إن السيرة النبوية كعلم أو فرع من فروع المعرفة، ظُلمت كثيراً، حيث قل المعتنون بتوثيق أحداثها ووقائعها ومسائلها ومشكلاتها،وشخصياً أشرت إلى ذلك في مواضع كثيرة خاصة عند قراءتي لكتّاب السيرة على اختلاف أسمائهم.
في هذا السياق، اعتُبرت مصادر السيرة النبوية، الآتية: تاريخ الطبري، وسيرة ابن إسحق تـ “151 هـ”، ابن هشام تـ “218 هـ”، وطبقات ابن سعد، تـ “230 هـ”، المغازي للواقدي، تـ “207 هـ”،وتفسير روح المعاني للإمام الآلوسي، وتفسير المحيط للإمام فخر الدين الرازي، هذه الكتب هي المصادر الأساسية لسيرة سيدنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، حيث غلب على ما ورد في هذه الكتب من كلامٍ على السيرة ووقائعها وأحداثها، أدب التوثيق، حيث لم تخضع لقواعد المحدثين في توثيق تلك الوقائع والأحداث، والتأكد من صحة أسانيدها، ولذلك كانت خليطاً عجيب، حيث وجد المستشرقون فيها كثيراً من الثغرات التي أساءوا فهمها، وأساءوا استغلالها، وبذلك أساءوا إلى الأمة الإسلامية بإساءتهم تقديم شخصية رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، إلى العالم.
بالتالي، حين نقرأ القرآن الكريم، نجد من أول “إقرأ” حتى آخر آية كريمة، قال تبارك وتعالى: “واتقوا يوماً ترجعون فيه إلى الله”، أوغيرها بحسب اختلاف المؤرخين للقرآن الكريم، حيث نجد سيرة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، تتبع لأهواء كتّابها، فبتحليل كلمة “إقرأ” من المأمور بالقراءة؟ إنه سيدنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، من الذي كان يخلو في غار حراء؟ سيدنا رسول الله، وحين فتر الوحي، من الذي ضويق واتُهم بأن الله تخلى عنه؟ ونزل القرآن الكريم ينفي ذلك، إن سيدنا رسول الله.
قال تبارك وتعالى: “والضحى والليل إذا سجى ما ودعك ربك وما قلى وللآخرة خير لك من الأولى ولسوف يعطيك ربك فترضى ألم يجدك يتيماً فآوى ووجدك ضالاً فهدى ووجدك عائلاً فأغنى”، حينما وهم المشركون، وروّجوا أن ربّه قد قلاه، أو تخلى عنه، نزلت هذه السورة لتدحض ترويجهم ذاك، كما نجد أن فيها خطاب مباشر للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، ومن الممكن القول إن فيها ملخصاً لسيرة النبي الأكرم، كما نجد أيضاً، تفاصيل دقيقة “كما أخرجك ربك من بيتك بالحق وإن فريقاً من المؤمنين لكارهون”، كل ذلك يمكن أن ندرجه في عداد السيرة النبوية الشريفة لسيدنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وما أكثر الآيات التي نستطيع من خلالها أن نجد سيدنا رسول الله حاضراً فيها.
وفي قصة الإفك، من الذي خوطب بذلك؟ عندما أشاع المشركون شائعتهم وافترائهم على أم المؤمنين السيدة عائشة، قال تبارك وتعالى: “إن الذين جاءوا بالإفك عصبة منكم”، كل هذا جزء من سيرة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
بالتالي، إن القرآن الكريم نزل على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مفرقاً حسب الأحوال والحوادث حيث أن الكتاب الكريم، كان تطبيقاً عملياً لما كان عليه رسول الله، بدءاً بدعوته وانتهاءً برحيله رحمه الله وآله الطيبين المباركين، ومن ثمَّ فإن القرآن الكريم يتميز عن غيره من المصادر بعدة ميزات: أهمها، أنه كلام الله، فسبر أغواره ودراسته من المؤكد أنها عبادة، كما أن القرآن الكريم يحتوي على إشارات ودلالات تفصيلية عن السيرة النبوية الشريفة، من المستحيل أن نراها في أي كتاب سيرة قديم أم حديث، ففي سورة التوبة نحد تفاصيل غزوة تبوك، وفي سورة آل عمران، نجد تفاصيل غزوة أحد، وفي سورة الأحزاب نجد غزوة الأحزاب، هذا من جانب.
