إن نقل المشهد الاستهلاكي لمستلزمات المدارس من ترف الاعتياد إلى ضرورات الاحتياج يستدعي اليوم عملا استراتيجيا مؤطرا، وسلوكا مهنيا راقيا، ونمطا من الممارسة الابتكارية التي تفوق ما تعبر عنه القناعات الشخصية المبتورة، والأفكار الذاتية التي قد تدخل سلوك التمايز بين الطلبة في نوعية مستلزماتهم الدراسية، وبالتالي البحث في طرق الاستهلاك الواعي في التعامل مع مواسم بدء العام الدراسي أو مع بداية الفصل الدراسي الثاني، وفق منظور التثمير في التعليم والقيمة التي يحققها في معالجة إشكاليات الهدر والانفاق والاستنزاف للسيولة المالية للأسرة وولي الأمر، وتعزيز فرص الادخار والمحافظة على سقف التوازنات في المصروفات المالية؛ والقناعة بأن تجهيز الطلبة بالاحتياجات الضرورية والرئيسية لتعلمهم، ينبغي أن يؤسس لمرحلة متقدمة من الوعي بمسؤولياتهم ومواصلة مشوار تعلمهم بطريقة تضمن لهم كفاءة الأداء والتزام معايير التفوق، لما يصحبها من حضور ذهني وفكري، واستعداد بدني وجسمي، وتوظيف للأدوات والمستلزمات المدرسية لتحقيق تعلم عالي الجودة، والتي تفترض في توافرها مدخلا لمسيرة قادمة من العمل والعطاء والإنتاجية والتميز، تستهدف حسن استخدام هذه المستلزمات والأدوات لتحقيق نواتج قادمة والوصول إلى غايات أكبر يستشعرها الطالب في تعلمه.
على أن دور المدارس في التعامل مع الحالة الاستهلاكية، ينبغي أن يكون داعما لولي الأمر والأسر وموجها لفلسفة التعاطي مع احتياجات المدارس من اللوازم المدرسية، ويجيب عن التساؤلات المطروحة من أولياء الأمور حول جدوى هذا الاستهلاك والنواتج التي يحققها في حياة الطلبة، وفاعليتها لتحقيق تعلم ناجح، أو مساهمتها في مساعدة الطالب لبلوغ أهداف التعلم، وبالتالي فهي ليست حاجة تكميلية أو ترف مادي بقدر ما هو سلوك يرتبط بمنظومة التعليم ذاتها ومفهوم الجاهزية المجتمعية للعام الدراسي، والتعاطي الواعي مع القناعات التراكمية المتولدة لدى الأسر وأولياء الأمور، والتي اتخذت مسارات أخرى قد تكون غير مرغوبة من المدارس، فهي أقرب لإظهار التمايز وتعزيز النظرة الأحادية والفوقية بين الطلبة بطريقة غير مباشرة من خلال تزويد بعض الأسر أبنائها بمستلزمات تفوق الاحتياج المدرسي، وقد تتجاوز سقف المعايير والاشتراطات المحددة من قبل المدارس.
وبالتالي ما يعنيه ذلك من أهمية البحث عن ممكنات أكثر إجرائية ومهنية تقرأ المعادلة الاستهلاكية للطلبة كمنظومة حياتية، تتكامل خلالها جهود أطراف كثيرة، فمن جهة ينبغي أن يؤسس التعليم لمسارات أكبر من وعي الطلبة بمفاهيم الادخار والاستثمار والاحتياج والانفاق، وهو في الوقت نفسه ينبغي أن يتخذ الاحتياطات الضبطية والتقنينية الاحترازية اللازمة للحد من الممارسات السلبية في التعاطي مع متطلبات البعد المالي والاقتصادي بحيث لا يشكل اهتمام الطلبة بالحصول على هذه المستلزمات عبئا أسريا يقضي على رغبة التعلم واستبشار الأسرة ببدء العام الدراسي؛ وهو أمر يرتبط أيضا بمستوى التثقيف والتوعية وكفاءة الأدوات الإعلامية وقدرتها على إيصال الصورة الفعلية للتوجهات التعليمية ورؤية وزارة التربية والتعليم في التعامل مع مستلزمات الطلبة، والتي قد تصل إلى أولياء الأمور والأسر بصورة مشوهة أو مبتورة، وفي المقابل مستوى التقارب والتناغم بين هذه الخيارات والشروط والبدائل التي تحددها المدارس مع قناعات الأسرة وتفكير ولي الأمر والموقع الاقتصادي الذي يعيشه، بما يؤكد أهمية العمل الجاد على استمرارية عمليات التوعية عبر مختلف المنصات الإعلامية المختلفة لنوعية المستلزمات التي يحتاجها الطلبة.
