انطلاقا من روح التجديد والتطوير المستمر وشغف التجريب التي يتصف بها الشباب وما تتطلبه من سرعة في الاستجابة وكفاءة الأدوات وتبسيط الإجراءات، وما يواجهه الشباب بفعل تعقد الإجراءات وسلسلة التطويل فيها بما يصنع منها أداة قتل لطموحات الشباب وتراجعه عن الاستمرار في مشروعه القادم، في ظل ما تبع ذلك من إفلاس الكثير من المشاريع أو تراجعها ووقفها والتي كان عدم مواكبة إجراءات العمل والممارسة البيروقراطية لهذا الجانب، أهم هذه الأسباب التي باتت تشكل النفق المظلم لهذه المشاريع، كما أصبح موضوع تعقد الإجراءات وبيروقراطية الأدوات وروتينية الممارسة وتدني مستوى التنسيق والتكاملية بين مؤسسات الخدمة الصورة التي تقرأ المشهد الوطني في أي حديث عن مشاريع الشباب، فالمسألة ما زالت قائمة على هذا النحو، والممارسة في مؤسسات الخدمة المعنية لم تنضج بما فيه الكفاية للحدِّ من هذه التراكمات السلبية على منظومة الأداء الحكومي عامة وانعكاسات ذلك على دور الشباب والمؤسسات الصغيرة والمتوسطة بشكل خاص.
على أن استمرار هذا الأمر واتساعه بات يفوق في تصنيفه مستوى التحدي إلى دائرة الخطر، وأصبح ينظر إليه كأحد أهم مسببات الإفلاس في مشاريع الشباب، نظرا لما يؤدي إليه تعقيد الإجراءات من صورة تشاؤمية وتراكمات سلبية نفسية واقتصادية واجتماعية وفكرية لدى الشباب، في ظل التشوهات الحاصلة والتغييرات المتسارعة التي بات يشوبها التداخل وضعف التقنين وعدم استيعاب موجهات العمل من قبل الموظف العامل في هذه القطاعات قبل المواطن طالب الخدمة، ما نتج عنه وجود وضوح آليات العمل أو بمعنى آخر عدم وجود جدية وقناعة واضحة من القائمين على هذا الأمر في المؤسسات من التنازل عن عقدة الأنا وذاتية التصرف التي باتت تلقي بنتائجها على القانون وأنظمة العمل، وبشكل أخص على مستوى المحافظات، متناسين انعدام الضمير وحس المسؤولية وصدق المواطنة التي كانت دوما محطة لهذه الترهلات والغوغائيات، وكأن القانون في تصريح أكثرهم هو من أباح لهم هذا المسار (بطء في تخليص المعاملات، اتساع في الإجراءات، إلزام المواطن بمتابعته موضوعه رغم وجود التقنية والبرامج والتطبيقات الإلكترونية التي سهلت أساسيات العمل، سلطوية الرأي، وازدواجية العمل، والحاجة إلى موافقة المسؤول الحكومي الذي يتمتع حاليا بإجازة أو أنه مشغول بحضور فعاليات، إلى غير ذلك من المبررات التي باتت تلقي بثقلها على مشروع الشباب وشغف البدء في التنفيذ)، ممارسات متكررة، وإجراءات معقدة، تفصح أن لا جدية أو إخلاص يعيد توجيه بوصلة المسار، أو حدوث أي تغيير في نمط الممارسة المعتاد أو أدوات العمل، لتبقى المسألة تدور في حلقة مفرغة ودوَّامة العمليات الإدارية المتكررة والإجراءات الطويلة غير منتهية التي أرهقت البلاد والعباد، بما يترتب عليها من التأخير والتطويل حتى وصل الحدُّ إلى أن بعض الإجراءات ينتهي وقت السماح فيها وما زال المشروع المراد تنفيذه لم يصل إلى الموافقة النهائية، ناهيك عن الفصل الحاصل بين الإجراءات الإدارية في المؤسسات الحكومية والإجراءات الإدارية في جهات الدعم المالي في المؤسسات التمويلية (بنك التنمية العُماني وهيئة تنمية المؤسسات الصغيرة والمتوسطة) نظرا لسلسلة الإجراءات الجديدة التي تطلب من الشباب الراغب في تنفيذ مشروعه، في ظل استهلاك مستمر للوقت وإسدال الستار على نشوة الإنجاز ورغبة التنفيذ وهو أمر نعتقد بأنه بات يسيء إلى أي توجهات أو مبادرات وطنية لتعزيز الحضور الاقتصادي للشباب في برامج التنمية أو حث الشباب العُماني على تحقيق الفرص الوطنية في هيئة تنمية المؤسسات الصغيرة والمتوسطة وبناء مشروعات اقتصادية وإنتاجية عالية المردود، الأمر الذي انعكس على مستوى التقدم الحاصل في الموضوع بما يحيطه من بطء وتراجع وتكاليف وتراكمات مالية يدفعها الشباب كأجرة للعقار الذي سيقيم فيه مشروعه المنتظر.
