كما هو معلوم أن علم البلاغة هو مزيج من فنونٍ ثلاثة، (المعاني – البيان – البديع)، هذا العلم يكشف أسرار وخبايا اللغة العربية لفهم إعجاز القرآن الكريم وهو موضوعنا تحديداً، حيث أن لعناصر علم البلاغة تأثيراً ملحوظاً في فهم وتحليل النصوص، إلا أن للقرآن الكريم خصوصية تجعل استعمال المجاز والكناية فيه جليّاً على نحو أكبر.
جاء القرآن بمعان جديدة على العرب، لم يألفوها سابقاً، ولعلمي البيان والبديع اختصاصاً برأيّ هو اختصاص خاص لأنهما وسيلة لإظهار خصائص البلاغة القرآنية وما تشمل عليه الآيات من تفاصيل المعاني وإظهار أوجه الإعجاز، وكل من يبحر في هذا الإعجاز لا بد من التدبر والتعلم وفهم المعاني، ولا سبيل لتحقيق ذلك إلا بتعلم علوم البلاغة وهذا أهم ما يجب ان يتعلمه طلاب العلوم الشرعية، فلقد أكد الإمام الزمخشري على ذلك وذكره في كتابه (الكشاف) نقلاً عن الجاحظ في كتابه (نظم القرآن) بالقول: “إن الفقيه وإن برز على الأقران في علم الفتاوى والأحكام، والواعظ وإن كان من الحسن البصري أوعظ، والنحوي وإن كان أنحى من سيبويه، واللغوي وإن علك اللغات أي هضمها وأجادها وفهمها حق الفهم بقوة نحييه، لا يتصدى أحد لسلوك تلك الطرائق، ولا يغوص على شيء من تلك الحقائق، إلا رجل قد برع في علمين مختصين بالقرآن، وهما، علم المعاني وعلم البيان، وتمهل في ارتيادهما آونة، وتمهل في التنقير عنهما أزمنة، وبعثته على تتبع مظانهما همة”.
بالتالي، نجد أن المكتبة الإسلامية زاخرة بدراسات عديدة اهتمت ببلاغة القرآن وأوجه الارتباط بينها وبين علمي التفسير والبلاغة، وتكاد تعود بدايات هذا الارتباط إلى بدايات التأليف في العلوم الإسلامية ذات الاهتمام بالتقعيد لمستويات التعامل مع القرآن الكريم وتناولِه بالدراسة والفهم، حيث لا تكاد تخلو مؤلفات التفسير من توظيف للدرس البلاغي ولا تكاد تخلو كتب البلاغة من استشهاد بالآيات القرآنية، مما يعكس الوعي بمحورية البلاغة القرآنية ومصدريتها لعلمي التفسير والبلاغة، والمتتبع للظواهر المترتبة على القراءات القرآنية، سيجد لا محالة أن هذه الظواهر لها صلة بعلم المعاني الذي يجعله علماء البلاغة منحصراً في موضوعات تتصل بالنظم، ومطابقة الكلام الرباني لمقتضى الحال أصالة، فبعض المفردات القرآنية داخل النظم قابلة لتعدد القراءات القرآنية، مما يفضي إلى تعدد الأوجه النحوية واللغوية والبلاغية، وهذا طبعاً يحقق تعدد واتساع المعاني القرآنية في الآية الواحدة، حسب ما تحتمله المفردة في سياقها من دلالات، يقول الإمام السيوطي في كتابه “الإتقان في علوم القرآن”، وتحديداً في الباب الثامن والسبعين، كلام أهل العلم في العلوم التي تشترط للمفسر أن يكون ملمّاً به، وأنها تأتي في خمسة عشر علماً، الخامس والسادس والسابع منها، المعاني والبيان والبديع حيث يقول: (لأنه يُعرف بالأول منها خواص تراكيب الكلام من جهة إفادتها المعنى، هو علم المعاني، وبالثاني هو البيان، خواصها من حيث اختلافها بحسب وضوح الدلالة وخفائها، وبالثالث هو البديع، وجوه تحسين الكلام).
