فرضت التحوُّلات الحاصلة في المنظومة الأمنية والمنظور الفكري الشامل في أنسنة الأمن في أبعاده الاجتماعية والاقتصادية والإنسانية والثقافية والأخلاقية والنفسية، على المؤسسات الأمنية والشرطية اليوم البحث عن آليات واستراتيجيات أكثر استدامة ومهنية وعمقا في قراءة الواقع الأمني ورصد تجلياته وتحديد المتغيرات والمؤثرات المساهمة فيه، والفرص والتحدِّيات والتهديدات والمنغِّصات التي باتت تؤثر على أمن الإنسان واستقرار الأوطان بما يسهم في تنويع الخيارات والتوسع في البدائل وإنتاج مستلزمات وحلول الواقع الاجتماعي. الأمر الذي وضع المؤسسة الأمنية والشرطية أمام واقع جديد عليها أن تتعامل معه في إطار علمي واضح ومنهجيات عمل دقيقة وأطر واستراتيجيات حكيمة، واضعة مسار البحث العلمي الأمني والدراسات الأمنية والشرطية في أولوية الاهتمام.
لقد أسهم هذا التحوُّل في مسار العمل الأمني المعزز بنتائج البحوث والدراسات الاستراتيجية والاستشرافية في إعادة هندسة الدور القادم للمؤسسات الأمنية والشرطية وفق معطيات عصرية أكثر دقة ومعيارية في تشخيص الحالة وقابليتها للقياس، الأمر الذي ضمن لها تحقيق نتائج واضحة ومؤشرات عمل دقيقة والوصول إلى إحصائيات وبيانات نوعية تدعمها على أداء دورها بكل مهنية وإتقان، خصوصا أن الكثير من هذه التحدِّيات والتفاصيل تتطلب اليوم نوعية جديدة من المعالجات، والتفكير في سيناريوهات بديلة تتيح توليد الحلول الجادة وبما يحقق الشمولية والدقة في المعالجة وعبر امتلاك أدوات بحثية مستخدمة المنهج العلمي في التعامل مع الجزئيات الدقيقة في ظل تنوع أشكال الجرائم وتعددها، وفق إطار منهجي واضح ودراسات تشخيصية استقرائية واستشرافية تحقق الآمال الوطنية وتعزز من جهود التنمية وخططها المستقبلية، هذا التحوُّل في طبيعة الدور والمسؤولية عزَّز من فرص الاستفادة من معطيات البحث العلمي في قضايا الأمن المختلفة، بما يضمن نجاعة الأساليب المستخدمة في التعاطي مع كل القضايا بحسب خصوصيتها وطبيعتها ومستوى الخطورة الناتجة عنها باستخدام منهجيات البحث العلمي وما تتوصل اليه الدراسات من مقترحات عملية في ظل تنوع المتغيرات التي تستخدمها والعيِّنات التي تستهدفها، بما يضمن لنتائجها نافذية القرار وقوة التنفيذ، ولتوصياتها المتابعة والتفعيل.
وأدركت شرطة عُمان السلطانية، وفي ظل رؤية التطوير والتحديث التي انتهجتها في العقد الماضي، أهمية تعزيز منهجية البحوث والدراسات الأمنية كأحد المنطلقات المهمة لتعزيز الحس الأمني وبناء مجتمع الأمن وترسيخ مرتكزاته في فقه المواطن وثقافته، واضعة عمليات التطوير والتحديث الشاملة لأكاديمية السلطان قابوس لعلوم الشرطة طريقها لسبر أعماق هذا المجال، منطلقة من رؤية عُمان 2040 التي وضعت البحث العلمي عامة والقضايا المجتمعية المرتبطة بمحور الإنسان والمجتمع طريقها لرسم علامة فارقة في تحقيق منجز علمي يستهدف تقديم خلاصة تجاربه ونتائج بحوثه في تعزيز الاستدامة الاقتصادية، وتعزيز اقتصاد الأمن وبناء منطلقاته وإتاحة الطريق لنموِّه واتساعه في عُمان، لذلك سعت إلى تعزيز البنية التنظيمية للبحث العلمي الأمني بفروعه وتخصصاته المختلفة، عبر ما اتخذته من استراتيجيات وأطر تشريعية وتقييمية ومسارات متعددة للشراكة الوطنية والإقليمية والدولية.