عليه فإن تأكيد هذا المدخل يتطلب جملة من الموجهات التي أشرنا إلى بعضها سلفا، بالشكل الذي يؤسس لسلوك وطني يتسم بالمرونة والحكمة والاعتدالية والتقنين في الحد من الاستهلاك للموارد والمستلزمات المدرسية، والمحافظة على مداها الزمني لفترة أطول، والاستفادة من صلاحية استخدام بعضها لسنوات قادمة، وذلك من خلال: التأكيد على أهمية تعزيز ثقافة التقنين وفق المعايير، بما تتطلبه من تحولات في مسيرة الأداء التعليمي ومسؤولية وزارة التربية والتعليم والمدارس في تبني سياسات نافذة يؤخذ فيها برأي أولياء الأمور والأسر والطلبة، ويستفاد من وجهات نظرهم ومقترحاتهم العملية في نوعية المستلزمات المدرسية ومستوى الحاجة إليها، وتوفير أفضل المستلزمات المدرسية التي يحتاجها الطالب بأسعار مناسبة وجودة عالية وبأقل التكاليف وبأفضل المعايير، والبحث عن سياسات استثمارية وتسويقية مبتكرة في القيام بأنشطة تثقيفية وتوعوية للطلبة وأولياء الأمور بشأن نوعية الأدوات والمستلزمات المدرسية المطلوبة، والمعايير التي وضعتها الوزارة لكل الصفوف الدراسية.
وفي المقابل تؤسس ثقافة مراقبة السوق ومنع الاحتكار اليوم مدخلا مهما في الحد من عقدة الاستهلاك المدرسي، لكونه ركنا مهما في المعادلة الاستهلاكية التي تُبقى على المؤسسات والمراكز والمولات والمحلات والمكتبات وأنشطة بيع مستلزمات المدارس وحلول التعليم، مسؤولية تحقيق الشفافية والمصداقية والالتزام بسقف أسعار مناسبة في متناول يد ولي الأمر والأسرة، وحتى لا تتحول عملية شراء مستلزمات المدارس إلى كونها عبئا إضافيا يضاف لولي الأمر وإرهاقا اقتصاديا يستنزف موارده المالية، تأتي عملية مراقبة السوق كعملية ضبطية احترازية في الحد من جشع بعض الموردين والتجار في ارتفاع الأسعار أو الاستغلال السلبي للاحتياج والحد من حالات الغش والتزوير والتقليد التي تحصل في هذه المصنعات الاستهلاكية، وما يمكن أن تقوم به الهيئة العامة لحماية المستهلك في مراقبة أسعار السوق، وإلزام وزارة التجارة والصناعة، الموردين لهذه الأدوات بالشروط والمعايير الوطنية، والدور المحوري الذي يقوم به مركز حماية المنافسة ومنع الاحتكار الصادر بالمرسوم السلطاني رقم 2/ 2018 في تشخيص حالة السوق ومراقبة نوعية الأدوات المدرسية التي يتم توريدها حتى لا يقع ولي الأمر في مظنة شراء مستلزمات لا تتوافق مع المعايير المحددة فيتكلف عملية شرائها، بما يضع وزارة التربية والتعليم أمام مسؤولية تزويد هذه المؤسسات بالمعايير واشتراطات واحجام ومواصفات الدفاتر والاقلام والحقائب والمستلزمات الأخرى قبل عمليات توريدها أو عرضها في السوق المحلية، وأن تتجه عملية التقنين فيها بين زيادة التنوع في المعروض في السوق الوطنية بأفضل المعايير مع ضمان الإبقاء على سقف الجودة حاضرا في كل المعروض والأنواع المتعددة من المستلزمات المدرسية الأخرى، بالشكل الذي يمنع من انتشار النوعيات ذات المستويات المتدنية والتي تصبح عرضة للتكسير والتلف في وقت قصير مما يزيد من تحمل الأسرة للأعباء والمسؤوليات في شراء مستلزمات جديدة أكثر من مرة في الفصل الدراسي الواحد؛
