المبادرات المهمة التى بدأت تفرض نفسها حالياً فى لبنان للخروج من حالة العجز والإنهاك غير المسبوقة التى تواجه كلا من النظام السياسىوالمجتمع تتشابه فى غاياتها مع مبادرات أخرى مشابهة فى دول عربية تواجه ظروفاً مشابهة مثل العراق، لكن هذه المبادرات، وإن كان فىمقدورها تشخيص حالة التردى، أو حتى التعرف على أسبابها، وإن كان فى مقدورها أيضاً طرح مشروع متكامل للإصلاح أو حتى للتغييرللخروج من مأزق العجز والفشل على نحو ما هو فى لبنان أو للخروج من مأزق “الإنسداد السياسى” الذى باتت تُعرَّف به الأزمة العراقيةالراهنة، فإنها تعجز عن الإجابة عن السؤال المحورى أو المركزى وهو: كيف يمكن إحداث الإصلاح إذا كانت الطبقة الحاكمة، وهى بالمناسبةطبقة تدين بالفضل إلى مبدأ “المحاصصة السياسية” الذى هو أصل تكوينها فى البلدين، تعتبر طبقة متحالفة أو على الأقل “متضامنة” معبعضها البعض للحفاظ على النظام الحاكم، بل وربما النظام السياسى كله، رغم عمق ما بينها من تناقضات وصراعات ، لأنها تدرك وتعىأن التغيير ، بل وحتى الإصلاح، سوف يستهدفها فى الأساس ، لأنه لا تغيير أو إصلاح فى ظل استمرار بقاء هذه الطبقة الحاكمةوالمتضامنة، لأنها بحكم المصالح والأهداف صاحبة مصلحة فى بقاء النظام كما هو دون تغيير.
القضية تزداد تعقيداً فى ظل ثلاثة عوامل أساسية تقف جنباً إلى جنب مع هذه الطبقة للحيلولة دون حدوث الإصلاح الذى يستهدف القضاءعلى كل أنواع التمايز والتقسيم داخل الوطن الواحد لصالح إرساء قواعد ومبادئ “المواطنة المتساوية”، التى تؤدى إلى “توحد المواطنة”وتركزها حول “الإنتماء للوطن” دون غيره من الانتماءات الفرعية سواء كانت عرقية أو دينية أو طائفية أو جهوية (أى الانتماء لمناطق جغرافيةداخل الوطن الواحد). هذا التوحد فى الانتماء هو الذى يكون فى مقدوره صياغة “الهوية الوطنية الموحدة”، التى تؤسس لتمايز الوطن عنغيره من الدول الأخرى، وتقود إلى صهر المواطين فى بوتقة الولاء لهذا الوطن والزود عن أراضيه وقيمه ومقدساته.
أول هذه العوامل هو تأصل وجود الانقسامات العرقية والدينية والطائفية داخل الأوطان، إذ يكاد لا توجد دولة عربية واحدة خالية من هذهالانقسامات، لكن هناك من هو غارق فى جذرية انقساماته، ومن هو مبرأ من أمراض هذه الانقسامات إما لمحدوديتها، كما هو الحال مثلاً فىمصر، التى تتعرض فى السنوات الأخيرة لمحاولات دءووبة لتخليق مثل هذه الانقسامات وافتعالها، وإما لإمتلاك أدوات متطورة لإدارة الخلافحول هذه الانقسامات. هناك دول عربية مفعمة بهذه الانقسامات العرقية والدينية والطائفية وبالذات فى المشرق العربى مثل العراق وسورياولبنان، على عكس الوضع فى المغرب العربى المبرأ من داء الانقسام الدينى والطائفى، وإن كانت قضية “الأمازيغ” تجد من يشعل نارها فىهذه الدول، وأيضاً دول الخليج العربى التى تتميز بدرجة عالية من التوحد الوطنى العرقى والدينى وإن كان بعضها يعيش رياح وتداعياتتعددية طائفية (سنة – شيعة) تعتبر أحد مخرجات الصراع مع إيران، لكن التحدى الأخطر الذى يهدد ليس فقط الهوية الموحدة للدول العربيةالخليجية ، بل وجود هذه الدول هو الخلل الكثيف والمتفاقم فى التركيبة السكنية، بسبب الخلل فى هذه التركيبة بين من هم مواطنون عرب وبينمن هم وافدون خاصة فى الدول الآسيوية، حيث لا يزيد عدد السكان المواطنين فى عدد من بعض هذه الدول عن 20 أو 25% فقط منالعدد الإجمالى للسكان.
الانقسام إذن موجود كحقيقة عامة، وتتحول إلى سبب أصيل للصراع إذا لم تجد الحلول الناجعة لتحويله من نقمة إلى نعمة، وهذا بالطبعيتوقف من ناحية على وعى ورشادة الطبقة الحاكمة، ويتوقف على منظومة العلاقات التاريخية بين هذه المكونات هل هى تعاونية تكاملية أمهى صراعية وتنافسية. نظرة سريعة للعراق كدولة وكمجتمع قبل نكبتى الغزو العراقى للكويت عام 1990 وما نتج عنه من حرب التحالفالدولى ضد العراق بقيادته الأمريكية عام 1991، والغزو الأمريكى – البريطانى للعراق عام 2003 ستكشف أن العراق كان موحداً طائفياًبشهادة انخراط كل المواطنين فى أتون حرب الثمانى سنوات مع إيران (1980 – 1988) باستثناء التمرد الكردى الذى كانت تغذيهالصراعات الإسرائيلية- الإيرانية – الأميركية مع العراق، لأسباب كثيرة أبرزها على الإطلاق إشغال العراق بصراعاته الداخلية لإبعاده عنالانخراط، كقوة عربية مميزة، فى الصراع ضد إسرائيل دعماً للقضية الفلسطينية.