وعلى الرغم من أن سلطنة عُمان تعيش مرحلة انتقالية تتجه فيها إلى تعزيز التحوُّل في المنظومة الاقتصادية والإدارية والتي بدأت مع إعادة هيكلة الجهاز الإداري للدولة، وتستهدف إعادة إنتاج العمليات الإدارية التخطيطية والتنظيمية بالمؤسسات بما يتناغم مع أولويات رؤية عُمان 2040 المعززة لحوكمة الأداء وتبسيط الإجراءات ورفع دور التشريع في خلق المرونة الاقتصادية، وبناء قدرات الشباب وتشجيعهم على الإدارة الاحترافية للمشاريع الاقتصادية عبر المؤسسات الصغيرة والمتوسطة، ورفع درجة مشاركة الشباب في برامج التنمية، غير أن واقع الممارسة على الأرض ما زال لم يجسد هذا التحوُّل المأمول، وما زال السلوك الإداري في أكثر المؤسسات الخدمية قائما على البيروقراطية والفردانية والسلطوية والافتقار إلى إيجاد روح الدافع لدى الشباب، وما زال الشباب اليوم من رواد ورائدات الأعمال يعاني من صدعة الإجراءات التي أدت إلى إفلاس بعض المشاريع أو نقلها إلى خارج أرض الوطن، أو التراجع عن تنفيذها، وما زالت الممارسة الإدارية تصنع حواجز الصد وعقبات ومطبات التحليق على عتبات الإنجاز وتعرقل حافز الاستمرارية في وجْه المواطن الجاد الذي يسعى جاهدا لأن يعتمد على نفسه، ويؤسس مشروعه ويبني مستقبله ويكوِّن نفسه ويوظف خبراته ومهاراته، ويترك بصمة حضور له في استراتيجيات التنمية وبرامجها الطموحة.
وبالتالي ما تؤسسه هذه الممارسة ويحيط بها من ضبابية في الوقت الزمني لانتهاء الإجراءات وما يصحبها من زيادة التضييق على الشباب وكثرة الطلبات، وانعكاسات ذلك سلبا على القيمة المضافة المتحققة من الجهد الحكومي المعلن عنه حول الحوافز ومبادرات الدعم، وتبسيط الإجراءات الموجهة نحو التنويع الاقتصادي والاستدامة المالية وتعظيم مسار الشراكة، سواء في جانب التنسيق والتكامل بين المؤسسات في قطاعات الخدمات الأساسية الكهرباء والمياه والاتصالات، أو ما يتعلق بالاحتياج اليومي للمواطن في الحصول على الخدمات الإسكانية والبلدية والزراعية والأنشطة التجارية والسياحية وغيرها، وسلسلة الإجراءات المرهقة على مستوى المؤسسة الواحدة أو مع العديد من المؤسسات بما تستثيره من سلوك السلبية للمواطن ويؤسس فيه قناعات أخرى حول الفجوة الإدارية التي تعيشها مؤسسات الجهاز الإداري للدولة في تنفيذ التوجهات الوطنية وحالة الامتعاض وعدم الارتياح التي تؤدي إليها إجراءات الحصول على التراخيص لتنفيذ مشروعه الاقتصادي بين مؤسسة تقبل وأخرى ترفض وثالثة تشترط وأخرى تعترض على عمل مؤسسة أخرى ورابعة تضع التطبيقات الإلكترونية خارج تغطيتها، وهكذا يصبح المواطن في حلقة مفرغة.
