القيم معايير للسلوك الأصيل، ومدخل للبناء الإنساني القويم، نهضة للفكر، واستراحة للوعي وطريقا للتقدم، ومنطلقا لإعادة انتاج ثقافة الواقع في حياة الأمم والشعوب، تكسب الحياة بهاء ونماء، وتصقل النفوس سيرة ومنهجا، فأينما وجدت القيم وجدت معها حياة الأمن والأمان والاستقرار، واتسعت بسببها مساحات الانس والتواصل واللقاء والاحترام، وبنقوقها يعيش العالم حياة البهيمية العجماء، مفتقرا للهدف، مبتعدا عن النهج، متنصلا من المسؤوليات، متجاوزا للحرمات، منتصرا للذات، جاريا وراء الملذات، لا يكاد يشعر بواجباته نحو غيره، أو يتقاسم المسؤولية مع شركائه من بني جنسه، ولعل الجميع يتفق معي بأن مشكلة الإنسانية اليوم، ليس في حجم الموارد والثروات المادية التي تمتلكها والتي تشهد تنوعا وفائضا، كما أن تقدمها وتطورها لا يرجع في الأساس إلى وجود هذه الموارد المادية والمالية والثروات المعدنية، كما أنه ليس في الزيادة الكمية للمعارف والتجارب والخبرات والموارد المعنوية الثقافية والفكرية، فهي متوفرة اليوم أكثر من أي وقت مضى، ويشهد العالم خلالها فائضا معلوماتيا واتساعا معرفيا لم تشهده عصور الإنسانية من قبل ، فهي في وضعها المجرد الذي يفتقر إلى الحيوية والديناميكية والحياة والتجديد لا قيمة لها ولا أثر لها إن لم يُحسن استغلالها، أو يستمر فيها ويعاد انتاجها من جديد، إذ قيمة هذه الموارد في قدرتها على إدارة حركة الحياة وتوظيفها في إعادة هندسة الواقع بحيث يعي الإنسان قيمتها في حياته ، وتصنع منها المجتمعات مائدة لصقل الشخصية وبناء الهوية وترقية السلوك وتأصيل الوعي بين أبنائها، إن هذا الحراك الذي يحصل للفكر والثقافة والخبرة والتجربة والمعرفة بحاجة إلى رصيد آخر يصقله ويغلفه ويزيل عنه الكدر ويمسح عنه الدرن ويتيح استخدامه بشكل أكثر مهنية وذوق، ورقي وسمو – إنها القيم – التي تحول المعادن إلى جواهر، وتطلي الجواهر بالحياة وتثريها بالبحث في عالم الإنسان والدخول في أعماقه؛ وانتفاء هذه القيمة المعنوية من هذا الرصيد الطريق لبقاء هذه الموارد على حالها كامنة هامدة دون حياة، فلا يدرك موقعها في عالمه، لهذا يسئ استغالها ويظلمها حقها، ويشوه صورتها ويهدر سمعتها، فيعيش حالة من القلق، وضعف مساحات الأمن والأمان ، وافتقاره لقيمة التصالح مع الذات والآخر، ويشعر بأن الدنيا تحمل له أدوات عقابه، وأن وجوده في الحياة – بالرغم من توفر كل مقوماتها أمام عينيه- لم يستطع أن يوفر له فرص لتحقق الايجابية، فيعيش في قسوة من العيش، وضعف الشعور بالأريحية مع النفس ، ولعل السر وراء هذه النظرة التشاؤمية للواقع نتاج لفجوة القيم وابتعادها عن خط سيره أو تجاوزه السلبي لها واستغنائه عنها، فيكون حضورها في قاموسه الشخصي” سحابة صيف ” و” حالة طارئة ” أي ليست نابعة من ذاته أو معبرة عن إرادته أو متجاوبة مع خياراته. إن القيم والاخلاقيات هي من يضيف نكهة الجمال في هذه الموارد، ويمنحها القوة للعيش في عوالم الحياة المختلفة، ويؤسسها على بصيرة من الوعي والمهنية والتخطيط والوضوح، فيوظفها في ترقية ذاته، وترسيخ مبادئه، وصقل مواهبه، وترقية عاطفته، وتحسين سلوكه، وتهذيب أخلاقه، وعندها ستتجه بوصلة عمله إلى تحقيق الأهداف السامية، والوصول إلى الغايات الكبرى التي ينشدها في حياته، عندها تعيش الإنسانية حياة الأمن والأمان والاستقرار والإخاء والتنمية والحب والصفاء واستشعار النعمة والشعور بالآخر والاعتراف بحقوقه وواجباته.