على أن ما اعتمدته شرطة عُمان السلطانية في مسيرة التطوير والتحديث للبنية العلمية والتعليمية والتدريبية من مبادرات وخطط ومرئيات في إطار تشخيصها للحالة الأمنية، وإيجاد حوارات مع الشركاء والمستهدفين في بناء إطار منهجي لتعزيز البحث العلمي الأمني، وفق أطر مقننة ومنهجيات عمل واضحة مستفيدة من مسار الشراكة والتأصيل العلمي الذي اعتمدته في تعزيز المكانة العلمية والتعليمية لأكاديمية السلطان قابوس لعلوم الشرطة؛ يعكس رؤية شرطية استباقية متوازنة للعمل الاستراتيجي الأمني تتسم بالشمولية وتحظى بمستويات عالية من الدعم والمساندة لها من مختلف شرائح المجتمع، وتعالج فيها كل القضايا الوطنية ذات الصلة باقتصاد الأمن وأولوياته وترسيخ ابجدياته في سلوك المواطن، والتي تبدأ من تغيير ذات المواطن وقناعاته وعاداته ومراجعة أولوياته، ووعيه بمسؤولياته، وحدود هذه المسؤوليات، والوقوف عند متطلبات الدور الذي يقوم به نحو نفسه ومجتمعه والآخرين، وهو أمر يضع البحث العلمي في قائمة الاختيارات وركيزة مهمة في بناء الدافع الذاتي للمواطن في ما تخرج به هذه الجهود العلمية والبحثية من فرص ونجاحات قادمة تظهر في برامج التعليم والإعلام وعمليات التثقيف والتوعية وإنتاج المناهج وتوفير المستلزمات والممكنات الفكرية الداعمة لأنسنة الأمن وإدماجه في حياة المجتمع وثقافة التعليم، وتصبح يقظة المواطن واستيعابه للمفاهيم والمفردات الأمنية وتعمقه فيها محطة تحوُّل لبناء مرحلة جديدة ينظر فيها إلى المسألة الأمنية من زاوية أكبر وعدسة أوسع، يشارك خلالها بفكره وقلمه ومبادراته وسلوكه.
وفي تقديرنا الشخصي، فإن التأكيد على دور البحث الأمني في إعادة إنتاج المرحلة يرتبط ببعدين أساسيين هما: الدور الوقائي، والدور الضبطي. فالدور الوقائي بما يمثله من اتخاذ خطوات استباقية جادة للحيلولة دون وقوع الفرد في المشكلة أو الجرم ومنعه من ارتكاب الجريمة مهما كان نوعها، والدور الضبطي الذي يرتبط بالعقوبات والجزاءات التي تنفذ على مرتكب الجرم نفسه والتي تشكل رادعا له ولغيره وفق ما يقره القانون بما يتناسب وحجم الجرم ونوعه، وبالتالي فإن الوصول إلى مؤشرات أداء واقعية في تحقيقها، مرهون باعتماد منهجيات عمل واضحة ترتبط بتعظيم القيمة المضافة للبحث الأمني والدراسات الاستشرافية الأمنية والشرطية وترقيتها وتطويرها بما يضمن نفاذية تلك الجهود واستمراريتها وارتباطها بالأهداف التي تسعى لتحقيقها، ووجود جانب الاقتناع بها بما يضمن تطبيقها من المستهدفين منها، لتؤدي الشراكات العلمية والبحثية ومجالات التعاون التي اعتمدتها أكاديمية السلطان قابوس لعلوم الشرطة مع مراكز البحوث والمؤسسات الدولية والإقليمية والوطنية العامة منها والخاصة في تحقيق إنتاج بحثي يلبِّي الطموحات الوطنية ويحقق أبجديات رؤية عُمان ذات الصلة بهذا الجانب، إطارًا مهمًّا في هيكلة البحث العلمي بالأكاديمية، وإطلاق المبادرات الهادفة إلى تعزيزه وتعميق دوره نحو الاستفادة من نواتجه وتوظيفها في خدمة التنمية الوطنية، واستيعاب احتياجات المؤسسات التطويرية والتقييمية، الأمر الذي يجسِّد الدور المتجدد للشرطة في تهيئة المجتمع للاستجابة الفورية، والتعامل الواعي مع الحالات الطارئة، وإكساب المواطن ثقافة الوقاية من المخدرات والجرائم والعنف والظواهر الاجتماعية السلبية، أو امتلاكه الممكنات والثقافة العلمية في التعامل مع الشائعات والجوائح والمخاطر وإدارة الأزمات، ووضع أطر لعملية التوعية والتثقيف المجتمعي وإجراءات الأمن والسلامة، لضمان تحقق الموثوقية العلمية في ثقافة المواطن الأمنية بما تبرزه نتائج هذه الدراسات من مؤشرات وأجندة عمل واستراتيجيات أداء.