العامل الثانى الذى يفاقم من أزمة الانقسامات والصراعات الداخلية فى الدول العربية الدور الذى يلعبه الصراع العربى – الإسرائيلى، فىظل وجود المخطط الغربى – الإسرائيلى للإمعان فى تقسيم وتفتيت وحدة الدول العربية والحيلولة دون توحدها لسبب أساسى وهو “أن تبقىإسرائيل آمنة” على أساس أن التوحد العربى هو الخطر الذى يعنى بالنسبة لهم “زوال كيان الاحتلال الإسرائيلى”.
الأمر هنا ليس حديث مؤامرة كما يروج “اللوبى” الأمريكى – الإسرائيلى فى بلادنا العربية، فالحقيقة فى هذا الأمر، أنه ليس محض”هاجس مؤامرة” بقدر ما هو “واقع مخططات” مكتوبة ومنشورة وجرى تنفيذها ومازال تنفيذها مستمراً ولم ولن يتوقف، طالما بقى كيانالاحتلال الإسرائيلى “مصلحة غربية أمريكية- إسرائيلية”.
جذور هذه المخططات تمتد إلى سنوات التأسيس لكيان الاحتلال الإسرائيلى ابتداءً من مؤتمر بازل عام 1897، الذى اتخذ قرارات تأسيس”الوكالة اليهودية” لتتولى تمويل هجرة اليهود من كافة أنحاء العالم إلى فلسطين بالتنسيق مع سلطات الانتداب البريطانى فى فلسطين،تمهيداً لإعلان قيام دولة إسرائيل. فبعد سبعة أعوام فقط من مؤتمر بازل عقد “مؤتمر لندن” الذى امتد لعامين (1905 – 1907) وحمل اسممنظمه وراعيه “هنرى كاميل ليزمان” وزير المستعمرات البريطانى فى ذلك الوقت.
ومن هذا المؤتمر صدرت قرارات تقسيم الوطن العربى، بل والإمعان فى التقسيم والتمزيق بهدف “الحيلولة دون توحد العرب” إضافة إلى دعممشروع قيام دولة إسرائيل باعتبارها أنها ستكون أهم عامل لهذا التقسيم بعزل المشرق العربى عن مغربه، وباعتبارها أنها ستتكفل، بعدقيامها، بمهمة الحيلولة دون توحد العرب، باعتبار أن هذا التوحد الخطر الأكبر على المصالح الغربية فى الشرق الأوسط وعلى وجود هذهالدولة.
من مخرجات هذا المؤتمر كان مشروع التقسيم الكبير للعرب الذى حمل اسم “سايكس – بيكو” عام 1916 ، ومنه جاء وعد بلفور عام 1917 بإعطاء فلسطين لليهود تحت غطاء إقامة “وطن قومى لليهود فى فلسطين” ثم مشروعات تقسيم دول الخليج إلى دويلات متشابكة ومتصارعةحدودياً ليبقى الصراع بينها هو أصل العلاقات. وتوالت المخططات بعد ذلك وعلى مدى أكثر من قرن كامل والتى كان أبرزها مشروع”الشرق الأوسط الكبير”، الذى استهدف إعادة تقسيم المقسم وتمزيق الدول داخلياً إلى دويلات عرقية ودينية وطائفية للقضاء نهائياً على مايمكن اعتباره “خطراً عربياً” على إسرائيل وعلى المصالح الغربية من ناحية، ومن ناحية أخرى لإسقاط “النظام العربى” واستبداله بنظامإقليمى بديل، يجمع كل هذه الدويلات العرقية والطائفية والدينية مع كيان الاحتلال الإسرائيلى فى نظام إقليمى شرق أوسطى على أنقاضالنظام العربى. ما حدث فى العراق وما يحدث الآن فى سوريا وفى اليمن وفى ليبيا هو امتداد بشكل أو آخر لهذا المخطط .
العامل الثالث الذى يفاقم من خطر الانقسام والتفكك الداخلى فى الدول العربية ويؤثر بقوة فى تمييع مشاعر الانتماء والتوحد لـ “هوية وطنيةجامعة” هو تأثير مضاعفات ثورتى العولمة والتكنولوجيا خاصة تكنولوجيا الاتصالات الذى يفرض تحديات جديدة لـ “الذات المكانية”(الجغرافيا) و”الولائية” (التاريخ)، لصالح هويات جديدة بسبب التدفق الهائل للمعلومات والأفكار القادرة على تخليق ولاءات جديدةواهتمامات جديدة لدى قطاعات شعبية واسعة، خاصة فى أوساط الشباب ، على حساب الولاءات التى تفرضها الجغرافيا (العيش فى وطنواحد) والتاريخ (التجارب الحياتية المشتركة).
هذا العامل يُعد من أخطر التحديات التى تواجه مهمة مسعى التأسيس لهوية وطنية جامعة فى بلادنا العربية. تحدٍ فى حاجة إلى المزيد من التحليل .
د. محمد السعيد إدريس
جريدة الاهرام : 25 / 10 / 2022