وعودا على بدء، فإن جملة الحوافز والدعم المالية التي تقدمها الجهات المعنية والصناديق المالية ما زالت غير قادرة على رسم ملامح التحوُّل في التعاطي مع متطلبات مشاريع الشباب، سواء من حيث حجم الدعم المالي المقدم أو في استيعاب التكاليف التي يحتاجها المشروع ليقف على أرضية صلبة، والالتزامات التي يجب أن تكون ضامنة لنجاح المشروع بينما لا تضع لها المؤسسات المالية والبنوك التمويلية؛ أي حضور في تقدير المبالغ الموافق عليها لتمويل المشروع، بالإضافة إلى مدى استفادة الشباب من خيارات الدعم نظرا لما يصاحب عمليات الحصول على القرض أو الدعم من إجراءات طويلة وتعقيدات غير مبررة تنم عن ضعف في التنسيق والتكامل وعدم وضوح مسارات العمل الداخلية وسرعة التغيير فيها، مما أسهم في إيجاد حالة من الفوضى الفكرية بين قناعة الشباب بأهمية إيجاد مشروع له في حياته (باحث عن عمل، أو موظف يرغب بزيادة مستوى دخله الشهري نظرا لفواتير القروض البنكية الشهرية التي عليه استهلكت راتبه الشهري) ليجد نفسه بأن الواقع يفرض عليه إعادة التفكير من جديد فيما أقدم عليه من تصرف بدخوله في دوَّامة هذه المشاريع، إما بالانسحاب أو التخلي عن تحقيق حماسه في تنفيذ المشروع في الواقع.
وعليه، فإن المطلوب في ظل معطيات هذا الواقع المتكرر، إرادة وطنية جادة في معالجة هذا الأمر والوقوف على عين المشكلة وأساس القضية، بل ووضع الإجراءات الضبطية والقوانين الرادعة لكل من تسبب في تعقيد الإجراءات وتجاوز بقراره التوجيهات السامية لجلالة السلطان المعظم التي أكدت دوما على تبسيط الإجراءات وحوكمة الأداء وتشجيع الشباب على صناعة التحوُّل، وإعادة تقييم ومراجعة السلوك الإداري والمؤسسي الحاصل في هذا الجانب بما يقلل من حالة البطء والسلبية، ويوفر الفرص لتكوين قناعات إيجابية ومسارات تصحيحية قادرة على احتواء مشاريع الشباب ورغباته، وتمكين خيارات الدعم والحوافز المنتجة من تحقيق أهدافها، وتسهيل آليات العمل وأدواته على المواطن بما يحدُّ من الهدر والفاقد في المتكررة، بالشكل الذي يضمن منها استيعاب التحوُّلات ومجريات الأحداث الاقتصادية الحاصلة في العالم، وبالتالي ما يطرحه ذلك من دور محوري للمؤسسات التشريعية والرقابية والضبطية في إعادة هندسة هذا الواقع وطرح هذه المسببات والأسباب والمبررات في إطار البحث عن حلول منتجة من خلال الشباب أنفسهم مع تقييم مستوى المتابعة لنواتج القوانين والإجراءات التطويرية التي عملت سلطنة عُمان على تحقيقها في سبيل تعزيز الاستثمار عامة، بما يؤسس لمرحلة جديدة للتعافي من عقدة الإجراءات وفق منظومة متابعة ورقابة تعمل على رصد هذه التجاوزات ودراستها وتحليليها ومتابعة المؤسسات الخدمية فيها.
أخيرا، تفرض حالة التراجع في الوصول إلى مبدأ تبسيط الإجراءات ودورانها في حلقة مفرغة، حتمية الوقوف على هذا المسار وتشخيصه وتحليله وإعادة إنتاج القوانين المنظمة له وبناء سياسات أكثر ضبطية ومهنية وعملية في التعامل مع فلسفة التنسيق والتكامل التي نعتقد بأنها تجاوزت في مخاطرها المعقول وضيعت الكثير من الحقوق والفرص وأسهمت في إيجاد فجوة في مسار الأداء الاقتصادي للشباب، فإن الوقوف على هذا الأمر بجدية وإخلاص واتخاذ إجراءات فاعلة وحكيمة، تضمن عدم المساس بالثوابت الوطنية (تبسيط الإجراءات، وحوكمة الأداء المؤسسي، وتمكين الشباب العُماني) المعززة للاستدامة الاقتصادية وبناء مجتمع عُمان الصناعي القادم الطريق الذي يحفظ للشباب حقوق المشروعة في إدارة موارده، وصناعة الفارق في إنجازاته من أجل عُمان والأجيال القادمة، انطلاقا من عاطر النطق السامي “إن شراكة المواطنين في صناعة حاضر البلاد ومستقبلها دعامة أساسية من دعامات العمل الوطني”.
د.رجب بن علي العويسي