القِيَم لغة إنسانية جامعة مشتركة بين الشعوب، رغم وجود التمايز والتباين بينها بحسب الصورة الذهنية التي تقرأ فيها طبيعة القِيَم والموقع الذي تحتله في منظوماتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية والفكرية والإعلامية والتشريعية والتربوية والثقافية والترويحية، وفي ظل عالم يتصارع فيه الأقوياء، وتحكمه أنانية المصالح، وشخصنة الأحداث، وتعيش فيه المنظومات الاقتصادية والسياسية والإعلامية، خصوصا حالة من الصراع العجيب والتشويه الموجَّه نحو طمس القِيَم والمبادئ وإفراغها من جوهرها، ووضعها في إطار ديباجة عامة دون وجود أية سلطة تأثير لها في ضبط الأحداث، وقراءة مستجدات الواقع، محطات يراد منها تسييس القِيَم وإهمالها وتسطيحها وإبعادها عن حياة الشعوب وإلهامها الذي تحمله في سبيل إنقاذ البشرية من سيل التجاوزات اللاأخلاقية الحاصلة في كثير من جوانب الحياة، وفي ظل لغة المصالح التي بنيت على تمجيد الشهوانية والفردانية والسلطوية وفرض سلطة الأمر الواقع كانت الممارسات الاقتصادية هي أول المتأثرين بهذه التشويهات والتي فرضت على شعوب العالم معاناة غير منتهية وقرارات مصيرية أفقدت شعوب العالم الثالث والدول النامية ثرواتها واستنزفت مواردها.
ونظرا للتحدِّيات الاقتصادية التي باتت تعصف بالعالم والصراعات الاقتصادية الحاصلة بين أقطابه الكبرى في سبيل إعادة الصورة الذهنية القاتمة للحرب الباردة، وزمن الاستعمار والغطرسة الدولية وسياسة القطب الواحد إلى الواجهة، ومحاولة إثبات مبدأ الوصاية والهيمنة الاقتصادية والتحكم في المعرفة، اتجهت هذه المنظومات وعبر السياسات والإجراءات التي تعتمد عليها إلى تجريد الاقتصاد من إنسانيته وإفقاره من بشريته، وإخلاء المعاملات الاقتصادية الدولية والعلاقات والشراكات الاستثمارية من الالتزامات المرتبطة بالقِيَم والمبادئ والأخلاق وهُوية الشعوب وخصوصيتها، وعبر السماح لها بأن تصدر للآخر كل ما يحلو لها أو كل ما يتجاوز حدود هذه الدول وكل ما ترغب في تصديره وعبر اتفاقيات التجارة العالمية وغيرها، لتكون طريقا لها في فرض واقع كوني جديد يحكمه الاقتصاد وتعبث به النزعات الفردية والقرارات الارتجالية المسيَّسة، ولتثبت أنها ما زالت تمارس قوة النفوذ وغلبة السيطرة على العالم اقتصاديا، على الرغم ممَّا يفصح عنه الواقع العالمي من ظهور قوى اقتصادية أخرى في العالم في مواجهة الهيمنة الاقتصادية للقطب الواحد، آخذة بمسار التوازن العالمي وخلق فرص وخيارات أخرى للشعوب النامية ودول العالم الثالث لتتنفس الصعداء في تمكين مواطنيها من إدارة مواردها المالية وتعزيز كفاءتها الاقتصادية وقدرتها على امتلاك الطاقة النظيفة والطاقة المتجددة وممكنات الابتكار والاختراع.
على أن ما يحصل في عالم اليوم من تباينات سياسية حادَّة في ظل ما أفصحت عنه أزمة العلاقة الروسية الأوكرانية، يؤسِّس لعودة البراجماتية والهيمنة في الواجهة، ويشير إلى تراجع السياسة الدولية في تحقيق التزاماتها نحو تحقيق السلام العالمي العادل، متجاهلة كل مسارات التعاون والتكامل وحق الشعوب في تقرير المصير، وعدم التدخل في شؤون الغير، والتأكيد على حل الأزمات بالحوار والطرق السلمية ومنطق التفاهم، وأن يجتهد العالم نحو إذابة أسباب الخلافات عبر الحوار المشترك والتفاهمات واللقاءات ولغة التفاوض، بما يشير إلى أن العالم اليوم يسير في مستنقع خطير ويتجه نحو انحدار يعيد إلى الواجهة الحرب الباردة ولكن بأنماط وأشكال أخرى ملء إهابها الأيديولوجيات الفكرية والدينية والمادية، في ظل تصدعات كبيرة في القِيَم ونفوق سحيق للأخلاق وغربتها من حياة الناس وتعاملاتهم، وتستهدف الزج بالبشرية في مسار الكراهيات والأحقاد مستفيدة من تجييش العالم الافتراضي والتهييج الإعلامي والتضليل المعلوماتي والإشاعات المغرضة والتعتيم على الحقيقة وإغلاق المنصَّات الإعلامية والتواصلية للطرف الآخر.
