للدكتور بدر اليحمدي، و”بناء الإمبراطورية العُمانية الدكتور جمعة بن خليفة البوسعيدي”، الأفلاج في عُمان سالم بن سعيد البحري، التاريخ العُماني في مرحلة اليعاربة، للدكتور حمد الضوياني، ” أصول بيت المال في عمان وأثرها الحضاري في عهد دولة البوسعيد للشيخ أحمد بن سعود السيابي، أحكام النخيل في عُمان لحسن بن خلف الريامي، والدكتورة عزيزة الطائي” الخطاب السردي العُماني: الأنواع والخصائص “.
.
.
تونس في الذاكراة العلمية /الشخصية… مدادُ القلم الأول
.
.
أمَّا عن تجربتي الشخصية الدراسية في البلد العزيز “تونس” فقد وطأت قدماي تونس العربية الجميلة كما توصف في الأدبيات، يوم الثلاثاء العشرين من أغسطس من عام 1998م، في بعثة دراسية لإكمال درجة الدكتوراه في الأدب والنقد، وكانت تجربتي فيها مرتبطة بما حفني به أستاذي الكبير الناقد محمد الهادي الطرابلسي من قراءات مستفيضة منذ أن قرأت كتابه المرجعي “خصائص الأسلوب في الشوقيات” وكتابه “ثقافة التلاقي في أدب شوقي” وكافة كتبه التي أنجزها لاحقا إبان عمله بجامعة السلطان قابوس من مثل: “التوقيع والتطويع 2006” و “البنى والرؤى 2006” و “ورقات نقدية في مسائل ثقافية “2009. وهو بحثٌ يعرفُ فيه ببعض الأعمال الأدبية والدراسات النقدية ويقرأ الجهود وقد خصَّني فيه بمبحثٍ قرأ فيه كتابي الشعر والشعراء في عُمان في القرن العشرين”
في تونس عرفتُ جيلَ النقاد والأدباء والكتاب الأوائل: الأستاذ محمد رشاد الحمزاوي عالم اللغويات والمتخصص في اللسانيات المعجمية وقبله الأستاذ محمد الشتيوي وهما من أوائل الأكاديميين التوانسة الذين عملوا بجامعتنا وزاملتهم.
كما عرفت بعدهم أقطاب النقد الكبار وجالستهم واستفدت منهم أمثال: الدكاترة عبدالسلام المسَدِّي صاحب نظريات اللسانيات الحديثة، وحمادي صمود، وصالح بن رمضان صاحب كتاب “الرسائل الأدبية” ومحمد اليوسفي الناقد الشهير الذي حظيت بأغلب كتابه واستفدت منهم في تحليل الخطاب وهداني عقلي إلى قراءة أغلب ما كتب، فهو يتميز بالمقاربات المنهجية العميقة واللغة التخصصية المفعمة بدرر اللغة ومعاجمها.
وإن أنسَ فلا أنسى صديقي الكريم الدكتور محمد النويري، مؤلف كتاب “علم الكلام والنظرية البلاغية عند العرب” والدكتور محمد صالح بن عمر الذي قرأت كتابه “تطور التجربة الشعرية لدي المنصف المزغني، وحسين الواد، والدكتور محمود طرشونة، والدكتور كمال عمران، والأستاذ عمر مقداد الشملي صاحب كتاب “طه حسين مؤرخا” و وأبو يعرب المرزوقي مؤلف كتاب مصادر الفلسفة العربية، وفرج بن رمضان مؤلف كتاب “الأدب القديم ونظرية الأجناس”، وحسين العروي صاحب كتاب تجربة الشعر الحر في تونس، ولأستاذي محمد قوبعة الذي كان في عضوية مناقشتي للدكتوراة وله كتابات كثيرة أهمها الكتاب المرجعي “الرومانطقية ومنابع الحداثة في الشعر العربي”، والدكتور مبروك المناعي مؤلف الكتاب المهم “الشعر والمال”، والدكتورة حسناء الطرابلسي مؤلفة كتاب “حياة الشعر في نهاية الأندلس” وقد عاشت بيننا في عُمان زهاء عشر سنوات مرافقة لزوجها أستاذنا الطرابلسي، والدكتور محمد صالح بن عمر معد كتاب “تاريخ الأدب التونسي الحديث والمعاصر (قسم الشعر والصادر عن بيت الحكمة بقرطاج عام 1990)”، والدكتور الشاذلي بو يحيى مؤلف كتاب “الحياة الأدبية بأفريقية في عهد بني زيري” وغيرهم الكثير والكثير.