وإذا كانت منصات التواصل الاجتماعي والفضاءات الاجتماعية الالكترونية المفتوحة ، تشكل اليوم مصدرا من مصادر المعرفة، وفرصة لإنتاجها وخلق تحول في الوعي الاجتماعي، نظرا لما تساهم به من نصيب وافر في بناء حياة الانسان عبر تزويده بالمعارف الحياتية التي يحتاجها أو إتاحة الفرصة له للإسهام والمبادرة في تقديم ما لديه من خبرات وتجارب ومهارات وغيرها ليشارك بها الاخرين؛ فإنها بحاجة إلى مسارات تضبط أدائها، وتُحسن استغلالها، وتضيئ طريقها، وتؤسس لها حضورها الفعلي المؤثر في حياة الافراد والمجتمعات ، فيعظّم قيمتها كاستثمار بشري للفكر الرصين والحوار الهادف والنقاش المثري ، وتوليد المعرفة وإنتاج المعلومة، وتعظيم قيمة المشاركة في الرأي، وخلق بيئات حوارية واسعه، خاصة في ظل ما تتسم به هذه الفضاءات من اتساع وعمق وشمولية، وما يلازمها من صفة الخصوية والتفاعلية والعالمية، حتى أصبحت مصدر احتواء للشباب، نظرا لزيادة أعداد المستخدمين لمنصات التواصل الاجتماعي حول العالم، سواء كان الواتس اب والفيس بوك والتوتير والاستحرام واليوتيوب وغيرها من المنصات التواصلية التي تشهد رواجا وانتشارا مذهلا واتساعا بين الشباب ، وبالتالي كانت هذه الفضاءات بحاجة إلى القيم كموجهات تضبط مسارها وتوجه مقاصدها وتُحسن استغلالها وتثري حواراتها، ويُبيّن جوانب القوة والوعي فيها ، حتى لا تتحول إلى أداة هامدة، وسلوك خاطئ، فيستغلها الفرد في نشر المفسدة، وتسويق الرذيلة، وتعميق المذهبية، ونشر الكراهية، وتأصيل العدائية والفوقية والسلطوية، وتعميق الفجوة بين الواقع والسياسات، وترسيخ الهوة بينها، وانتهاك حقوق هوية الشعوب ومبادئها وقيمها وخصوصياتها وثقافتها، وإدخالها في حالة من التيه، أو الاهتمام بسفاسف الأمو، والاكتفاء بالإعجابات والاهتمام بالشكليات مع سلب الفكر أي فرصة للتأمل والنظر والبحث والقراءة والتصحيح والمراجعة، وعندها تكون النتيجة الوقوع فريسه الابتزاز الالكتروني من قبل الجماعات المنظمة وأصحاب الفكر السلبي والمتشددة؛ إنها بحاجة إلى القيم التي تحلق في فضاءاتها فتُكسبها الأمانة في الانجاز، وتسمو بها فوق الخلاف، وترسم في ظلالها مستقبل الانسان في ظل فلسفة احترام الآخر، والاعتراف بحقوقه، والالتزام بالمسؤولية نحوه، وتقدير الفكر الإيجابي، وتعميق روح المسؤولية في عالم متسارع وأحداث متتالية ومواقف متباينة.
