قد يكون من المفيد للأمة توضيح حقيقة هذه الفكرة ومدى تأثيرها على الموقف القومي العربي، وبلا شك هناك من الأدلة الواردة في سياق هذا المقال تؤكد حجم المؤامرة وحقيقتها ومدى تأثيرها على الواقع العربي، فخلال القرن الماضي شهدت المنطقة العربية أكثر من حادثة أكدت أن فكرة المؤامرة حقيقة واقعة على المنطقة العربية من قبل القوى الاستعمارية، ومن يحاول نفي هذه الحقيقة كمن يضع رأسه في الرمل، ويحاول تسطيح الفكرة بطريقة نرجسية ويلقي اللوم على أبناء جلده فقط في أسباب التراجع والإخفاق. وبالتأكيد لا يمكن إغفال الدور الداخلي في أسباب التراجع، إلا أن الدور الخارجي يمثل البعد الأخطر في قضايا الأمة ونكساتها. العلاقات التاريخية بين الشرق والغرب أو بالأحرى بين أوروبا والعالم الإسلامي أخذت مسارين أحدهما يمثل الجانب المظلم والذي تمثل في الصراع، أما الآخر فيمثل الجانب المضيء وهو الحوار والتمازج الثقافي والمعرفي بالاستفادة من بعضهما البعض في العلوم والابتكار والنهضة، ولكن لا نستطيع اعتبار الصراع إطارا لفكرة المؤامرة؛ فالصراعات التاريخية والتنافس الحضاري مسائل بديهية بين الأمم، ولكن استخدام طرق غير مشروعة ملتوية بعيدة عن السياق الحضاري والتآمر ضد الشعوب هو الذي يكرس المفهوم الحقيقي لفكرة المؤامرة.
فكرة المؤامرة بدأت منذ فجر التاريخ، ولكن سنركز في هذا المقال حول بعض الحوادث التاريخية الشهيرة في القرن العشرين، ومحاولة الاستفادة من الدروس فيما يخدم هدف مواجهة هذا المفهوم والحذر في التعامل مع القوى الأجنبية، وكيفية استعادة عناصر القوة للأمة العربية.
بداية المؤامرة على المنطقة كانت مع حقبة الاستعمار بالاستيلاء على ثروات الأمة ومقدراتها وتقسيمها بين الدول الكبرى وقمع الشعوب المتطلعة للحرية، أما أبرز محطاتها فكانت اتفاقية سايكس ـ بيكو الموقعة بين فرنسا وإنجلترا في تقسيم المشرق العربي بين هاتين الدولتين عام ١٩١٦م، في الوقت الذي قدمت الوعود الخادعة بإقامة دولة عربية واحدة تضم شبه الجزيرة والشام والعراق من خلال الاتفاق مع الشريف حسين شريف مكة والحجاز مقابل وقوف العرب مع دول الحلفاء ضد دول المحور في الحرب العالمية الأولى، بينما كانت تقضي اتفاقية سايكس ـ بيكو بتقسيم المنطقة بين بريطانيا وفرنسا، وهو ما حدث بالفعل بنهاية الحرب العالمية الأولى. ومضت نظرية المؤامرة في نفس المسار عام ١٩١٧م من خلال وعد بلفور لإقامة وطن قومي لليهود على أرض فلسطين، ومنذ هذا التاريخ وعلى مدى ثلاثة عقود حافلة بالقمع والمذابح والتهجير القسري والثورات التي أبدتها الشعوب العربية وصولا إلى إعلان ما يسمى دولة إسرائيل عام ١٩٤٧م، ومسلسل التآمر والقتل والتشريد مستمرا وبغطاء رسمي من قبل القوى الدولية باستخدام حق النقض (الفيتو) في اعتراض أية قرارات دولية تدين إسرائيل، هذا بالإضافة إلى ما قدمته القوى الاستعمارية من دعم ومساندة لكيان الاحتلال الصهيوني في جميع الحروب العربية الصهيونية، واستمرت تلك القوى الدولية في إضعاف وتقسيم العرب من خلال توقيع معاهدات ثنائية تخدم أجندة قوى الاستعمار، وما زال الإسقاط الخارجي والتداعي الدولي واقعا على هذه المنطقة العربية في إثبات حقيقي للدور الخارجي وتأكيدا لفكرة (المؤامرة)، وللأسف هناك بالمقابل حالة غياب عربي عن التضامن والنهوض وتوحيد الموقف لمجابهة ذلك التدخل الخارجي المستمر باستخدام الأوراق الممكنة ومحاولة استعادة الذات العربية.
اليوم ينبغي للعرب العمل على التخلص من أسباب التدخل الخارجي، والتخلص من هذا المدخل الذي تسللت منه كل المؤامرات على الوطن العربي، وأول تلك المسارات التي يجب السعي الحثيث فيها هو التخلص من أسباب الفرقة بين الأنظمة العربية، وتجنيب المنطقة مزيدا من الصراعات وعدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول. وتأتي الأزمة الأخرى التي يجب معالجتها هي أزمة المواجهات الطائفية المذهبية التي يتم تغذيتها توافقا مع الأجندة الاستعمارية انطلاقا من قاعدة “فرق تسد”، وبالتالي يجب إنهاء هذه الأزمة المستشرية على الساحة الإسلامية والتي أحبطت كل مشاريع التقارب بين الدول الإسلامية، وهذا الأمر لا يتأتى إلا من خلال ظهور قيادات محورية تتدارك تلك الأخطار، وتعمل على التخلص من الأسباب التي كرست هذا التشرذم والانقسام، والتخلص من الاستعمار المتحكم في سياسات وثروات أغلب الدول العربية، وهذا أيضا لا يتأتى إلا بوجود قيادات محورية تعيد اللحمة مع جبهتها الداخلية، وتوطد علاقاتها مع الدول العربية، وتبني علاقات طبيعية مع الجوار الإسلامي قائمة على الاحترام المتبادل، وإعادة صياغة العلاقات مع الأطراف الخارجية والتعامل بندية مع القوى الدولية على أسس من الشراكة، إذن الأمة تبحث عن قيادات محورية تعيد العرب على خريطة السياسة الدولية.
لا شك أن الظروف الراهنة اليوم لا تساعد على الخروج من هذه الأزمات بسهولة، ولكن سيظل العمل على نشر ثقافة النهضة والوحدة والمقاومة هي الثقافة التي لا بد من العمل على نشرها، وهذا بحد ذاته كفيل بخروج جيل منيع قادر على تحقيق تلك التطلعات العربية. ولا شك هناك يوم قريب ستزول فيه السيطرة الاستعمارية وأملنا كبير في الثقافة العربية الحية، كذلك هناك عناصر مبشرة للأمة من المقاومة الفكرية والمقاومة المسلحة في سبيل العمل على استعادة الحقوق العربية، والثقافة القومية المنيعة هي التي ستقود الأمة نحو مستقبل مشرق بإذن الله.
خميس بن عبيد القطيطي
khamisalqutaiti@gmail.com