ومثلما عرفتُ المثقفين في تونس عرفتُ الصحفيين والشعراء والمؤرخين والمفكرين ورجال السياسة والإدارة، ومما يحضرني منهم بعد قرابة عشرين سنة من فراقهم: الشاعر المنصف المزغني، وهشام جعيّط، والدكتور جمعة شيخة محقق بالاشتراك لديوان عبدالكريم القيسي الأندلسي وأستاذي الدكتور عبدالمجيد البدوي مدير معهد بورقيبة للدراسات الحية ومؤلف كتاب “مواقف المفكرين العرب من قضايا النهضة في العالم العربي”، وقد شرفت بمناقشته لي ضمن لجنة بحث الدكتوراة، وأبو القاسم كرّو الذي أهداني سيرته العلمية “حصاد العمر” وربطتني علاقة معرفة به إبان عملنا المشترك بمؤسسة البابطين وأهداني كتابه “حصاد العمر في بأجزائه الخمسة”.
أمّا علاقاتي الوطيدة فكانت مع الأديب الكاتب أبو زيّان السعدي الذي لا تكاد تفارق مخيلتي شخصيته الأريحية بقامته المهيبة وفكرهِ الحي المستنير وثقافته الجامعة، وقد قرأ وتتلمذ على رواد الفكر العربي، وواكبت حياته حركات التحرر الوطني وكان أحد شهود الوعي الثقافي التونسي المبكر وكم حدثني عن ذلك في لقاءاتي الصباحية به في مقاهي شارع الحبيب بورقيبة التي يؤمّها – عمَّا عايشه في تونس والعراق ومصر عندما كان طالباً فيها، وفي كلِّ صباح كان يأتي لي بإحدى كتبه موقَّعَاً بإهدائه ولما سألته عن هذا التقطير قال: حتى تشعر بالتجديد الفكري الدائم، ولكي أسألك سؤالي المهم: هل قرأت كتاب الأمس؟ وقد شدّتني طريقته تلك وجعلتني أبذل جهوداً حثيثة في القراءة السريعة أو التصفح، وأذكر أن أهم ما قرأته له “الصورة والأصل في الفكر والأدب والحياة” و”من أدب الرواية في تونس” وفي “الأدب التونسي المعاصر”.
كما عرفتُ الأستاذ الكبير الشيخ فرحات الجعبيري أستاذ الحضارة بجامعة 9 إبريل الذي ناقش أطروحتي للدكتوراة وأحب عُمان وعمل على تراثها الفكري الإباضي وأصدر أكثر من كتاب منها “البعد الحضاري للعقيدة الاباضية ” وعلاقة عُمان بشمال أفريقيا ونظام العزّابة عن الإباضية الوهبية في جربة وضياء العقيدة الذي وفّى ” والحديث عن الأستاذ الجعبيري لا تسعه ورقيات وقد خصصنا له حلقة خاصة به.
ومن أنبل الرجال وأنقاهم وأكرمهم وأعلمهم وأوسعهم خلقاً وفضلا أستاذ الأساتذة الدكتور حمادي صموّد العالم البلاغي الذي أحاطني برعايته وخدمني بعلمه وأسهم في إيقاظ فكري بوعيه ومنهجه وأفكاره، يُعْجبك فيه شخصيته الكارزمية وحسّه النقدي المتَّقد ونظرته الثاقبة إلى العمق دون تحيز لمذهب بعينه، فكم أمّيت منزله وعرفته عن قرب أستاذا كبيرا، وعلما من أعلام النقد والبلاغة وتحليل الخطاب، وليس أدلُّ على ذلك من كتابه: ” التفكير البلاغي عند العرب أسسها وتطورها إلى القرن السادس، وكتبه…
كما عرف في تونس فيها الروائيين والقصاصين والمسرحيين والفنانين التشكيليين خاصة الأستاذ رضوان الكوني أستاذ اللغة العربية بالمعاهد الثانوية التونسية المرموق، ووقد عمل مديراً للمعاهد الثانوية لعشر سنوات، ثم متفقدًا للتعليم الثانوي مدة عشرين سنة، فعضوا في اتحاد الكتاب التونسيين، وقد عرفته رجلا نبيلا خدوماً أكبرُ وقفته العلمية معي وأنا أكابد مراجعة مسودات أطروحتي للدكتوراة وعلمت أنه توفي في 27 يوليو عام 2010م،وقد قرأت له عدة مجموعات أهداني إياها من مثل: رواياته ” الكراسي المقلوبة “و” صهيل الرمان” وعيد المساعيد ومجموعاته القصصية “النفق”.
