كشفت نتائج الانتخابات البرلمانية الكويتية التى أجريت يوم الخميس الفائت (29/9/2022) عن حقيقة مهمة هى أن المجتمع الكويتى بمكوناته المختلفة القبلية والسياسية والطائفية لم ينصت بما فيه الكفاية للرسالة التى أرادها من صاغوا ما أسموه بـ “وثيقة القيم” قبل أيام معدودات من موعد إجراء تلك الانتخابات. كانوا يأملون قبولاً واسعاً من المرشحين للانتخابات، لهذه الوثيقة، وكانوا يأملون أن يصوت الشعب الكويتى لصالح هذه الوثيقة، أى لمن وقع عليها من المرشحين، من منظور أنها تؤسس لمنظور قيمى يقدر له أن يكون ضابطاً ومحدداً للهوية الوطنية الكويتية .
جاءت الانتخابات، وأعلنت النتائج، وبدت تلك الوثيقة كأنها لم تكن. لم تضف نتائج الانتخابات جديداً لحصة الإسلاميين فى مجلس الأمة الكويتى، لكنها لم تنتقص أيضاً من حصتهم، وهذا معناه أن كتلة الناخبين المؤيدة للإسلاميين من سلف وإخوان لم يحدث لها أى تغيير لا بالزيادة ولا بالنقصان، ما يعنى أن وثيقة القيم لم تحدث أى تغيير فى الكتلة الانتخابية المؤيدة للتيار الإسلامى. فمن بين عدد نواب مجلس الأمة الكويتى الـ 50 مقعداً حصل الإسلاميون على حصتهم السابقة فى المجلس السابق وهى 10 مقاعد . حيث فازت كتلة الإخوان المسلمين وذراعها السياسى (الحركة الدستورية الإسلامية) على أربعة مقاعد حافظت عليها من المجلس السابق، إضافة إلى معقد خامس لأحد المقربين من الإخوان. أما التيار السلفى فقد حاز هو الآخر على خمسة مقاعد .
فى المقابل فاز نواب الشيعة بـ 9 مقاعد توزعوا على معظم الدوائر الخمس، إضافة إلى نائبين مستقلين من الشيعة منهما الوزيرة السابقة جنان بوشهرى. وهذا يعنى أن المجتمع الكويتى بات يشهد “تعددية طائفية” تغذيها بكل أسف الصراعات السياسية المحيطة بالكويت من كل جانب، وجعلته عرضة للصراع الطائفى المتفجر بعنف داخل العراق. كما يعايش الكويت الأحداث الإيرانية بكل تطوراتها الداخلية والإقليمية وخاصة التوترات بين دول عربية خليجية وإيران. وهكذا أخذت تأثيرات الفرز الطائفى تصل إلى المجتمع الكويتى، وسبقه فى ذلك المجتمع البحرينى، حيث باتت الطائفية تسابق الوطنية فى الصراع المجتمعى بين من هم محسوبون على الطائفة الشيعية ومن هم محسوبون على الطائفة السنية، لدرجة أن ما كان يعرف بـ “نادى العروبة” البحرينى قبل أقل من عقدين مضيا، وكان يضم فى عضويته صفوة العروبيين الوحدويين البحرينيين وأغلبهم كانوا من الطائفة الشيعية، يعانى الآن من “الانزواء المعنوى” فى ظل سطوة “الطائفية السياسية” ، وهى السطوة التى أخذت تنافس بحدة فى التأثير على الهوية الوطنية.
لكن رغم ذلك فإن ثقل وسطوة هذه الطائفية السياسية مازال محدوداً فى الكويت، فنتائج الانتخابات، وإن كانت قد كشفت عن غياب أى تأثير لـ “وثيقة القيم” فإنها جاءت بنتائج تؤكد تفوق القوى الوطنية الكويتية من معارضة وموالاة ، ولكن بتفوق ملحوظ للمعارضة التى تفوقت بشكل ملحوظ على النواب المؤيدين للحكومة فى البرلمان السابق.
فقد حصلت المعارضة على 28 مقعداً من إجمالى مقاعد مجلس النواب التى يبلغ عددها 50 مقعداً. وخسر 20 نائباً سابقاً مقاعدهم من ثلاثة وزراء سابقين، ناهيك عن خسارة النائبة السابقة فجر السعيد “داعية التطبيع” مع كيان الاحتلال الإسرائيلى فى “تصويت عقابى” نفذه الشعب الكويتى. ولم يستطع أكثر من 12 نائباً سابقاً المحافظة على عضويتهم ، ما أدى إلى أن نسبة التغيير فى العضوية بالمجلس الجديد بلغت نحو 54%.
