في عالم الكبار الذي ضيعته المصالح الشخصية، وأرهقته الأفكار العدوانية، وأغلقته مساحات التنابز والتصادم والأفكار السوداوية، في انتكاسة للقيم، وتضييع للأخلاق، وقطع للمروءات، وتصفية للحسابات، وتهميش للفكر البناء، وإقصاء للحقيقة، ورواية للإشاعة، يعيش من لم يضع لهم قانون الكبار أية اهتمام، أو يصنع لها حضورا، أو يتحسس فيهم شفقة المحب، أو يغمرهم بحنانه واهتمامه، إنها الطفولة التي تعيش اليوم في عالم مضطرب، بما اكتسبته أيدي الكبار فتلطخت بأيديها دماء الأبرياء، وتسبب بما افتعلته من جرائم حرب وتدخلات في شؤون الغير ودعم للإرهاب في إيذاء الطفولة، بما أوجدته من حروب خلفت مآسي القتل والتشريد، وأنين الجرحى، وسهر المرضى، ونوح الثكلى، ويتم الطفولة، حتى انتزعت من عالم الطفولة مساحات الأمان، وقيم السعادة، ومنصات البهجة والفرح، لتصنع منه مائدة لها تعيش على ايقاعها في عالم مملوء بالقلاقل والحروب والنزاعات، والتدمير والقتل، في تجاذب للمصالح، وتضييع للقيم وتسييس لقضايا السيادة والاعلام والأمن والحياة والوطن، استكبارا في الأرض ومكرا فيها، وانتصارا للفوقية وسلطة القرار؛ فإن عالم الطفولة اليوم يعيش تحت وطأة العنف، وزيادة حالة التنمر، واتساع القلق والخوف من الحياة والمستقبل، ما نتج عنه تضييع لهوية الطفولة، وغمط لحقوقها، وسلب لإرادتها، وتهميش لواقعها، وتقويض لأمنها واستقرارها، واعتداء على حقوقها، وانتهاك لثرواتها، واستنزاف لمواردها، وقتل لنجاحاتها، وتشويه لصورتها، وتسفيه لأحلامها واقصاء لابتكاراتها، حتى وأدتها الحروب وهي على مقاعد الدراسة، وفي قافلة المدرسة، بل وهم على أسرة المستشفيات وبين أحضان الوالدية والأبوة والأمومة، فاجأتهم قاذفات الموت وراجمات الصواريخ وناقلات الجند، وهم يلعبون ويمرحون ويركضون، فلم ترحمهم صيحة، ولم تثن كيد الكبار وسلوكه عن البطش بهم والكيد له، لقد أغلقت الجامعات، والمدارس أبوبها في وجه الطفولة عندما لم تأمن على نفسها فكيف بها تؤتمن على أرواح بريئة وأنفس طاهرة واقمار ساطعة،، حتى شردت الطفولة من أوطانها، وفصلت الطفولة عن موطنها واساس نشأتها، حتى أصبحت غريبة في أوطانها، تائهة في الأرض، تبحث عن مأوى في حين يستفرد الكبار بالمأوى لاستراحة دباباتهم، وتوجيه بنادقهم، وطعما لطائراتهم، لقد ضيعت حقوق الطفولة بفعل همجية الكبار، وتزايد مصالحهم الشخصية في نهب الثروات وإقلاع الانسان، حتى أصمت آذانها عن سماع صراخ الطفولة، والاستمتاع إلى ترانيمها الشجية المملوءة حسرة من عالم أغلق على الطفولة نوافذ الأمل وأبواب السعادة في استمتاعها بواقعها واستشرافها لمستقبلها، واستفادتها من مواردها، واثبات بصمة حضور لها في عالمها الملغم بالأشواك والمدنس بلغة الفضيحة والتسفية والتنابز والسباب والشتائم والاشاعة، وتوجيه سياسات الاعلام نحو قذف المسلم والاعتداء عليه بالقول والفعل، وتدنيس عرضه وشرفه وانتهاك كرامته وسيادته الوطنية دون وعي بحقوق أو احترام لفضيلة أو اعتراف بمبدأ أو استشعار لمسؤولية أو امتثال لمعايير وقواعد، لقد ضرب بها الكبار عرض الحائط وباعوها وأضاعوها ليعيش الكبار حياة القوة وينعموا بجبروت السلطة وقسوة القلب، وهكذا ضاعت حقوق الطفولة في عالم مضطرب حمل معه المساوئ تاركا للطفولة ثقلا عظيما لن تفك حلقاته أو تضاء صفحاته إلا بعد حين.
