لست كرويا للأسف ، ولا رياضيا بعامة ، ربما باستثناء عادة “المشى” اليومى الإجبارى أحيانا ، ولم أشاهد مباراة واحدة فى “مونديال”قطر المتوالية مفاجآته ، وإن تابعت بشغف مشاعر المشجعين المتوافدين كالطوفان ، ولحظت بسعادة غامرة ردود أفعال المشجعين العرببالذات ، ولفتتنى بشدة مشاعرهم القومية العربية الجارفة ، وابتعادهم عن التحيزات القطرية الضيقة ، ونصرتهم الحماسية لكل فريق عربىيحقق إنجازا كرويا ، على نحو ما حدث مع الفريق السعودى “الأخضر” ، الذى هزم منتخب الأرجنتين “فريق اللاعب الأسطورى ليونيلميسى” ، ومع فوز المنتخب المغربى “أسود الأطلس” على فريق بلجيكا ، كذا مع مشاعر الحزن الصادق الجامع ، كلما تعثر منتخب لبلدعربى ، وصادفه سوء الحظ أو عدم التوفيق ، ومع انفجار خزان المشاعر المكبوتة ، بدت كلمة الجمهور العربى من كل الأقطار حاسمة فىمظهرها كما جوهرها ، وكاشفة لحقيقة أننا أمة واحدة من الخليج إلى المحيط ، وإن فصلت أقطارها حواجز الجغرافيا وتصرفات الحكام ،وهو ما بدا طاغيا مع قضية فلسطين وحقوق شعبها ، فقد كانت أكثر الغائبين حضورا فى “مونديال” قطر ، فليس لها منتخب كروى مشارك ،لكنها بدت من أول لحظة مشاعر فى المهرجان الكروى العالمى الفريد ، وكأنها المرشح المختار بدون أدوار تصفيات ، وكأنما صعدت إلى الدورالنهائى من أول ضربة ، وفازت بكأس العالم ، وباجتماع المشاعر العربية المتدفقة من حول منصة التتويج الفلسطينى .
وكان من الطبيعى المتوقع جدا عند العاقلين ، أن تنعقد فى شوارع “الدوحة” وجوارها ، قمة عربية شعبية من طراز نادر ، قوامها عشراتآلاف المشجعين القادمين مع منتخباتهم المشاركة ، إضافة لمئات آلاف العرب العاملين فى قطر ، وكانت نقطة الاجتماع الوحيدة على جدولالأعمال ، هى فلسطين وحلمها وهمها وقداسة قضيتها ، ومن هنا ، كان ظهور الأعلام الفلسطينية بكثافة غير مسبوقة ، واعتمار الكل للكوفيةالفلسطينية ، وتزيين المعاصم والأيادى بشعارات نصرة فلسطين ، ثم كانت المعركة السلمية الواسعة ، التى وجدت ضالتها فى حضورمفروض لصحفيين ومشجعين ووسائل إعلام “إسرائيلية” ، قد تكون جاءت بدعوات مفتوحة لحضور “المونديال” ، وتساوقا رسميا مع اعتبارات”الفيفا” الدولية ، لكنها فوجئت بما لم تحسب حسابه ، وواجهت الرفض الشعبى العربى الحازم الجازم لأى تطبيع فعلى أو رمزى أو سلوكىمع مستوطنى كيان الاحتلال الإسرائيلى ، فلم يحظ أى مراسل “إسرائيلى” بلقاء أو تجاوب من أى مواطن عربى ، لا من الأقطار التى طبعحكامها مع العدو ، ولا من الأقطار التى ينتظر حكامها اللحاق بقطار التطبيع وخيانة التزامات القضية الفلسطينية ، وهكذا توالت المشاهدالتى تخلع القلب فرحا ، وتصدم العدو كمدا ، وانتشرت “فيديوهات” الفخار العربى على وسائط التواصل الاجتماعى ، وقد كانت من أسعدحظوظ من هم مثلى من غير مشجعى كرة القدم ، ومن المشجعين