من جانب آخر، عن المصدر الأم المبارك، ربط القرآن بين سيرة الحدث وقصته، بالعقيدة والإيمان وبالقضاء والقدر، فهو لا يسرد الحدث خالياً من التعقيب عليه وهذا ما تفتقر إليه كتب السيرة الأخرى، وكل هذه التعقيبات نجدها مرتبطة بالله عز وجل، بالإيمان به، بأسمائه وصفاته وحتى فضح المشركين دون إغفال أن كل تعقيب أو حدث أو سرد يأتي بحكمة إلهية ونصيحة لا يمكن لإنسان أن يأتي بمثلها، فالتركيز المباشر على شخص رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نجده في كل آيات القرآن الكريم، لكن هذا كله لا يعني إنكار جهود المؤرخين والكتّاب، شخصياً أنصح بتفسير الطبري وابن كثير، ومن ثم نأتي إلى قراءة كتب أسباب النزول.
بالتالي، ينبغي أن نعلم أنه لا يُكتفى بالقرآن الكريم إن أردنا التعمق إلى عمق التفاصيل؛ لأن كثيراً من التفصيلات لابد من الرجوع فيها إلى كتب الحديث النبوي وإلى كتب السيرة؛ ليتبين المراد منها، وهذا ما يبين الجهود التي يجب ان يتمتع بها كتّاب السيرة إن أرادوا صناعة عملاً يحفظه التاريخ.
ومن الجدير القول إنه لأمر مزعج أن نجد عشرات ومئات وربما آلاف الكتب والرسائل والأبحاث وغيرها لكتّاب يقولون إن أصحابها من حملة الإجازات الجامعية والتعليم العالي والشهادات العليا، تجد أن كتابتهم رغم أننا في القرن الواحد والعشرين، يكتبون بأسلوب القرون الأولى، القصد بطريقة تقليدية جداً لا تتناسب مع المجتمع ولغة العصر، مع الإشارة إلى أن العودة إلى الكتب الأولى مهمة لكن بوحي العصر وتلخيص يواكب العصر، فالسيرة النبوية تحتاج إلى طرح، لا للأسلوب التقليدي، ربما يكون مناسباً للجنة محكمة أو كتاب دراسي لكن ليس للعامة.
وفي الخمسينات وستينيات القرن الماضي، برز لون جديد لم تألفه الناس من قبل كأسلوب عميد الأدب العربي طه حسين، وعباس محمود العقاد، وخالد محمد خالد، ومحمد حسني هيكل وتوفيق الحكيم مع حفظ الألقاب، فقد كتبوا السيرة النبوية بأسلوب روائي وقصصي وأدبي، وهذا جيد، ومطلوب، لكنهم افتقروا إلى خبرة التحقيق والتيقن من صحة الروايات فلذلك اختلط الحابل بالنابل بين مدرستين، المدرسة التقليدية السلفية، التي لا تتناسب مع عوام الناس، والمدرسة الأدبية البحتة التي لها وعليها، فالجميل من أي كاتب أن يتثبت من المادة العلمية بالرجوع إلى أصحاب الاختصاص، على سبيل المثال، لدينا السيرة النبوية بالأسلوب التقليدي بحسب القرون الأولى الهجرية، يجب ان يتم عرضها على لجنة مثل لجنة الأزهر الشريف أو جامعة الزيتونة وغيرهما، يؤكدون صحة الروايات بأسانيدها ومتنها ومن ثم يتم البناء عليها أدبياً تواكب تطور الزمان والمكان، لأنه عندما تتم ترجمتها إلى أي لغةٍ أخرى يصل المقصود بشكل سلس وبسيط، فالقرآن الكريم هو المصدر الأم والسنة النبوية المصدر الثاني وما صح عن أخبار النبي بشروط أهل العلم من أهل الحديث والجرح والتعديل، وأخبار النبي المتواترة الصحيحة بشروط أهل العلم.
بالتالي، لكل من يريد ان يكتب في السيرة النبوية أن يتميز بأسلوب رصين ويبتعد عن الكتابة التقليدية التي هي ضياع للوقت، فنحن لسنا نكتب عن شخصية عادية، إن سيرة النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم إن لم تقدم بشكلها الصحيح فذاك أمر محفوف بالمخاطر، ووحده البارع من يستطيع الجمع بين المدرستين ليخرج عمله بفائدة يعم خيرها على الجميع بما في ذلك مسألة الترجمة إلى اللغات الأخرى إن كنا نريد ان نفخر بديننا وبنبينا ورسالتنا المحمدية.
لذلك، على المهتمين والباحثين والمتخصصين من كل أطياف العالم الإسلامي تعويض السيرة النبوية الشريفة، عن ذلك الإهمال الذي حدث في تراث أمتنا وتاريخها العريق، بأن يتم استخلاص السيرة النبوية من مصدرها الأم “القرآن الكريم”.
*عبدالعزيز بن بدر القطان/ كاتب ومفكر – الكويت.