وهناك حيث تتوالى الاحداث، وتتصارع الغايات، ضاربة بحقوق الطفولة عرض الحائط، يأتي الاعلام الذي يفترض منه أن يؤسس في أجندته لإعلام الطفولة موقعها الذي يعبر عن قضاياها واحتياجاتها ويلبي متطلباتها في ظل التغيرات المتسارعة، ليصبح نذير شؤم في إشاعتها وسرعة انتشارها، فعلى الرغم مما وصل إليه العالم من تطور وتقدم في مجالات كثيرة؛ إلا أن صبغته الإنسانية ما زالت تخلد للأرض، وتنتزع كل سمات الإنسانية الراقية، فلم تعد مسارات هذا التقدم إلا عبارات جوفاء وملامح شكلية بعيدة في أكثرها عن تحقيق هدف وجود هذا الانسان، أو على الأقل أن تستفيد من معطيات هذا العالم ونواميس التحول فيه في ترقية مسارات الأمن والاستقرار والتعايش؛ ليطرح حجم ما يعيشه عالمنا اليوم من اضطراب وقلق، وتسارع وتنازع وذاتية في المصالح، وهاجس الخوف من المستقبل بسبب غوغائية السياسة ونفوق الاعلام عن أداء رسالته، وما تبعها من تداخل الأوراق وتضارب الاهتمامات، وانحراف المسار عن جادة الأخلاق وقيم الإنسانية الراقية، وحالة الشد والجذب وافتقار الحكمة في التعاطي مع هذا الواقع والتعامل مع مجرياته، وعمق التباينات في قراءة هذه الأحداث وطرق المعالجة، وما أوجدته من تكريس لغة الفوقية وأسلوب الاستفزاز، وما انجرت إليه من مساوئ الحروب والتدمير والإساءة إلى مقدرات الشعوب وهويتها وأصالتها وتأريخها وسيادة البلدان والتدخل في شؤونها الداخلية، وافتعال الأزمات، وإثارة الأفكار العدائية القائمة على تضليل الحقائق وانحراف الاعلام على رسالته وتجييش العالم الالكتروني لبناء الصورة القاتمة التي باتت تعيشها بعض السياسات في ظل ازدواجية المعايير وضعف ثقافة الحوار السياسي ومصداقية السياسة الدولية، وإدخال القضايا المجتمعية والقبلية والحدودية وغيرها في خضم هذه الأزمات، بما يرسم لمستقبل جديد يعصف بكل المبادئ والأخلاقيات والمنهجيات وقيم الاخوة والمشتركات الإنسانية والعلاقات والتفاهمات المشتركة، لينتج طفولة تعيش على تراكمات ومفاهيم وأفكار عدائية.