المتحمسين قبلنا ، فقد كانت هى المباريات الأعظم إثارة ، استماتالمراسلون “الإسرائيليون” فى البحث عن أى مشجع عربى يقبل الحديث معهم ، وكان الجواب التلقائى واحدا بغير سابق اتفاق ، بل ربماباتفاق ضمنى غلاب ، فما إن يلحظ المشجعون العرب شارة “إسرائيلية” أو “عبرية” على ميكروفون ، حتى يكون العزوف ورفض الحديث ، أورفع علم فلسطين إغاظة للمراسل “الإسرائيلى” ، أو المسارعة بالمغادرة على طريقة فرار السليم من الأجرب ، أو الهتاف “تحيا فلسطين”باللغة العربية أو بالإنجليزية ، ثم يتصاعد الرفض إلى ذراه مع وقاحة وتبجح المراسلين “الإسرائيليين” ، وإعلانهم الجهير عن هويتهمالصهيونية ، فيكون التجاهل العربى الشعبى هو الرد الفورى ، وإشهار عدم الاعتراف بأى شرعية لوجود هذه “الإسرائيل” ، وتأكيد حقيقةالوجود الفلسطينى دون سواه على الأرض المقدسة المحتلة ، فيحتد صراخ المراسلين “الإسرائيليين” ، ويلوكون أوهامهم ، ومزاعمهم الزاعقةبأن “إسرائيل” موجودة إلى يوم القيامة (!) ، ولا يلقى الصراخ “الإسرائيلى” سوى وابل السخريات من المشجعين العرب ، والإعراض عنمصافحة أو مشافهة أى “إسرائيلى” ، وبصورة حطمت أعصاب المراسلين “الإسرائيليين” ، ودفعت بعضهم إلى التخفى خلف جنسياتأخرى ، كذلك الصحفى “الإسرائيلى” الذى زعم أنه من “الإكوادور” ، وفضحه مشجع مصرى مثقف من “لوجو” قناته التليفزيونية المكتوببالعبرية ، وعاجله بشعار “تحيا فلسطين” ، ليس عن وهم بل عن حلم ، وثقة مطلقة بنصر الله القادم لعباده الصابرين المجاهدين ، وبأنفلسطين كانت وتكون وستكون ، مهما طالت أزمنة المعاناة والقتل والطرد ، فالفلسطينيون باقون كما بساتين الزعتر وأشجار الزيتون ، وسوفينتصرون بإذنه تعالى ، وتتحرر فلسطين من احتلال الصهاينة ، تماما كما تحررت بعد احتلال الصليبيين “الفرنجة” لمئات السنين ، ومن هنابالضبط ، كان اجتماع المشجعين العرب على الاتحاد الجامع فى غناء الأناشيد والأهازيج الفلسطينية ، والفرح المتحمس مع نشيد المشجعينالمغاربة بعد فوزهم الكروى المثير على “بلجيكا” الموالية لكيان الاحتلال الإسرائيلى ، جاءت كلمات النشيد بريئة صافية ، تقول مقاطعهاالمنغمة نطقا “الحبيبة يا فلسطين / آه أين العرب النائمين / آه يازينة البلدان / قاومى ربى يحميك / من ظلم الإخوة الأعداء / واليهودالطامعين فيك / ما نتركك ياغزة / رغم بعدك عنى / يارفح ورام الله / أمتنا مريضة / أمرضوها بالمشاكل وفساد الحكومات / والعربى يعيش فىالويل / مستقبل كله ظلمات / (….) / لا نركع أبدا إلا لرب العالمين / مولانا صاحب الكون / والحرية لفلسطين / إن شاء الله فى القدس الفرحةتكون ” ، بدت كلمات النشيد كالنشيج ، وبدت مؤلفة عفويا وفوريا وجماعيا فى بساطة ظاهرة ، تشكو من الوجع بمرارة ، وتثق بانتصارفلسطين وتحرير القدس الأسيرة ، ومهما كانت الظروف الصعبة والعوائق المرئية المحسوسة .
