تدخل سلطنة عُمان مرحلة جديدة وحقبة تنموية متجددة تضيف إلى مسيرتها المظفرة التي أسَّسها سلطان عُمان الراحل، وفي أول خطاب له بقوله “إن الحكومة والشَّعب كالجسد الواحد، إذا لم يقم عضو منه بواجبه اختلت بقية الأجزاء في ذلك الجسد”، فصولًا جديدة من العطاء والتنمية والإنجاز والتطوير، تستشرف المستقبل، وتبني على الإرث الخالد والثوابت الوطنية الماجدة رؤيتها “عُمان 2040” لتضع في بوصلة عملها هذا التناغم في الرؤى، والاستفادة من التنوع في الأطر والتعددية في المكوِّن الوطني، والتوسُّع في وجهات النظر، مساحة التقاء مشتركة تصنع من الوطن لغة جامعة تتجه إليها الأرواح وتنقاد إليها النفوس وتستريح لها الأبدان وتنهض فيها الأفئدة عملا وإخلاصا وإنجازا وولاء وانتماء. لذلك جاء عاطر النطق السَّامي لمجدِّد النهضة مولانا حضرة صاحب الجلالة السُّلطان هيثم بن طارق ـ حفظه الله ورعاه ـ في قوله: “إن بناء الأمم وتطورها مسؤولية عامة يلتزم بها الجميع ولا يُستثنى أحد من القيام بدوره فيها، كل في مجاله وبقدر استطاعته”، وقول جلالته أعزَّه الله: “إن شراكة المواطنين في صناعة حاضر البلاد ومستقبلها دعامة أساسية من دعامات العمل الوطني”، موجهات وأطر للشراكة في بناء عُمان، ذلك المفهوم الذي يسع الجميع، وينضم تحت لوائه الكل. فالوطن حاضنة الإنسان، وطريقه للأمن، وسبيله للتنمية، والمساحة التي يستطيع خلالها المواطن أن يبدع ويبتكر، وينتج ويستثمر، ويمارس دوره ومسؤولياته وواجباته والتزاماته بكل أمان وحرية وسلام، وملاذه الذي يستنهض فيه روح التحدِّي وقوة الإرادة ونافذة الأمل، ويجنِّد من أجله طاقاته واستعداداته التي يجدها في حصن الوطن حقوقا محفوظة والتزامات معهودة ونجاحات تعود بالنفع عليه وعلى أبنائه من بعده، فإن ما جاد به الفكر السَّامي من مضامين مساحة أمان تستوعب كل التكوينات المجتمعية والأفكار لتحتضن في إطار من الوعي والفهم ووضوح المدركات وتفاعل الأجندة، وتصنع لهذه المشاركة الفكرية والعملية فرصا أوسع وبدائل متعددة وخيارات متنوعة، وتبرز محطات أخرى في المستقبل المنظور تتسع فيه المشاركة بأشكال مختلفة وأدوات متنوعة، الأمر الذي سيكون له أثره الإيجابي في حفز المجتمع وبخاصة فئة الشباب وشغفه ومبادراته وتطوعه في الإسهام بدور فاعل في صناعة أبجديات العمل الوطني.
لقد أكد النظام الأساسي للدولة الصادر بالمرسوم السُّلطاني (6/2021) في مبادئه وأبوابه ومواده في أكثر من موضع هذه الحقيقة الناصعة البياض المكتملة الأركان، والتي أفصحت العقود الخمسة الماضية ويزيد عن ثباتها ومصداقيتها وأصالتها، فأسست لمرحلة متقدمة من العلاقة بين الوطن والإنسان، والقيادة والشَّعب، وصنعت من إنسانية الوطن نموذجا عمليا وشاهد إثبات في موقع الإنسان العُماني في مسيرة النهضة وأجندة التنمية، وشكَّل التوسع في وجهات النظر وتعددية الآراء، حالة صحية وطنية استهدفت حشد الجهود الفكرية والنفسية والعملية والمهنية من أجل الوصول إلى أفضل الخيارات وأنجع الحلول وأقوم البدائل وأحكم الأدوات، وفتح المجال لها لتعمل بالشكل الذي تبدع فيه وتبتكر، ليكون الناتج محققا للهدف، معبرا عن الحالة ذاتها، مؤطرا لمنهجيات أخلاقية وثوابت وطنية في التعامل مع هذه القضايا والظواهر الاجتماعية والاقتصادية التي أفرزتها التحوُّلات التنموية التي شهدتها سلطنة عُمان في مختلف المجالات وإدارة الحوار فيها، وبناء سيناريوهات عمل مشتركة للخروج بأطر واضحة تسع الجميع ويتفاعل معها الكل، لتصل إلى إنجاز مشترك، وعمل نموذج، الأمر الذي كان له أثره في أنسنة المسؤولية لا شخصنتها، ما ينفي صفة الوصاية وغلبة الشعور الذاتي والتأثير الفئوي، ويؤسس لمسار المواطنة الحقيقية النابع من ضمير المسؤولية، واستشعار الواجب الوطني، فالكل أمام عدالة الوطن سواء، وهم كلهم في محكمة الوطن سمعا وطاعة.