وكذلك عرفت عن قرب الروائي العراقي المقيم في تونس عبد المجيد الربيعي الذي لطالما كانت لقاءاتي به متكررة ونشر عن كتابي في الصحيفة التي كان يشرف عليها.. وأهداني كل مؤلفاته “الروائية التي أخذت جانبا في أرفف مكتبتي وكذلك سيرته المعنونة” و “من ذاكرة تلك الأيام الصادرة في تونس عام 2000” وكتابه الثقافي “من سومر إلى قرطاج ” و”أصوات وخطوات” ومجموعته القصصية “سومر” و “امرأة من هنا ورجل من هناك، قد كتب مقالا عن كتابي الصحافة العُمانية إبان صدور طبعته الأولى عام 2001 أورد منه الفقرة التالية “إن أهمية هذا الكتاب هو ما يحمله من إضاءة لهجرة صحفية عربية ليست للندن ولا باريس كما هو معروف في السنوات الأخيرة، بل إلى بلدان أخرى في عداد المجهولة بالنسبة لنا حيث نكتشف أن هناك صحافة عُمانية (عربية) في زنجبار وأفريقيا الشرقية”.
لا يكتمل الحديثَ عن تونس إلا بوصف جامعاها وكلياتها ومعاهدها العليا الكثيرة الممتدة طولا وعرضاً في مساحة تونس الصغيرة من مثل: جامعة 9 أبريل، وكلية الآداب بمنوبة، وجامعة الزيتونة ومجلة حوليات الجامعة التونسية، والأرشيف الوطني الذي عثرت فيه على مادة عُمانية أرشيفية قديمة مهمة، وتلك الأزقة والحواري المعتقة وذلك العبق الحضاري الذي يذكر المرء بأنه في ذكرى.. ودور السينما الممتدة طولا على شارع الحبيب بورقيبة ومتحف باروا جامع “الهنتاتي” و ” جامع عقبة بن نافع “القيروان.
جابتْ قَدَماي أرجاء تونس البلد الجميل وشهدت أشكال الطيف التونسي المتنوّع، فبين مكتبة “الآباء البيض” بالمدينة العربي و”بيت دار الحكمة” بقرطاج، وبين مكتبة كلية الآداب بجامعة تونس الأولى خطىً كُتبَت عليَّ ارتيادها وارتسم فكري في هذه الأرجاء الخصبة بقراءات مستفيضة طالت كلَّ ما أجده نافعاً وما يروي ظمأي المعرفي من تراث هذا البلد العريق وغيره من بلدان العرب والغرب.
كانت كلية الآداب بمنوبة محطَّ رحلي في هذا البلد العتيق، فقد قدمت فيها أطروحتي للدكتوراه وأمضيت فيها قرابة أربع سنوات كان محصلتي فيها دراسة إطارية بعنوان ” الشعرُ والشعراءُ في عُمان في القرنِ العشرين ” وقد شكلت واحدةً من المشروعات العلْميةِ التي تحاولُ أنْ تربِطَ دوائرَ الثقافةِ العربيةِ مشرقًا ومغربًا، وأنْ تُسْهِمَ -ولو بقدرٍ يسيرٍ- في التخفيفِ من هيمنةِ المراكزِ على الأطرافِ؛ انطلاقا من وشائجَ القرابة الحضارية بين عُمان وتونس وهي التي جعلت العزم يَشْتَدُّ، والنوايا تترجمُ إلى أفعالٍ، فلتونس جملة من العلاقاتِ الحضاريةِ ليس أدلَّ عليها من الإسهام في تأسيسِ التعليم النظامي الحديث في عُمان عبر مدرسة الأستاذ التونسي محمد علي بوذينة التي أسست في مسقط عام ثلاثة عشر وتسعمائة وألف (1913م)؛ فلقد أرست هذه المدرسةُ دعائمَ الدور التنويري الأول الذي كان له أثره في تاريخها الحضاري المعاصر. كما أن الدورَ التاريخي لإِباضية “جربة” حافلٌ بمساقات التواصل مع أهل عُمان بفعل وشائج القرابة المذهبية التي وطدت علاقات متميزة رغم بُعْد المسافة، وظروف العصر، فكان لذلك أصداء كبيرة في نفوس العُمانيين، منذ قرون طويلة.