ولما كان الطالب، أساس المعادلة الاستهلاكية، وهو الرهان المقصود من هذا العمل، والمحرك الرئيسي لهذا الملف، لذا كان العمل على احتواء قناعات الطالب المستهلك الأول لهذه المستلزمات وصاحب الاحتياج الرئيسي لها، وترسيخ ثقافة المسؤولية لديه وتعويده على تحمل أدواره، والتخطيط الجيد لما يمتلكه من قدرات واستعدادات، والاستفادة المثلى مما يقع بين يديه من أموال، وحسن توجيهها لأفضل الممارسات، ووضع صورة الواقع المالي الأسري أمام الطلبة، سوف يعزز من بناء الثقة ويقوي من فرص الاختيار الواعي لهم، إذ إن بناء محددات الاستهلاك الواعي للأدوات المدرسية يستلزم جهدا مشتركا وتعاونا من قبل الطلبة وأولياء أمورهم في ظل استمرارية الاستهلاك لمستلزمات المدارس، وبالتالي أهمية قراءة السلوك الاستهلاكي في إطار الممارسة اليومية وبناء سلوك حياتي في ظلال فلسفة التقنين ونهج التخطيط، من حيث، رصد موازنة أسرية محددة لشراء المستلزمات المدرسية تركز على الأولويات والأساسيات التي يحتاجها الطالب في تعلمه، وتعميق مفاهيم اقتصادية واستثمارية وتسويقية تعزز من قدرة الطالب على توفير هذه المستلزمات بطريقة مهنية، في ظل مساحات الابتكار والتجديد وترقية القدرات والاستعدادات في ضمان المحافظة على هذه المستلزمات لزمن أطول والاستفادة منها في فترات قادمة، بما يضمن معالجة جذرية لما يحصل في هذا الاطار من استهلاك سلبي يفوق الاحتياج المطلوب، والعمل على توعية الأبناء والحوار معهم وإقناعهم بحقهم في الاختيار الواعي وفق احتياج كل فصل دراسي وشراء الأدوات ذات المستويات المناسبة من الجودة؛ وتبقى عملية غرس ثقافة الاستهلاك الرشيد وتوجيه الطلبة إلى الاحتياج الفعلي، والأخذ بمبدأ الأولويات وتقدير الحاجة، مسؤولية مشتركة يقع العبء الأكبر منها على منظومة التعليم والمدرسة بما فيها من إدارة ومعلمين ومجالس مدرسية ومنظومة أداء تعليمي، عبر قدرتها على إعادة هندسة سلوك الطلبة في عملية الاختيار، والتعامل مع عقدة الأنا التي باتت تفرض نفسها في اختيار هذه المستلزمات، والشروط التعجيزية التي يصنعها الطلبة من ذات أنفسهم، أو عبر مقارنتهم بأوضاع أقرانهم، وحالة الإصرار التي يعيشها الطالب في عملية اختيار هذه الأدوات وانتقائها كما وكيفا؛ فإن تأصيل سلوك إيجابي لمفهوم ترشيد الاستهلاك في حياة الطالب، وحسن توجيه الابناء بإمكانية مشاركة بعضهم البعض في بعض الادوات، خاصة مع بداية الدراسة مثل : الحاسبات الشخصية وبعض الوسائل التعليمية والتي يمكن شراؤها مستقبلا مع توفر السيولة المالية للأسرة.