على أن ما يبرزه واقع الفضاءات الرقمية المفتوحة من تشويهات وأحداث وعداوات وممارسات على ألسنة المغردين وناشطي مؤسسات التواصل الاجتماعي وغيرهم من أصحاب الصفحات الوهمية أو الجيوش الالكترونية التي غزت منصات التواصل الاجتماعي ، وهي ممارسات سطحية في عمق نتائجها تعبر عن حالة من الاندفاع ، تتنافى مع قيم الانسان واخلاقياته، وتوجيه هذه المنصات لتكون مساحة لفرد العضلات ومصادرة الفكر، وانتزاع الرأي، وساحة للتنابز والتشاحن والتنمر، والأحقاد والكراهيات ، وفرصة للنيل من الاخر والاعتداء اللفظي والمعنوي، حتى أصبحت منصات التواصل الاجتماعي فرصة للتشفي والاستخفاف واستحمار العقول، واستباحة الأعراض والممتلكات وسرقة التأريخ، وتشويه صورة الانجاز البشري، محطة للمهاترات وتعميق الخلافات المذهبية، والممارسات التي باتت تنبئ عن واقع جديد تعيشه منصات التواصل الاجتماعي، يفتقر لمقومات النجاح والاستدامة والاستمرارية ، حيث تتلاشى فيه القيم، وضعفت فيه الأخلاق، وضيعت فيه الاخلاق ، وماتت الضمائر، وأرهقت الشيم، حتى غرقت الشعوب والأوطان في وحل الفرقة، وضلت في بحر لجي، متلاطم الأمواج العاتية ، التي أتت على كل شيء؛ لذلك كان التعامل مع معطيات هذا الواقع بحاجة إلى عودة ” القيم” إلى الواجهة، وتحليقها فوق فضاءاتها المفتوحة الواسعة، ودخولها في منصاتها التطويرية والتجديدية، لتفتح للإنسانية الواعية آفاقا جديدة للعيش المشترك والتعايش الواعي والنهوض الفكري، واستشعار قيمة هذه النعمة بمزيد من التفاؤلية والعمل الجاد، فتزول عندها كل التشوهات التي باتت تتخلل إلى الصورة الذهنية للفرد من مستخدمي منصات التواصل الاجتماعي والفضاءات المفتوحة، ومع ما نتج عنه هذا الابتعاد الحاصل عن القيم من أحداث ومستجدات، يأتي التأكيد على أهمية إعادة انتاج القيم في هذه الفضاءات، وبناء ارضيات أوسع لها في هذه المنصات، وخلق تشعب في مسارات دخولها في كل مفاصل هذه الفضاءات التي باتت تشكل جزء مهما في حياة الإنسان اليومية، فتُكسبها قوة في الأداء، وتحولا في الممارسة، وقوه في التزام المبدأ واستشعار الهدف، وعندما تحلق القيم في الفضاءات الاجتماعية المفتوحة، فإن تأثيرها لا يقتصر على تحسين تصرفات وسلوكيات مستخدمي منصات التواصل الاجتماعي، بل تمتد إلى طبيعة المحتوى المتداول بين مستخدميها، إذ المحتوى الفكري يعبر عن وجود ثقافة اصيلة ، وفهم معمق بين مجموع الأصدقاء في هذه المنصات، على أننا ندرك بأن عالمنا اليوم وفي ظل ما يعيشه من حالات القلق والاضطراب والحروب والدمار وانتهاك سيادة الشعوب وانتهاك حقوق الانسان وتضييع الأوطان وغيرها من الممارسات التي أوقدت شرارتها من منصات التواصل الاجتماعي، حتى أصبحت ساحة تستباح فيها قدسية الأوطان للنيل من الآخر وزيادة تعقد الوصول إلى اراء مشتركة أو البناء على توجهات مقنعه ومبررات واضحة ، في استغلال سلبي لمستخدمي هذه المنصات تجاوز المقبول والمعقول.
ويبقى أن نشير إلى أن قدرة العالم على تأطير هذه الفضاءات وتوجيهها لصالح البناء الإنساني وتنمية الأوطان وترسيخ المعاني الإيجابي واستثمار الفرص المتوفرة بشكل يقترب من طموحات الانسان ورغباته؛ مرهون بمستوى التعاون الدولي في تعزيز أخلاقيات هذه الفضائيات، وتوفير الضوابط الضامنة لحسن استغلالها وتوجيهها لصالح الإنسانية، وتقوية مساحات التقارب والتناغم والتكامل والانسجام بين التشريعات والضوابط المعززة لعمل هذه المنصات، لترسم البسمة وتعيد انتاج السلوك، وتؤسس لنجاح الممارسة، لتبرز في واقع الأجيال مساحات أمان، داعما لهم للتعبير عن ذواتهم وترقية مشاعرهم وتأصيل أخلاقهم واثبات بصمة حضور إيجابية لهم، وتقوية ممكنات التعارف والحوار والتفاعل الثقافي والفكري بين البشر جميعهم لما فيه سعادتهم ، فإن على المجتمع الدولي أن يدرك أن حسن استغلال الفضاءات المفتوحة، لتصبح محطة استراحة للفرد للتعبير عن ابتكاراته، والتعريف بوطنه، مدخل لضمان قدرته على توجيه هذه الفضاءات لخير الإنسانية حاضرا ومستقبلا، وتصبح الصبغة القيمية والأخلاقية لهذه الفضاءات بمثابة تحول نوعي ينقلها من حالة الاستهلاكية، إلى كونها قيمة مضافة منتجة واستثمار للوقت والجهد والمال.