وعليه، يعكس إسقاط حالة التنمر السياسي التي يعيشها المجتمع الدولي على السياسات الاقتصادية، اتساع حالة العقم في هذه السياسات وإفراغها من جوهرها الإنساني، ومحاولة الزج بالمفاهيم المشتركة القائمة على المؤتلف الإنساني والمشترك القِيَمي باعتبارها حالة مزاجية وقتية تحدد مصيرها المصالح، لذلك فإن ما يعانيه العالم اليوم من مشكلات اقتصادية وما نتج عنها من تضخم وارتفاع الأسعار وغلاء المعيشة والاحتكار والجرائم الإلكترونية وغسيل الأموال والتحايل والابتزاز، وظهور الكثير من المفاهيم التي باتت تروج لها الدول كالاحتكار والرشوة أقرب إلى كونها أزمة أخلاقية بالدرجة الأولى، ومشكلة مرتبطة بتصدع القِيَم ونفوق الأخلاق في العرف الدولي والعلاقة الدولية في ظل ارتفاع درجة الحساسية السياسية، وضعف الثقة، وغلبة لغة المصالح الشخصية وأنانية النفس وعدم رغبتها في تقدم الشعوب وتطور البلدان، ولغة السيطرة التي تريد أن تضع الدول تحت وصايتها وتصرفها، ومحاولة إجهاض كل المشاريع الاقتصادية القائمة على الاستثمار في الرأسمال البشري وإعادة إنتاج الموارد، وعبر قوة الضغط الموجهة نحو تنازل الحكومات والشعوب عن أولوياتها وأجندتها أو تطوير سياساتها التعليمية والاجتماعية وعبر موجهات باتت تفرض أجندتها الشخصية، في محاولة منها لتحجيم هذه الفرص، وإضفاء لغة الاستحواذ والأثرة في كيفية توزيع هذه الثروات والموارد التي هي حق للشعوب وبلدانها لتتجه إلى حالة من الاستنزاف القسري لها بحجة وجود أعداء وهميين في المنطقة وحاجتها إلى الحماية وشراء السلاح لتعيش شعوب العالم الثالث حالة من الفقر والعسر وتراجعات في التنمية وبرامجها.
وتبقى هذه المعطيات ما هي إلا عمليات ممنهجة لإغراق موازنات دول العالم الثالث بالديون واستنزافها بالفتن والحروب والجوائح، والعمل على استمرار زرع العقبات والتحديات، وتثبيت المفاهيم الأيديولوجية والفكرية التي انتعشت في فترة الحرب الباردة لتولد عداء بين العالم أجمع في ظل سياسات قائمة على تعظيم لغة الفوقية وسلطة القرار القسري ودونية الآخر، وغيرها من الأفكار التي نشأت لتضع العالم أمام شفير هارٍ أهلك الحرث والنسل وأضاع فرص الحياة، فإن ما يحدث اليوم ما هي إلا مبررات للعودة إلى المربع الأول ومحاولة إفشال المشروع الحضاري الإنساني الذي أوجده المخلصون في هذا العالم، مستفيدين من التقنية والفضاءات المفتوحة في تقريب لغة الحوار الإنساني، وتجسير الحدود والحواجز؛ ليصبح العالم قرية واحدة يعيش مواطنوه حياة الجميع ويتأثر الكل بتأثر الجميع، فالإعصار الذي يضرب أميركا يتأثر فيه أبناء القارة الآسيوية تأثيرا نفسيا واجتماعيا وفطريا، هذه اللغة التي بدأت تتفوق على لغة الحرب والقتل والتآمر والفتنه ولغة “فرِّق تسُدْ” وغيرها لم تعجب المتعالين على الفضيلة والمناوئين للقِيَم والمروجين للفتنة، وباتت اليوم مستهدفة بشكل كبير إن لم ينتبه لها المخلصون في هذا العالم ولم يجتمع حولها الأنقياء الأصفياء الذين يريدون الخيرية للإنسانية.
من هنا تقع على قيادات العالم الواعية وشعوبه المناضلة للعيش في ظلال الأمن والسلام والتنمية مسؤولية أخلاقية وأمانة تاريخية في إعادة القِيَم إلى حاضرة الوفاق العالمي والمشترك الإنساني وتأطير الأخلاق لغة عالمية أصيلة في السياسة والاقتصاد والإعلام والعلاقات الدولية والشراكات الاقتصادية والتفاهمات والبروتوكولات والعمل والحياة، للخروج من هذه الأزمات التي باتت تعصف بالعالم، وتنذر بانتكاسة مؤلمة وانحسار سحيق في ثقة الشعوب وقناعاتها بالسياسات الدولية في عدم قدرتها على إعادة توجيه العالم إلى حاضنة القِيَم المشتركة والأخلاق، وانتزاع لغة المصالح الشخصية والأنانيات والأيديولوجيات من قناعات الساسة وتوجهاتهم، وما تحمله من وأد متعمَّد لمفاهيم الأمن الإنساني والحريات وحقوق الشعوب في تقرير مصيرها، وسيادة الدول على أراضيها والتعاون الدولي في إطار من الحق والواجب، فإن استمرار تصدع القِيَم وضمور الأخلاق من السياسات الاقتصادية التي ملأها الجشع والاحتكار والإكراه والإغراق والإفلاس، سوف تتسبب في فوضى اقتصادية عالمية وتضخم وانكماش اقتصادي، وركود في كل مجالات التقدُّم البشري، فإن التحدِّيات المرتبطة بالغذاء وإمدادات الغاز والطاقة والحبوب، ما هي إلا إرهاصات أولية لتبرز صورة مخيفة أكبر على مدى السنوات القادمة، إن لم تنتزع القِيَم والأخلاق همجية السياسة، وكومة الأحقاد والكراهيات والمؤامرات والازدواجية في المعايير، وتصبح الأخلاق لغة مشتركة بين قيادات العالم أجمع، وأولوية يجب احترامها وتقديرها وتعظيم شأنها وفق المرتكزات والمبادئ الأخلاقية، وعندها يدرك العالم وقياداته وحكَّامه أن ممارسة الأخلاق والحفاظ على المشترك القِيَمي ليس حالة مزاجية أو سلوكا شخصيا يتغير بتغير الأزمنة والأمكنة والأشخاص، بل نهج إنساني راقٍ، وسلوك دولي أصيل، ونطاق عمل يحتكم إليه الجميع ويخضع لتعاليمه وأحكامه الكل بلا استثناء.
د.رجب بن علي العويسي