عليه، وفي سبيل إدارة البنية التنظيمية والتسويقية لمنظومة البحث العلمي الأمني بسلطنة عُمان، نقترح إنشاء “كرسي جلالة السلطان للدراسات الأمنية والشرطية”، ليشكل بدوره تحوُّلًا قادمًا في مسيرة البحث العلمي بسلطنة عُمان وإضافة لبنات القوة فيها، ودور البحوث الأمنية في تحقيق أولويات التنمية الوطنية، ومنطلقًا مُهمًّا في تعزيز الدراسات الاستشرافية الأمنية والشرطية بحيث تتشرف أكاديمية السلطان قابوس لعلوم الشرطة باستضافة هذا الكرسي، بيت خبرة وطنية في إنتاج البحوث والدراسات الأمنية والشرطية، الأمر الذي سيضيف للبحث العلمي بالسلطنة حضورا أكبر في تحقيق مبادرات رؤية عُمان 2040 في أبعاد الأمن الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والفكرية والتقنية؛ لضمان إنتاج حلول الواقع الاجتماعي، والتداعيات الأمنية الناتجة عن التحوُّلات الاقتصادية والثقافية والتقنية والإلكترونية؛ فإن نقل هذه التجربة العُمانية المتفردة في الكراسي العلمية المنتشرة في جامعات العالم ومؤسساته ومراكزه البحثية وتوطينها، يشكل مدخلا في تعزيز جهود سلطنة عُمان في نشر مظلة البحث العلمي، وتأكيد حضوره المستمر والفعلي في كل برامج التنمية العُمانية، عبر استيعاب المؤسسات الأكاديمية الوطنية لأنشطة الكراسي العلمية، وهو ما نعتقد بأن الريادة العلمية والموقع الذي تحظى به أكاديمية السلطان قابوس لعلوم الشرطة في اهتمامات جلالة السلطان المعظم القائد الأعلى ـ حفظه الله ورعاه ـ يمنحها فرصة أوسع في تبنِّي هذا الخيار في استراتيجيات عملها القادمة، لجذب المزيد من الموارد والاستثمارات والشراكات والخبرات والاستراتيجيات القادرة على تمكين البحث العلمي الأمني من الدخول في منافسة عالمية، وإثبات موقع لها بَيْنَ جامعات العالم ومؤسساته البحثية الأمنية والشرطية.
أخيرا، يأتي افتتاح المؤتمر العلمي لأكاديمية السلطان قابوس لعلوم الشرطة في التاسع عشر من سبتمبر لعام 2022، التطورات التكنولوجية وأبعادها الأمنية والاقتصادية والاجتماعية، بما يضمُّه في محاوره وجلساته من أوراق عمل ودراسات وبحوث ونماذج وتطبيقات وتجارب إقليمية ودولية وأفضل الممارسات في توظيف البحث الأمني في التنمية الوطنية المستدامة والتداعيات الأمنية المرتبطة بالتحوُّلات التقنية والاقتصادية والاجتماعية المعاصرة، وما يستضيفه من علماء وخبراء وأكاديميين وباحثين ومتخصصين وذوي الاهتمام بالبحث العلمي من داخل السلطنة وخارجها، فرصة سانحة للتعريف بالممكنات العلمية والبحثية التي تزخر بها الأكاديمية، وحشد الجهود العلمية والبحثية واستقطاب العلماء والأكاديميين والباحثين في تناول القضايا الأمنية المعاصرة في أبعادها المختلفة، وقراءة معمقة للتداعيات الأمنية للواقع التقني والمنصَّات الاجتماعية والتحوُّلات الاقتصادية والاجتماعية، وطرح الموجهات والمحددات والأطر والاستراتيجيات لبناء ثقافة وطنية واعدة في البحث الأمني وتقوية فرص الشراكة العلمية والبحثية للجامعات ومراكز البحوث الوطنية والباحثين وطلبة الدراسات العليا للدكتوراه والماجستير في دراسة التحدِّيات الأمنية ووضع الحلول لها، وطرحها في إطار من المهنية والاحترافية والموضوعية، إنها محطة نوعية تُحسب لأكاديمية السلطان قابوس لعلوم الشرطة في الانتقال بالبحث الأمني والدراسات الأمنية والشرطية إلى أرض الواقع، تقف على هذه التداعيات وانعكاساتها على الأمن الاجتماعي بسلطنة عُمان، ترصد تجلياته، وتشخص أحداثه، وتقيِّم أدواته، وتقدم تجارب ونماذج وتصورات عملية، معززة بالشواهد والأدلة، معضّدة بأخلاقيات البحث العلمي وخصوصية التعامل مع القضايا الأمنية الاجتماعية والإنسانية.
د. رجب بن علي العويسي