ما أجمل أن نحصّن هذه الفضاءات بقيم التسامح والتعاون والحوار، ونوجهها لصناعة التنمية وبناء الانسان، ونقدمها كإطار للعمل المشترك، والاعتراف بها كقيمة مضافة منتجه للابتسامة والحب والأمن والاستقلال، إن مسألة تحصين هذه المنصات لتتناغم مع الفطرة السوية، وتتواكب مع اخلاقيات الإنسانية الراقية، وسموها الفكري والروح؛ سوف يلغي حاجز الخوف والرهبة التي ما زالت تلاحقنا في تعامل الأجيال مع هذه الفضاءات والتأثير السلبي المحتمل لها على حياتهم، ويقوي فرص بناء البدائل وإنتاج القوة في ذات الفرد المتعاطي معها ، فدخوله في عالمها الواسع تعبير عن وضوح المسار الذي يجد فيه طريقه القادم، وهي بدورها تصنع في عالم الانسان الواسع والمعمق فرصة لاستكشاف شخصيته وتوفير مساحات نموها، وإدارة الحالة التي يعيشها، فيستثمر هذه الفضاءات لعرض ابتكاراته والتعريف بإنجازاته، والتسويق لنفسه، والتعريف بمشروعاته، في مواجهة حالة القلق والإحباط وثقافة الخوف والانطواء والسلبية والتذمر والتنمر والتوحد التي يعيشها في عالمه الشخصي.
ويبقى التأكيد على أهمية توظيف الفضاءات المفتوحة لتضيف الى رصيدنا الفكري ارصدة نجاح متقدمة في مختلف المجالات الاقتصادية والتعليمية والثقافية وقضايا المواطنة والسياحة ، لتشكل أداة تسويقية وترويجية للتعريف بالثقافة العربية والاسلامية والفكر الأصيل، كما أنها فرصة للبحث عن مشتركات قيمية واخلاقية وإنسانية تجتمع حولها شعوب العالم وتتقاسم مسؤولياتها بشأنها، وفي الوقت نفسه رصيدا استثماريا يضيف الى موازنات الدول موارد طائلة وإنتاج غزير يتجاوز حالات الاعجاب والتسلية، لتؤدي الفضاءات المفتوحة دورا استراتيجيات في ترقية وعي الشعوب وبناء الحضارات وتفاعل الثقافات وتوظيف الخبرات والتجارب واشاعتها بين العالم أجمع، ذلك أننا يمكن أن نحقق عوائد أكثر استدامة في استثمار هذه الفضاءات المفتوحة عندما نمتلك الجاهزية والاستعداد لإدخال القيم والاخلاقيات في فلسفة عملها وطريقة استخدامنا لها . إن علينا أن نؤسس في فقه الأجيال ثقافة الحوار مع التقنية والفضاءات المفتوحة ومنصات التواصل الاجتماعي، فعندما تلتصق مواردنا وثرواتنا القيمة والأخلاقية وموروثنا الحضاري وهويتنا ومبادئنا بجدار رحم التقنية، وتسبح في منصاتها، وتحلق في فضاءاتها، عندها نكون قد أدركنا الحل، وحددنا بوصلة العمل، وسيناريوهات الأداء، ورسمنا مسار التوجه في توظيف رصيدنا القيمي والأخلاقي باعتباره قيمة استثمارية تنافسية من الدرجة الأولى، فهل نحن جاهزون لذلك؟
د. رجب بن علي العويسي
Rajab.2020@hotmail.com
#عاشق_عمان