وعليه، كانت الموجهات الوطنية واضحة وضوح الشمس في تعظيم الاستفادة من كل المحطات والممكنات والمتغيرات، في بناء نموذج وطني يقوم على العمق في قراءة مجريات الواقع والإدراك الشامل والواعي لكل جوانبه، وهو أمر ينبغي اليوم أن يحظى بمزيد من الرعاية والاهتمام والاعتراف به كمدخل استراتيجي لتقوية هذه الثوابت الوطنية التي التزمتها القيادة الحكيمة في مسيرة بناء الدولة، وما أتاحته الفضاءات المفتوحة من فرص نوعية في ظل اقتصاد المعرفة، وخلق سياسات متناغمة مع التحوُّلات التي يشهدها العالم، وتتكيف مع خصوصية سلطنة عُمان وهُويتها الوطنية في الاستفادة من كل الشركاء الفاعلين في المنظومة.
وتجسيدا لما سبق الإشارة إليه، كان على القرار المؤسسي في منظومة الجهاز الإداري للدولة أن يحتكم إلى الثقافة المجتمعية، ويستفيد من فكر الشباب المتجدِّد، ويطَّلع على المحطات التواصلية وما يطرح فيها من أفكار ومقترحات وحلول عملية مقنعة، ومبررات وحوارات وتفاعلات ونقاشات أصبح الركون إليها والاستفادة منها وتحليلها، ودراسة ما تحمله بين سطورها ضرورة، للوصول إلى قرار منتج يحمل مقوِّمات نجاحه وفرص احترامه، خصوصا ما يمسُّ منه حياة المواطن اليومية ويتدخل في أساليب العيش في إشارة سريعة إلى قانون العمل لغير العُمانيين، والتعديلات الحاصلة في قانون إقامة الأجانب في السلطنة، واستقدام الأيدي الوافدة، وعلاقة العامل برب العمل، وعقود العمل، والتأمينات الاجتماعية، مما بات يفرض تبعات كثيرة يدفع المواطن ضريبتها المادية والمالية والمعنوية والنفسية، وقد تؤدي على المدى البعيد إلى اختلالات في ميزان التركيبة السكانية والعمالية بسلطنة عُمان في ظل مشكلة الباحثين عن عمل وتكدسهم وعمليات التسريح للعُمانيين من القطاع الخاص، يضاف إلى ذلك تلك القرارات المرتبطة بالإسكان ومنح الأراضي، والرسوم المفروضة على المواطن في مقابل تخليص بعض المعاملات، وسلسلة الإجراءات غير المنتهية في إجراءات الاستثمار ومشاريع الشباب والمؤسسات الصغيرة والمتوسطة وتداعيات رفع الدعم عن الكهرباء والمياه والتجاوزات الحاصلة في تسعيرتها أو كذلك في فئة التعرفة السكنية (حساب المواطن، وحساب المقيم، والحسابات الإضافية)، ومسار التعامل مع المؤسسات الصغيرة والمتوسطة والاحتكار وغير ذلك كثير، بما يؤسس الحاجة إلى مختبر وطني لاستطلاعات الرأي العام وقياس التغذية المرتجعة وإنتاج الدراسات الاستشرافية في سبيل إعادة قراءة الواقع وفق مسارات التحوُّل المطلوبة والثقافة المجتمعية، والإفصاح عن المداخل والأجندة الأخرى التي تحملها في قناعات المواطن، ومن الحكمة وكل الحكمة أن تتم دراسة هذه القرارات أو الأجندة بحسب مقتضاها القانوني والإداري بما يراعي ظروف المواطن وإمكاناته وقدراته واستعداداته وموارده؛ فإن الفرص المتاحة للشراكة والمشاركة والبناء أكبر مما يظن البعض بأنها ضيقة، فإن روح القانون اليوم تعطي مساحة أوسع وأنضج وأرقى وأوعى لتجسيد حرية التعبير واقعا عمليا وسلوكا شخصيا ومهنيا، لا يتجاوز الخطوط الحمراء وحاجز السقوط، بقدر ما يعطي بعض الموجهات والمفردات والدعامات لتقوية خطوط التكامل والترابط الوطني، للوصول إلى إنجاز يشعر فيه الجميع بمسؤوليته نحوه، ومشاركته فيه، وحضوره في أبجدياته وفق إمكاناته واستعداداته وموقعه، وعندها سيقل هاجس عدم الثقة وضيق الصدور والحساسيات الزائدة، والانسحاب من المسؤولية وتتراجع الأنانية والاتكالية.
أخيرا، فإن سلطنة عُمان وهي تحتفل بيومها الوطني الثامن عشر من نوفمبر من عيدها الثاني والخمسين لنهضتها المتجددة، لتستشرف في الرؤية السَّامية لحضرة صاحب الجلالة السُّلطان هيثم بن طارق ـ حفظه الله ـ خيار الشراكة والتكامل الاستراتيجي الواعد من أجل عُمان: الأرض والدولة والإنسان، لغة جامعة، ورابطة إنسانية، واحتواء لفلسفة العيش معا.
د.رجب بن علي العويسي