لقد أصبحت الصورة الإعلامية الموجهة للطفولة مليئة بالمساوئ والاحباطات، وتعبير عن حالة اليأس التي تعيشها بعض المجتمعات، فضاعت الهوية، وضيعت الأخلاق، واتجهت نحو العبث بمقدرات الشعوب، والاعتداء على تأريخها وحضارتها، وقيمها مبادئها، لقد لحق الطفولة من هذه الهمجية في التفكير، والرعونة في التعامل، الضرر الكثير بما تبثه في اذهان الطفولة من تناقضات وتباينات، وما تغرسه فيها من مفاهيم تتجانب ومنظومة القيم، التي يفترض أن تتربى عليها الطفولة وتنشئ عليها في عالمها البريء وفطرتها السوية، والتي لم تكن تدنس؛ إلا بفعل الكبار والسلوك الاعلامي الأرعن، وكان من تأثيرها أن رسخت في أذهان الطفولة صورة ذهنية سلبية حول الذات والآخر المختلف معها في الجنس أو اللون أو البلد أو الموطن أو المستوى المالي، حتى أصبح غير متصالح مع نفسه، فأغلقت أمام الطفولة منصات الأمل والحب والحياة والتعايش والتكامل وقيمة الاختلافات، فصورت الآخر (الجار والصديق والشقيق ومن يشتركون معه في الدين والتأريخ والمبادئ) على أنه وحش مفترس متربص لا أمان فيه ولا عهد ولا ميثاق حتى اعرته من صفة الإنسانية وقيمها النبيلة وأخلاقها الأصيلة، هكذا أدار الاعلام المسيس والفضائيات الإعلامية والإعلاميين في بعض البلدان، ملف إعلام الطفولة، فجندت إعلامها لإبراز الفتن واثارة الأحقاد ونشرة الكراهية وتمكين الاشاعة، والعمل على إبراز كل السمات السلبية وتشويه صوره الآخر (قيادة، أو حكومة أو دولة أو مواطن)، حتى وصل هذا التشويه لصورة الآخر المختلف في عقلية الطفولة، أن أدخلت بعض قنوات الأطفال ومسلسلات الطفولة في برامجها مائدة متنوعة من هذه الأفكار والمفاهيم وفي أساليب الحوار الطفولي وأدب الأطفال، بما يؤسس لعقلية طفل لا يؤمن بالحوار مع الآخر، أو يبحث عن منصات التعايش والتكامل معه، ورسخت في ذهن الطفولة أفكار أقرب إلى مفاهيم الاستعلاء والسيطرة والفوقية، إذ يحق له أن يغير العالم بنفسه ويفعل ما يشاء بنفسه ما دام يمتلك المال والسلطة، وأن المال والسلطة تفوق ما عداها من معايير ومبادئ أو أخلاقيات، لقد أسس الاعلام اللامسؤول للفوضى والعشوائية والتخبط التي باتت تسيّر توجهاته وأجندة فضائياته ومنصاته وشملت أيضا هوية صحفه ومساحات الكتابة وآليات وأدوات التعبير فيه، والمحسوبين عليه من السياسيين والكتّاب والمذيعين والمحررين والصحفيين والمغردين في منصات التواصل الاجتماعي والفضاءات الالكترونية، في افتقارهم لروح الاعلام الخلاق ومبادئه السامية وأخلاقيات الاعلامي الواعي ورسالته النزيهة الحالمة بمستقبل أفضل للإنسانية، فتأسست في ذهن الطفولة وذاكرتها الحضارية المعاصرة صورة ذهنية سالبة تقوم على التملص من المبادئ والقيم والاخلاقيات، والهروب من الالتزامات.
وعليه فإن إعلام الطفولة في عالم اليوم المضطرب في الفكر والإرادة والسياسة والممارسة، يضع على عقلاء هذا العالم وقياداته ومؤسساته السياسية والأمنية والتعليمية والدبلوماسية، مسؤولية البحث عن إطار عالمي لحماية الطفولة من حملات التشويه التي يمارسها الإعلام اللامسؤول في بعض البلدان، سواء في قنواته ومنصاته أو في مناهجه وطرائق التدريس أو في برامج الطفولة ذاتها، في الوقوف يدا واحدة في مواجهة هذه الغوغائية والحرب الإعلامية التي يعاني منها الأطفال قبل غيرهم، ويتأثرون بها أكثر من غيرهم، في ظل سلبهم إرادة اتخاذ قرارهم، واختيار طريقة تعاملهم مع أحداث هذا العالم وقضاياه، فإن ما يمكن أن يصل إلى ذهن الطفولة في ظل حالة الاحتقان الفكري وممارسات الاعلام وما تبعثه من رسائل مشوهة لما ينبغي أن يكون عليه مستقبلهم في ظل التأثير الذي تتركه مشاهد القتل والدمار ونتائج العدوان على نفسية الطفولة وتأملاتهم في واقعهم وتقييمهم لإنجازات الكبار، وما يحملونه لعالمهم القادم من أفكار سوداوية وسلوكيات عدوانية قائمة على التنمر والسخط والتمرد، بحيث تضعها مساحات الحيرة والتناقض التي تعيشها وعدم رضاها عن سلوكيات الكبار، هدف لدعاة الفكر السلبي، يسهل التأثير فيهم بما تحمله من أفكار سلبية تسلبه حقوقه وموارده وأولوياته واهتماماته وقضاياه الأساسية، وتشويه صوة المجتمع الذي تعيش فيه الطفولة على أنه خليط من المفسدين والظالمين والسارقين والعابثين بمقدرات الشعوف والمستبيحين لمواردها، وفي المقابل انعكاس ذلك على حياة الطفولة ومشاهداتهم لممارسات جيل الكبار وطريقة تعامله مع الآخر المختلف عنه.