نتائج أقل ما يمكن أن توصف به أنها “نتائج مبهرة”، أهم ما أكدته هو أولاً: حيوية المجتمع الكويتى ووعيه السياسى المرتفع. فالناخب الكويتى أضحى مدرباً على فرز الغث من السمين، وبات واعياً بالأولويات الوطنية المطلوبة ، وأكثر منعة فى التصدى للدعايات المزيفة وشراء الأصوات. وساعدت الحكومة الكويتية بقراراتها الجديدة على تحقيق هذا الانجاز الذى تحقق فى هذه الانتخابات، أو بتحديد أكثر تحقيق قدر كبير منه، بما أظهرته من حزم فى معالجة الملفات المتعلقة بالانتخابات ومن أبرزها عمليات نقل الأصوات بين الدوائر الانتخابية، والتلاعب فى سجلات الناخبين ، وشراء الأصوات بالمال السياسى، فضلاً عن المشكلة الأبرز وهى محاربة تنظيم القبائل لانتخابات داخلها حرصاً منها على حصر الفائزين فى دوائرها ليكونوا من أبنائها. فالقبائل التى ظلت حريصة على أن تكون موجودة بقوة داخل مجلس الأمة، كانت تقوم بعمل انتخابات فرعية داخلها بين أبنائها الراغبين فى الترشح فى انتخابات مجلس الأمة، ويتم التصويت داخل القبيلة على هؤلاء المرشحين والفائز منهم تقف القبيلة كلها من خلفه لإنجاحه بعد أن تكون قد نجحت فى منع حدوث أى منافسة انتخابية بين أبنائها.
هذه الأدوار الحكومية لعبت دوراً مهماً فى تمكين الشباب والمرأة والقوى الحديثة فى المجتمع الكويتى أن يكون لها أدواراً فاعلة، وهذا تطور مهم يخدم دعوة تحديث المجتمع الكويتى، وإعلاء الولاء الوطنى على الولاء القبلى.
من النتائج المهمة أيضاً فى هذه الانتخابات أنها كشفت، بما لا يدع مجالاً للشك، أنه فى ظل تعدد القوى والاتجاهات السياسية والدينية فى أى مجتمع من المجتمعات لن يكون فى مقدوره أى من هذه الاتجاهات والتيارات أو أى من المكونات العرقية أو الطائفية أن يعطى لنفسه منفرداً القدرة على بلورة الهوية الوطنية للمجتمع. فالهوية الوطنية هى بمثابة “سبيكة” شديدة التعقيد تجمع كل ما يربط كل هذه المكونات والاتجاهات والتيارات من جوامع مشتركة صاغها التاريخ المشترك، وانتجتها الجغرافيا السياسية، وحددت معالمها مجمل تفاعلات الوطن مع جواره الإقليمى وعلاقاته الدولية، وهذا ما لم يستطع، بكل أسف، من صاغوا وثيقة القيم فى الكويت الذين لم يكترثوا بالأولويات الوطنية التى تشغل المواطن الكويتى.
فالمجتمع الكويتى مفعم بالكثير من الهموم السياسية والاقتصادية والأمنية. تشغله التركيبة السكانية المثلى، وتزعجه المخاوف من أى اختلال يحدث فى هذه التركيبة، يشغله كيف يمكن التحول من الاقتصاد الريعى المعتمد على النفط إلى الاقتصاد الحديث الذى يجعل “المعرفة” المنتج الأساسى للثروة، يشغله الانتقال بالمجتمع الكويتى من مجتمع تقليدى – قبلى – محافظ إلى مجتمع عصرى يعيش ويعرف ويمارس التعددية السياسية، ويمارس أهم ما يميز الديمقراطية كنظام للحكم وهو “تداول السلطة” بين القوى والتيارات السياسية. يشغله الأمن الوطنى ومخاطره فى ظل كثافة ما يواجه من تهديدات إقليمية ودولية. يشغله ترشيد السلطة وإكسابها الفاعلية المطلوبة لتقوم بأداء الظوائف والأدوار المنوطة بها، ووضع حد للصراع المحتدم بين مجلس الأمة والحكومة وتحقيق القدر الأكبر من الاستقرار السياسى والأمن الاجتماعى.
هذا ما يشغل الشعب الكويتى، وهذا ما لم يشغل فكر وعقل من صاغوا ما أسموه بـ “وثيقة القيم” لذلك لم يصوت الكويتيون لهذه الوثيقة . صوتوا لوثيقة أخرى تشغلهم بقدر عشقهم وحبهم للكويت، وثيقة لم تتبلور معالمها بعد.
د. محمد السعيد إدريس
جريدة الاهرام : 4 / 10 / 2022م