بالتالي، كل قراءة لها فائدة ودلالة محتملة، تجعلنا نستشعر لطائف وأسراراً ربانية ذ القراءات القرآنية متساندة، يكمل بعضها بعضاً، مما ينتج عنه الاتساع في المعنى وفق ما يطابق أحوال الناس، فلا عجب إذن أن نجد أكثر الظواهر البلاغية للقراءات القرآنية من علم المعاني وعلم البيان، إذ كل قراءة قرآنية تؤثر على حركة المعنى في التركيب، مما يؤدي إلى إثراء الدلالة القرآنية، هذا ما لمسناه في تفاصيل تفسير بعض الآيات من سورة طه في المواضيع السابقة، ما يعني أن القراءات القرآنية متساندة، يكمل بعضها بعضاً، مما ينتج عنه الاتساع في المعنى فلا عجب إذن أن نجد أكثر الظواهر البلاغية للقراءات القرآنية من علم المعاني وعلم البيان، إذ كل قراءة قرآنية تؤثر على حركة المعنى في التركيب، مما يؤدي إلى إثراء الدلالة القرآنية، بالتالي، إن القراءات القرآنية إذن مدخل بلاغي للكشف عن هذا الاتساع في المعنى، إلا أن البحث التطبيقي أمر في غاية المتعة والصعوبة معاً، ذلك أن مثل هذا العمل يتطلب معايشة طويلة للقرآن الكريم، والأخذ بحظ وافر من مختلف العلوم المساعدة على تفسيره، مع الاستعانة بإشارات السابقين من خلال النظر في تفاسيرهم وكتب اللغة والمعاجم، للبحث عن أصول المفردات القرآنية وتطور دلالاتها، حتى نستشعر المعاني التي يمكن أن تحتملها في سياقاتها داخل النظم القرآني، من خلال تعدد القراءات القرآنية لها، ذلك أن المفردة القرآنية تمتاز بخصوبة دلالية واسعة، وهكذا يمكن القول إن القراءات القرآنية فكر بلاغي مضيء للمعاني القرآنية، ذو أبعاد بلاغية واسعة في القرآن الكريم.
هذه العلوم الثلاثة التي أشرنا إليها هي علوم البلاغة، وكما يقول الإمام السيوطي هي: (من أعظم أركان المفسر، لأنه لا بد له من مراعاة ما يقتضيه الإعجاز وإنما هو يُدرج بهذه العلوم).
واستكمالاً لتفسير سورة طه، بعد هذه المقدمة القريبة من مقدمة الموضوع السابق والتي اعتبرتها استكمالاً لها، من حيث إغناء تفصيل الموضوع بشيء من الأمانة العلمية، خاصة وأن لعلم البلاغة اهتمام كبير لدى أغلب المفسرين، وكما قال الإمام الألوسي في تفسيره: (في ثالث ما يحتاج المفسر من أمور في علم المعاني والبيان والبديع، الأول يعرف بخواص التركيب، من جهة إفادتها المعنى وبالثاني خواصها من حيث اختلافها وبالثالث وجوه تحسين الكلام، وهو الركن الأقوم واللازم الأعظم في هذا الشأن، كما لا يخفى ذلك على من ذاق طعم العلوم ولو بطرف اللسان).
قال تبارك وتعالى: (قال قد أوتيت سؤلك يا موسى ولقد مننا عليك مرةً أخرى إذ أوحينا إلى أمك ما يوحى أن اقذفيه في التابوت فاقذفيه في اليم فليلقه اليم بالساحل يأخذه عدو لي وعدو له وألقيت عليك محبةً مني ولتصنع على عيني إذ تمشي أختك فتقول هل أدلكم على من يكفله فرجعناك إلى أمك كي تقر عينها ولا تحزن وقتلت نفساً فنجيناك من الغم وفتناك فتوناً فلبثت سنين في أهل مدين ثم جئت على قدرٍ يا موسى واصطنعتك لنفسي)، هذه الآيات عجيبة محيرة تطالبنا بالتركيز للفهم العميق لآيات القرآن معنىً وحكمةً وموعظةً، فبعد دعوة موسى عليه السلام ربه واستجابة الخالق السريعة له كما ذكرنا في الموضوع السابق، تكمن مشكلة هنا وهي أن ما كان يطلبه موسى، كان للمستقبل (اشرح لي صدري، يسر لي أمري)، وهذه مطالب مستقبلية، يأتي الرد الإلهي عليها بالماضي، (قد أوتيت سؤلك يا موسى)، كل ما سأله موسى قد أتاه، فما معنى هذا؟