وأخيرا فإن الوقوف على موقع الطفولة في الاعلام المعاصر، وحالة اللااستقرار التي يعيشها بعض الاعلام بسبب حالة التجييش الالكتروني والتسييس للقنوات الإعلامية وشراء الولاءات لدى بعض المنتسبين للإعلام من اعلاميين وصحفيين، والتشوهات الحاصلة في السلوك الإعلامي والممارسات التي تفتقر للرسالة الإعلامية الأمينة، ولروح الاعلام الصادق الواعي، الساعي إلى نشر قيم الخيرية والعدالة والسلام واحترام حقوق الانسان وتقدير المنجز الإنساني ونشر مسارات التنمية والأخلاق وتأطير السلوك البشري بمنظومة الاخلاق والمبادئ، كل ذلك وغيره يستدعي اليوم إعادة انتاج الرسالة الإعلامية الموجهة للطفولة بشكل تقترب فيه من البناء الأخلاقي وتؤسس للتسامح الفكري والثقافي في مواجهة حالة التشويه التي توجهها والتشويش او المصادرة والاقصاء للفكر البناء التي تتعرض لها، وهو أمر يقتضي تبني أطر إصلاحية للإعلام العالمي المؤطر لقيم وأخلاقيات الانسان، والمعزز لدور أكبر للطفولة في نهضة المجتمعات، وإعادة هندسة السلوك الجديد بطريقة تخدم مستقبل الطفولة، إن اعلام الطفولة اليوم بحاجة إلى مزيد من التأطير والتقنين والتوجيه وإعادة هندسته البنائية وفلسفة عمله، واختيار من يعدون ويقيمون برامج الطفولة ويشرفون عليها ويخرجونها، ليستشرف فيهم أخلاقيات الانسان، ونهضة القيم، وحس المسؤولية، وضمير الانسان،، هذا الأمر من شأنه أيضا الوقوف على التربية الإعلامية للطفل في مؤسساتنا التعليمية والتربوية وقراءة اعمق للمفاهيم والأفكار والمبادئ الإعلامية التي يتعرض لها الطفل في مؤسسات التعليم ومحاضن التربية وطريقة تدريس الخطاب الإعلامي ودور الممارسين فيه، وأخلاقيات العمل الاعلامي والبروتوكولات والحقوق التي تؤسس لإعلام الطفولة. إننا بحاجة في ظل هذه الاحداث إلى نقلة نوعية في إعلام الطفولة في قراءة الاحداث السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية وغيرها، بشكل يضمن قدرته على احتواء الطفولة وتوضيح الصورة الحقيقة لعالمها، والصورة الذهنية التي يمكن ان تتلقاها في قراءة احداث العالم، فإن ما يحصل في الاعلام العام بكل تفاصيله يضع علامة استفهام كبيرة حول الأثر السلبي الذي يتركه في فكر الطفولة والتشويه الذي يفرضه في قناعاتها وأفكارها واستجلائها للحقيقة ووصولها للأخبار والمعلومات الصحيحة من مصادرها… فهل سيعيد المجتمع الدولي وعبر البروتوكولات الدولية والاتفاقات الموجهة للطفولة وقانون حماية الطفل، توجيه مسار الاعلام في تحقيق غايات الطفولة، وإتاحة حرية التعبير لها في عالمها بعيدا عن احتكار الكبار للمعرفة والصوت الإعلامي؟، وكيف يمكن لإعلام المرحلة ان يقرا التحولات الحاصلة في سلوك الطفولة واحتياجاتها وخيالها وتفكيرها وآفاق رؤيتها واستشرافها للمستقبل بما يحفظ لها هويتها وحقها في التعبير والإرادة؟
د. رجب بن علي العويسي
#عاشق_عمان