وقد هدفت منها إلى تحقيق أهدافٍ تاريخية تتمثلُ في توثيق الشعر، والكشفِ عن رموزه المغمورة، وأهدافٍ موضوعية تسعى إلى التعريف بالشعر العُماني وتحليل أغراضه، وفرز مضامينه، وأهدافٍ فنية تتوخى دراسة الظواهر التي تُبرِز مظاهر التطور، وإيجاد وسائل الاتصال والتقارب بينها وبين الشعر العربي عامة، وخلصت فيها إلى النتائج الآتية:
– الكشف عن عدد من الشعراء المغمورين، يعدّون اليوم ثمرة الفكر والإبداع العُماني خلال قرن كامل من الزمان.
– الكشف عن مصادر جديدة في الشعر العُماني، أهمها الدفاتر، والمجاميع وكتب التاريخ والصحف القديمة.
– الكشف عن دواوين جديدة وقصائد شعرية مفردة، وقد بلغ عددها أكثر من تسعين ديوانًا، وأكثر من أحد عشر ألفًا وخمسمائة قصيدة ومقطوعة.
– إعداد تراجم توثق حياة الشعراء، وتكشف عن أنماط شخصياتهم المتنوعة بين شاعر البلاط والشاعر المعلم والشاعر القاضي والشاعر المؤرخ والشاعر الفقيه والشاعر المثقف.
– إعداد مدونات وإحصائيات تجمع شتات الشعر العُماني، وتُلِمُّ ما تناثر من إنتاج الشعراء، وما كُتِبَ عنهم من مقالاتٍ ودراساتٍ، وما عُقِدَ معهم من حوارات.
– التوصل إلى أكثر من ثمانين شاعرًا من شعراء مدونتنا يتوزعون في أسر شعرية ينتقل فيها الشعر أبًا عن جد في علاقات مباشرة وغير مباشرة، وليس معنى ذلك أن الشعر في عُمان ميراث تتقاسمه الأجيال بل ثقافة مكتسبة وإبداع مشترك يرى فيه الشاعر أباه وجدّه فينسج على منوالهما.
– التوصل إلى أن شعراء المدونة في القرن العشرين يتوزعون على مناطق السلطنة بِنِسَبٍ متفاوتة، تأتي في مقدمتها المنطقة الداخلية.
– التوصل إلى أن أغراض الشعر العُماني ظهرت في مدونة دراستنا بنسب متفاوتة، احتل شعر الإخوانيات من دائرة العلاقات الخاصة المرتبة الأولى.
– تنقية الشعر العُماني في الفترة المدروسة مما ألمَّ به من شوائب، أو كدَّرَ صفوه من نماذج ضعيفة، وأحياناً منسوبة إلى غير أصحابها.
– الانتهاء إلى أن الشعر العُماني شهد طوال القرن العشرين تطورًا في جانبيه الفنِّي والفكري، وظهرت فيه الاتجاهات نفسها التي عُرفت في الأدب العربي عامة، عدا بعض الظواهر التي اختصَّ بها، وكوَّنت شخصيته، ومن بينها تلك التي وُجِدتْ في شعر العلاقات الخاصة، والمواقف الفكرية والنزعات الفنية، وفي الشعر الديني الذي تقاسمه مساران:
الأول: مسار مذهبيٌّ يتصل بالفكر الإباضي؛ حيث “الصورة المشابهة والنموذج المماثل لشعر الشراة” وقد تولَّى الشعراء العُمانيون فيه الدفاع عن المذهب الإباضي، ونفي تَـبَعيـتِهِ للخوارج.
الثاني: مسار العبادات والموقف من قضايا التوحيد، وقد جسَّدَ فيه الشعراء منطلقات المذهب الإباضي، ولاسيَّما المتعلقة بقضايا رؤية الباري، والصفات الإلهية، وخلق القرآن، والابتهال، والأوراد، والتوبة.