من هنا تأتي أهمية الوقوف على هذه المحطات في معالجة هذا الملف، وتعزيز فرص حضور الممارسة المهنية والابتكارية وصناعة البدائل وتوليد الحلول، والانتقال من سلوك الاستهلاك إلى الإنتاج، والتي تفرض على التعليم أن يصنعها في واقع حياة المتعلمين، عبر تعزيز المبادرات المدرسية والاهتمام بدراسة الأبعاد والتحولات الاجتماعية والظروف الاسرية، وتعزيز دور قواعد البيانات الطلابية والاسر محدودة الدخل في رسم ملامح التعامل مع الحالة الاستهلاكية للطلبة، بما يعني مراجعة الممارسات الحاصلة في المدارس وإعادة النظر في التشريعات واللوائح المنظمة لها، وتأكيد البحث عن بدائل استثمارية، وتكوين صناديق تثميرية داعمة للطلبة، وأن تتبنى المدارس ذاتها مشروعات نوعية في تقديم الدعم للأسر المحتاجة، واحتواء الأسر المنتجة وتسويق المنتجات المحلية، وتبني مبادرات الدعم للأسر محدودة الدخل التي يزيد عدد أبنائها في المدارس الحكومية عن ثلاثة أبناء، إذ هذه الموجهات نماذج يمكن للمدارس التعاطي معها بمهنية في سبيل بناء مسار استثماري وانتاجي قادر على معالجة الأفكار السلبية حول استهلاك المدارس، هذا الأمر يضعنا أمام التأكيد على أهمية التوسع في المبادرات التي تقوم بها بعض المدارس بالمحافظات التعليمية من حيث توفير حقيبة طالب متكاملة مجهزه بالأدوات المدرسية مقابل مبلغ رمزي، أو كذلك شراء ملابس الطالبات الرياضية بأسعار مناسبة.
إن إدخال ثقافة ترشيد الاستهلاك وتقنينه وضبطه في حياة الأجيال عملية مهمة تؤسس لمسارات اكبر في بناء حياتهم على أسس من التخطيط والتنظيم والرقابة والمسؤولية والتقنين، ويعزز فيهم قيم الابتكار والتجديد وفتح الآفاق لاستيعاب أكبر للتحولات الحاصلة في واقعهم المعيشي، والأولويات التي ينبغي وضعها في الحسبان، ويصبح تكاتف الجهود في تأسيس ثقافة استهلاكية رشيدة، يأخذ كل الفاعلين والمؤثرين منها بطرف، مبنية على الاختيار الواعي وفق الاحتياج، والانتقاء المبرر وفق المعايير أنموذج عملي للتربية الاقتصادية للأجيال، وتعزيز المفاهيم الإيجابية لديهم في الاستثمار والاستغلال المثل للموارد، ويصنع فيهم اهتمامات ذاتية بالبحث في هذا المجال في مستقبل حياتهم وفي تعاملاتهم الاقتصادية والمالية، وبالتالي ما يمكن أن يسلكوه في هذا الشأن من مسالك احترازية في عملية الشراء أو البيع أو في تعاملاتهم البنكية وقراءتهم لواقع السوق والسلع الاستهلاكية، من حيث وضوح التعليمات، وجودة الادوات المعروضة واسعارها في السوق المحلي والمنافسة بين المراكز التجارية والمكتبات في توفير أدوات مدرسية ذات مواصفات جودة مناسبة، وطريقة تقديم العروض والحوافز المدرسية وتشجيعها؛ فإن هذه المواقف أحد الأطر التي يمكن أن يبني عليها التعليم مفاهيم القيمة الاقتصادية في حياة الطلبة، ويؤسس فيها التعليم محطات انتاج قادمة يجب أن تنطلق بنيتها من المدارس في الحد من عمليات الاستهلاك اليومي لهذه المستلزمات، عبر إعادة هيكلة الواقع الاستهلاكي للطلبة، والبحث في القيمة الاقتصادية الناتجة عن بناء مسارات تصحيحية في سلوك الطالب نحو عادات الاستهلاك المادي اليومي، في ظل احتكامها للمبادئ الأخلاقية والقيم الدينية في تأكيدها على الانتاجية والعمل والبحث؛ فتؤصل فيه الحس الإيجابي بقيم الادخار والاتزان في المعادلة الاستهلاكية اليومية، والإيجابية في التعاطي مع قيم الاستهلاك والمفاهيم والأفكار التي تؤثر سلبا على نوعية الاستهلاك ومتى يصبح الاستهلاك استنزافا للموارد وتبذيرا لها ومتى يصبح تثميرا لجودة المنتج التعليمي التي تظهر نواتجه في سلوك الطالب وفهمه ووعيه ومهاراته. في ظل شعور إيجابي بالقيمة المضافة التي تصنعها هذه المسألة في حياة الطلبة واتجاهاتهم المستقبلية.
د. رجب بن علي العويسي
Rajab.2020@hotmail.com
#عاشق_عمان