عبدالحميد بن حميد بن عبدالله الجامعي
على حين غرة من ضغوطات يوم إجازة نهاية الأسبوع، تسلقت بعض المقابلات عبر اليوتيوب للأديب والمفكر العربي السوري أدونيس جدار ذلك اليوم، وكان أولها على أثر حادثة شارلي إبدو، الصحيفة التي تعرضت لهجوم مسلح في فرنسا بسبب رسوماتها المسيئة للنبي عليه السلام عام ٢٠١٥، وأوقف فيها أدونيس الاسلام أنه رسالة بحياة النبي عليه السلام، وأنه أي الاسلام تحول لأيدولوجيا بعد ذلك، ثم تَتَبَعْتُه في مقابلتين أخريين عام ٢٠١٦ في البي بي سي، ثم مانتي كارلو الدولية، يعرض فيها على ظاهرة العنف ودور الدين فيه، وكان الإسلام أكثر الأديان حضورا في تلكم المقابلات..
لقد أثار ذلك كثيرا من النقد والصد من بعض الإخوة، وقد رفضوا كلامه جملة وتفصيلا، وبدأ بعضنا بمقابلته بالغرب، ومطالبته مقابل توصيف الإسلام بالعنف والأيديولوجيا أن يصف الغرب به، لكثرة ضحايا العنف الغربي وحروبه ضد الأمم الأخرى، والنقد هذا وإن كان حقا، إلا أنه ردة فعل، تختزل المشهد من حيث العصر (القرن العشرون والواحد والعشرون فقط)، ويعلل الخطأ بالخطأ، مع اعترافه ضمنيا بوجوده.
والحق أنه ليس أمرنا مع الغرب ولكن مع أنفسنا…ليس لأنهم قتلوا وفتكوا يبرر ذلك لنا قتلتا وفتكنا في غير سياقه وحقه..
من ثم وجب الوقوف على موضع النقد دون تحسس، والنظر فيما جاء لا فيمن جاء، طلبا للحقيقة، وإقامة للعثرة، وتنبيها على الزلل للأجيال القادمة…
نأتي على المادة المنقودة في خطاب أدونيس بوجود الإسلام الرسالة المنتهي بموت النبي صلى الله عليه وسلم، والإسلام الأيدولوجي بعده، فالقارئ في التاريخ والأحداث عموما يجد أن هناك أيدولوجيا ظاهرة في ممارسة الإسلام بعد النبي محمد عليه السلام، لذلك كان عصر الرسول صلى الله عليه وسلم خاليا منها، مما أسفر عن علو بلالٍ وسلمانَ وغيرِهم ممن كانوا توا عبيدا ومن جنس غير العرب، وحُقنت في عصره الدماء، وأَمِنَ اليهودُ، ووفدت المجوس والنصارى وغيرهم على المصطفى عليه الصلاة و السلام.
بينما ظهرت بعده القومية والعصبية منذ السقيفة..ولحفظ الدولة والإسلام أرغمت تلكم الحقيقة أبا بكر وعمرا على التفاعل معها طلبا لحفظ الدولة والاستقرار، إلا أنها للأسف ظهرت بإسفاف بعد الخلفاء الراشدين، رضوان الله عليهم أجمعين..
ورغم أن تساؤل أدونيس عن مقتل الخلفاء ليس له فيه حجة لإثبات دعواه في الإسلام الأيدولوجي، لأن قتلهم لم يكن عصبية، أما عمر فقاتله مجوسي أو من أصل مجوسي، وأما عثمان فقاتله منه، أي من قريش وأبناء الصحابة، وأما علي فقاتله ابن ملجم وليس لهذا عصبية إنما هو صنو داعش اليوم، مغسولُ الدماغ فارغه، فكلهم لم يُقتلوا أيدولوجيا وعصبية…. رغم ذلك فالأيدولوجيا لا تخفى عبر التاريخ ووقائعه المختلفة، من التنكيل بآل البيت، ثم التنكيل ببني أمية، ثم التنكيل ببني العباس…الخ من حروب طائفية عصبية خلال التاريخ الاسلامي.