معنى هذا أن ما قدره الله عز وجل في موقف موسى والإجابة على مطالبه، كله تم في الأزل وكله مقدورٌ بعلم الله تبارك وتعالى أزلاً قبل أن يولد موسى وقبل أن يولد بنو إسرائيل وقبل أن يكون هناك شيءٌ في هذا الوجود، فكل ذلك مقدورٌ ولذلك جاء القول (أوتيت سؤلك يا موسى) على الماضي، أي كل شيء تم، وهذا من الأساليب القرآنية الشائعة، كما في قوله تعالى: (أتى أمر الله) اي يوم القيامة، وأي أمر من الله تعالى فهو محقق، فأسلوب القرآن هنا مليءٌ باليقين، ما يعني أن موسى زاد يقيناً بأن كل ما طلبه من القدرة الإلهية قد انتهى وقدّر ولم يعد هناك انتظار لشيءٍ يحدث، ويمضي أسلوب القرآن (ولقد مننا عليك مرةً أخرى) أي يذكره بنعمه عز وجل عليه (إذ أوحينا إلى أمك ما يوحى أن اقذفيه في التابوت فاقذفيه في اليم فليلقه اليم بالساحل يأخذه عدو لي وعدو له وألقيت عليك محبةً مني ولتصنع على عيني) وهذا في الواقع أسلوب مدهش أيضاً، إن ما مضت به القدرة الإلهية منذ أن كان موسى وليد (طفل رضيع) فأمه كانت تخشى عليه أن يُذبح من قبل فرعون الذي كان يقتل أطفال بني إسرائيل ذبحاً، وهذا كان أمراً رهيباً جداً، وكان لا بد للمرأة أن يكون عندها ما يطمئنها على وليدها، فالوحي على الأم هنا بمعنى الإلهام، فهذا الوحي إلى أم موسى هو شيء فوق العقل أي أن تضع ابنها في التابوت، ومن ثم البحر فالوحي هنا يشجع أم موسى أن تفعل ذلك، لأن أقدار الله تعالى ارتبطت بالخطوات التالية لما طُلب من أم موسى من أوامر إلهية، حتى هناك أمر للبحر أن يقذف التابوت بالساحل، فالله تعالى لا يقترح خطوات بل يأمر، ثم يترتب على أم موسى قدر الله عز وجل الذي سيأتي بعد ذلك (واصطنعتك لنفسي)، أي كل النتائج ستترتب على الأمر الأول (اقذفيه في التابوت فاقذفيه في اليم)، ثم (يأخذه عدو لي وعدو له) فالمسألة عداوة شرسة، فالساحل سيأخذ الوليد ليسلمه لعدو لله وعدو لموسى، ثم يقول (وألقيت عليك محبةً مني) هي محبة الله عز وجل رغم هذا الجو المضطرب والمشحون بالكراهية والحقد، وكل هذا يبرد تماماً وينتهي بتحصين الله تعالى موسى من هذا العدو الشرس “فرعون” ألا وهي محبة الله تبارك وتعالى.
(ولتصنع على عيني)، أية صناعة هذه، وأية قدرةٍ هائلة تصنع الوليد ومستقبله وحياته بين يدي الكراهية والبغضاء فتستخرج من هذا الموقف موسى نبي الله، أحد أولي العزم من الرسل وكل ذلك بشكلٍ مسبق لم يحدث بعد، وإنما مضى بذلك أمر الله وقدر الله، فلقد شمل الله تعالى هذا الوليد بمحبة كبيرة (ألقيت عليك محبةً مني) تأملوا الجمال والروعة هنا، ما أجملها من جملة، أن يلقي الخالق محبته في وليد، فكلنا نتمنى حب الله تعالى، أن يحبنا تبارك وتعالى وأن يلهمنا أن نحبه، فما أجمل قول (أحبك في الله)، لكن هذه المحبة هنا لطفل لا يعي معنى الحياة، فما ذلك إلا غيباً من الغيوب الإلهية، وهذه هي عظمة الأقدار الإلهية، عندما ربط الله على قلب أم موسى على أن تكون من المؤمنين، فحكاية القرآن لهذه القصة تتناول كل الأطراف وكل المعاني وكل الاحتمالات، بالتالي، سيدنا موسى عرف هذا المعنى فكان دائماً يدعو ربه ليشرح له صدره مهما كانت الصعوبات التي سيواجهها.
أخيراً، إن سورة طه كما كل القرآن الكريم، اشتملت على وجوه وأسرار بلاغية متعددة، الآية الواحدة قد تحتوي على قراءتين لكل منهما توجيهه البلاغي، آية واحدة بقراءتيها تشتمل على بلاغة الذكر وبلاغة الحذف في آن واحد، وهذا من وجوه إعجاز القرآن البلاغي، وليس كما يدعي بعض المستشرقين أنه من باب التناقض والاختلاف، إنما هو من باب توسعة المعنى وثراء اللغة العربية التي بها قد نصل لوجه جديد في إعجاز القرآن، يضاف إلى ما سبق من جهود العلماء السابقين، وكما قال الزركشي في كتابه (البرهان في علوم القرآن)، إن ملاك الأمر في المعاني هو الذوق، ومن طلب البرهان عليه أتعب نفسه، فالجمال البلاغي في القرآن الكريم واضج الصورة وجلي ولا يشكك بهذا الأمر إلا كل جاهل وقليل الإيمان.
د. عبدالعزيز بن بدر القطان