وتندرجُ تحت هذين المسارين القضايا الوطنية التي عالجتها غيرُ قصيدةٍ بشيءٍ من الدقة والتمحيص، ويكفي أن ندلل بعددٍ من القضايا الجوهرية التي نجد لها أصداء في الشعر العُماني، مثل قضية الإمامة والسلطنة، وقضية زنجبار، وقضية ظفار، وقضية البديل السياسي، وقضية الإصلاح والتنوير.
ومن جانبٍ ثانٍ كوَّن الشعر القومي في الأدب العُماني خاصيةً تتمثلُ في أنَّ هذا الأدب لم يَعُدْ أدبًا إقليميًّا محدودًا يمثل ضيقًا وعزلةً وانغلاقًا كما كان في الماضي، وإنما صدر عن روح متوثبة، ومشاركة في أحداث الأمة ضمن آفاق الانفتاح والتفاعل مع مختلف الدوائر العربية والإسلامية.
أمَّا الشعر وإشكاليات الصناعة فقد فتح لنا الطريق أمام ألوان الشعر التي تطرح على القارئ أسئلة، وتثير في نفسه إشكاليات، بل تدفعه إلى مناقشات مستفيضة قد لا يصل فيها إلى حلول قطعية، كما يصعبُ التسليمُ بأكثرها والاطمئنان فيها إلى مصطلحات أو مفاهيم دون مناقشة، إنها -بمعنى آخر- أشعارٌ إشكالية، وإن كانت لها صلة بالحياة والواقع، طبعًا كسائر الأشعار التي درسناها في باب (الشعر والحياة)، إلا أن هذه الصلة غير مفروغ منها، وهي موضع سؤال أكثر منها مجال حلول وجوانب، بالإضافة إلى أنها تُظهِرُ طرافةً في الموضوع والبناء والرؤية، ومن هذه الأشعار: شعرُ الوصف، وشعرُ النزعات الفنية، والشعر التعليمي، والشعر الجديد.
لقد شَكَّلَتْ هذه الأنماط الموضوعية جميعاً محور دراستنا في هذه الأطروحة الإطارية، التي نؤكد فيها على أنَّ الشعرَ العُماني جزءٌ لا يتجزأ من بنية الشعر العربي، وقد كَسَرَ طوق الإقليمية الضيقة رغم العُزلة التي أحاطت به، ورغم أنه في الجملة شعر تقليديُّ النزعةِ، ويكفي أن نقول: إنه تطور على غرار تطور نظائره في الشعر العربي. فالجانب الموسيقي والإيقاعي تحول من نظام القصيدة العمودية المبنية على وحدة البيت والقافية إلى القصيدة المبنية على المقطوعات والمخمّسات والـمُسَبّعات والمعارضات والمشطّرات والتأريخ بالشعر، كما وصل هذا التطور ذروتَهُ باستحداث قصيدة الشعر الحرّ ذات القوافي الـمُرسلة، وانتهت إلى ما سُمّيَ بقصيدة النثر، وقد أبدع كتابها بدواوين ومجموعات هي اليوم من أجود ما كتب في الشعر العربي.
وأخيراً تظلُ تونس بمساراتها المعرفية حقلا أثيريًّا يغري الباحثين بالكتابة الموسّعة فيه، لأنه مرتبطٌ بعوالم الحضارة والثقافة الجديدة والمناهج الخلاقة، والمصطلحات المستعربة، والعلاقات بين الدول والأقطار، وقد لا تكفيه حلقات لبيان مظاهره ومكوناته وما شاهدته فيه وما هذه إلا لفتاتٌ مقتضبةٌ لا يسعني فيها إلا فتح منافذ البحث لكتابة أوسع وأعمق، مركزاً على مطلب الدرس التعليمي والبحث العلمي منوّهين إلى ضرورة احتواء مكتباتنا بما كُتب في جامعاتها من أطروحات تخصُّ عُمان، ومحاولة طباعة المفيد منها، فالقصدُ الاغتراف بما يتيسّر من فيض نهر هذا البلد العامر والإفادة منه والاستفادة لأنه عصارة بلد متطور وعقول منفتحة ارتوت حتى الثمالة بمنهجية ومدارس (الغرب الفرنسي) المتقدمة، فكانت متميزة في أغلب سماتها، ومفيدة في أكثر حالاتها.