وبالجملة ، بدا “المونديال” العربى فلسطينى الهوى والهوية ، ومنافسا قويا لمهرجان “المونديال” الكروى الدولى ، وفى تعبير غاية فىالتحضر والرقى ، لا يصح اتهامه بعنف ، أو بالعداء للسامية ولا العداء لليهود ، فالعرب فى جلهم “ساميون” حسب الروايات العرقية ، ولايكره أغلب العرب اليهود كيهود دينا ، وقد عاشوا لمئات السنين فى بلاد وحمى العرب المسلمين والمسيحيين ، ولا يعادى العرب والفلسطينيونسوى المحتلين الغزاة المغتصبين لديارهم ، وأيا ما كانت الدعاوى والأساطير الدينية المزعومة ، فما بين العرب و”الإسرائيليين” الصهاينة ليسنزاعا فى الأديان السماوية ، ولا قضية ثأر دينى من أى نوع ، والظاهرة الصهيونية استعمارية إحلالية استيطانية ، وقضية فلسطين هىالتحرير الوطنى ، وردع العدوان والاغتصاب ، ودحر العنصرية الصهيونية المدمرة للأوطان وجلال الأديان ، ومن هنا ، كانت السخرية واجبةمن الاحتجاج الإسرائيلى الرسمى الموجه لدولة قطر ومنظمة “الفيفا” ، والزاعم الشاكى مما أسماه “التمييز العنصرى” ضد الإسرائيليين ،فلم يتعرض مشجع عربى للإسرائيليين بالتحرش البدنى أو اللفظى على أى صورة ، بل بالتجاهل التام ، ومن التجاهل ما قتل ، ثم برفضمصافحة يد الدم الصهيونية ، ورفض التعامل مع المحتلين العنصريين العدوانيين ، ورفض استضافة “الإسرائيليين” فى “تاكسى” أو فىمطعم ، وتأكيد المقاطعة السلمية للعدوان المتوحش حتى ينتهى ، وإظهار حقيقة رفض “التطبيع” عند القواعد الشعبية العربية بأغلبيتهاالساحقة ، وهو ما يظهر الوضع “المعلق” لأغلب نظم الحكم العربية ، وانفصالها الكلى عن مشاعر ومواقف شعوب الأمة العربية ، ويكشفالسبب الحقيقى لفزع وذعر “الإسرائيليين”بعد “مونديال” فلسطين فى قطر، فقد استعان ساسة كيان الاحتلال على الحكام العرب بالضغطالأمريكى الداهس ، ودفعوا كثيرا منهم إلى اتفاقات “تطبيع” مع عدو الأمة ، وتصورالإسرائيليون أنهم فازوا فى غزوات التطبيع بالجملة ،وحققوا الفتح المبين ، وأنهم أزالوا جدران المقاطعة بضربة حظ “ترامبى” مع الاتفاقات “الإبراهيمية” بالذات ، وخلا لهم وجه شعوب العرب ،يمتزجون بها ، ويتبادلون الصلوات والقبلات والسهرات والفسحات ، وعلى نحو ما أوحت لهم أصوات العبيد والشواذ وحملات الذبابالإلكترونى مدفوع الأجرالمريب ، ودفعت بهم لحزم حقائب الذهاب إلى “الدوحة” ، اغتناما لفرصة عناق حار توهموه بين مهرجان كروىو”كرنفالات” سلام دافئ تصوروها ، ثم كانت صدمتهم المهلكة نفسيا ، حين فوجئوا بالحقيقة العربية القارة الصلبة ، وبأن اتفاقاتهم معالحكام ، لا تعدو أن تكون دخانا مسموما يطير فى الهواء ، وتذروه رياح الشعوب كالهشيم ، وتثبت الحقيقة الكبرى الظاهرة لكل ذى عينينوسمع بصير ، وهى أن “التطبيع” امتداد مباشر للاغتصاب الإسرائيلى ، وعار وإثم لكل من يقترف جريمته ، وأن قضية التحرير الفلسطينىلا تسكن فى الماضى ، ولن تدفن أبدا ، وأن مشاعر ومواقف الأجيال العربية الطالعة مع فلسطين برغم كوارث ونكبات تجريف الوعى ، تماماكما الأجيال الفلسطينية الجديدة المقاومة ببسالة مذهلة ، تعيد النجوم لمداراتها الأصلية ، وتكسب المستقبل لفلسطين ، التى كسبت كأسالمشاعر الفياضة فى “مونديال” قطر .
عبدالحليم قنديل