لم تستطع الأيدولوجيا أن تجد لها قدما في القرآن الكريم ” إنَّا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون” إلا أنها وجدت مبتغاها في الرواية، كانت معزية الى الرسول عليه السلام (السنة)، أم إلى صحابته والتابعين..فكان بيت النبي من فاطمة، ثم كانت الهاشمية، ثم كانت القرشية، ثم كان العرب، والروايات في تقديس كل فئة على شكل أحاديث -صحتْ أم ضعفت- لا تخفى على أحد، بل بعضها أصبح من الأصول، كما هي في شيعة آل البيت، وفِي القرشية في الخلافة…
الإسلام ليس أيدولوجيا، إذ لو كان لما بقي، فهو ما زال حيّا بين أتباعه الأصحاء، وكان عند أبي بكر والخلفاء وعمر بن عبد العزيز، وعند أئمةٍ أخيارٍ في الدولة المركزية، وفِي دول المحيط المستقلة، كعُمان واليمن، تظهر وتختفي، إلا أن الاسلام الأيدولوجيي هو واقع أيضا، ولا أدل من المذهبية والطوائف المعاشة، وهو نتاج ممارسة خاطئة، وهو ربما الأكثر ظهورا، فدولة بني أمية والعباس والفاطمية والدول الأخرى الأشهر كانت الأيدولوجيا لها بوصلة حقيقية، من ذلك كانت لا تخطئ كل دولة -إذا غلبت- إبادةَ خصومها، ومطاردتهم والتنكيل بهم، بينما إسلام الرسالة لم يكن منه ذلك ولا في قِيَمه، فالمصطفى لم يستطع أكثر من إشاحة وجهه عندما جاءته باقرة بطن عمه وأخيه حمزة وماضغة كبده مسلمة، ولَم ينكل بقريش عند فتح مكة كما نكلوا به..لأنه دين رسالة وسلام، لا دين ايدولوجيا وتعصب..
المطلوب هنا هو إقامة الأمور في نصابها، فالقرآن أولا، دون أن تهمل الرواية (السنة) عن الرسول صلى الله عليه وسلم أو عن غيره، ولكن مرجعها عدم مضادتها أو مخالفتها أو مصادمتها لنصٍ صريح في كتاب الله المنزل، أو قاعدةٍ ظاهرةِ السطوع، فبهذا يمتنع عنا الإسلام الأيدولوجي ويبقى معنا الإسلام الرسالة، الإسلام الإنساني الشمولي الراقي والمهيمن، هيمنة المرجعية وعلو الموقف فيما اختلفت معه فيه الأديان الأخرى وتقاطعت، لا هيمنة الجبروت والطغيان، والظلم والإبادة، حيث فيه نفس الانسان محرمة وتساوي العالم كله، وإحياؤها مطلب أصيل ” من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الارض فكأنما قتل الناس جميعا ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا” …وحيث تبقى الحرب ملعونة عند الله ” كلما أوقدوا نارا للحرب أطفأها الله”، فليست هي وسيلة أو غاية له..وإنما هي عارض يخوضه المسلمون، ويطلبون انتهاءه سريعا بشدة موقفهم في الميدان، ضمن هدف السلام العام، بدفع الظلم واستقرار الحياة..وكثير من الروايات المعتمدة في السنة لا تتماشى وهذه الغاية…بل ربما تقلب هذا المبدأ لتكون الحرب هدفا وغاية لا تفتر تحت اسم ” الجهاد” وبسببٍ من تأويل روايات من أمثال ” أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم “… التأويلَ الأشهر والأوفر..مع وجود تأويلات أخرى محتملة سياقا ولغة لا تتصادمُ ومبادئَ القرآن الكريم ومواقفَه آنفةَ الذكر..وهذا ينسحب على عديد من الأمثلة تتناول قضايا محورية للإسلام والمسلمين..
يبقى الإسلام في ذاته دين رسالة، لا يتأثر بأيدلوجيا من انتسب إليه، ولا فتوى البلاط التي تلوي عنق نصوصه للتسويغ لتلكم الأيدولوجيا، لأنه به صفة الديمومة والاستقلال، كيف لا، وهو دين الإنسانية الخاتم، وقد صُنع على عين الله، والناظر يرى البرهان ساطعا اليوم، فرغم التشويه الذي يقدم به الإسلام، ورغم الدماء التي تسيل باسمه، ورغم الآلة الإعلامية العالمية المهولة والمغرضة في النيل منه ومن رسوله، والتشكيك بعقيدته، وإنسانية رسالته ونبيه، والعملِ المخابراتي العالمي الجبار لتشويهه وصد أتباعه فضلا عن غيرهم عنه، إلا أنه ما فتئ ينتشر، ولا زال الناس المتحررين من عبث الأيدولوجيا الإعلامية الموجهة يجدون فيه الخير العميم، غير متأثرين بالصورة الأيدولوجية التي يقدمه بها بعض أتباعه ومنتسبيه، والتي للأسف حملت بعض منتسبي الثقافة الاسلامية ومفكريها من العرب، من أمثال أدونيس الى عدم القدرة على تفصيل الحقيقة، فحملوا الإسلام على أيدولوجيات بعض الدول الإسلامية حاضرا وتاريخا، وممارساتها في بعضها البعض وفِي غيرها، ولَم يكتشفوا أن الاسلام بعيدٌ عن الأيدولوجيا في حقيقته، عبر الممارسات المقابلة العادلة لبعض دول المسلمين، أو عبر انتشاره الراسخ والمتمكن رغم التشويهات في العالم، وبين الغرب الحر خصوصا..وفي ذلك بيان للعالمين..