يزخر التاريخ الإسلامي بشخصيات كثيرة كان لها أثر كبير في العلوم الإسلامية المختلفة،بل كان منهم من هو موسوعة متنقلة في كافة العلوم،وتركوا للمكتبة العربية والإسلامية العديد من المؤلفات التي نقلت فكرهم وآرائهم،حتى أنها انتشرت في كل أصقاع الأرض،أخذ الغرب عنهم الأبجدية والعلوم والطب والفلسفة ؟بل نقلوا الحضارة إلى كل أرجاء المعمورة،لكن تنكّر البعض وتملّص ونسب المعرفة لنفسه دون وجه حق،إلا أن عدالة السماء أرشدت من هم على الأرض لتبيان الحقائق وإيفاء كل ذي حقٍّ حقه.
سأفرد في بحثي هذا شخصية إستلهمت منها، وقرأت كتبها وشربت من فكرها، هي شخصية عالم قل نظيره في تاريخ الإسلام، وجهبذ من جهابذة العلماء، عاش في زمن دولة السلاجقة وعاصر الحروب الصليبية، وكان له منهج إصلاحي متفرد من خلال تشخيصه لأمراض المجتمع ووضع منهاج للتربية والتعليم وبناء العقيدة الإسلامية ومحاربة التيارات الفكرية المنحرفة، وإصلاح الفكر، إنه حجة الإسلام الإمام أبو حامد الغزالي، الشيخ الإمام البحر، أعجوبة الزمان،زين العابدين أبو حامد محمد بن محمد بن محمد بن أحمد الطوسي، الشافعي، الغزالي،صاحب التصانيف والذكاء المفرط.
تجدر الإشارة هنا إلى وجود عالم مصري يحمل ذات الإسم “محمد الغزالي” مولود عام 1917 ميلادي والمتوفى سنة 1996 ومدفون في السعودية، أحد دعاة الفكر الإسلامي في العصر الحديث،وتجنبا للخلط،وجب التنويه.
وسأقوم بإستخلاص نظرية الشك والتصوف، وتأثر الغرب في هذا العالم القدير، ومقارنتها مع رينيه ديكارت ونسبه لنفسه ما ليس له، بالبرهان والدليل من الأقلام التي أكدت هذه الحقيقة، لأؤكد المؤكد والذي أدافع عنه دائما، أن أمتي وأشراف أمتي هم تراثي وموروثي وما نحن عليه اليوم من ثقافة وتاريخ ومعرفة لهو بعد فضل الله عز وجل، بفضلهم.
إن مؤلفات الشيخ محمد الغزالي مجتمعة مثّلت منظومة فكرية متكاملة ذات رؤية شاملة واعيّة في مواجهة التحديات التي كانت تعيق محاولات الأمّة في النهوض والتقدم، والحديث عن الغزالي يطول نظراً لأنه مرَّ بعدة مراحل ، فقد خاض في الفلسفة ثم رجع عنها وردَّ عليها ، وخاض بعد ذلك فيما يسمى بعلم الكلام وأتقن أصوله ومقدماته ثم رجع عنه بعد أن ظهر له فساده ومناقضاته ومجادلات أهله، وقد كان متكلماً في الفترة التي ردَّ فيها على الفلاسفة ولُقب حينها بلقب “حجة الإسلام” بعد أن أفحمهم وفند آراءهم، ثم إنه تراجع عن علم الكلام وأعرض عنه وسلك مسلك الباطنية وأخذ بعلومهم ثم رجع عنه وأظهر بطلان عقائد الباطنية وتلاعبهم بالنصوص والأحكام، ثم سلك مسلك التصوف.
من هو الغزالي؟
محمد بن محمد بن محمد بن أحمد الطوسي الشافعي النيسابوري المعروف بالغزالي، ولد بطوس عام 450 هجري، يُكنّى بأبي حامد، ويعرف بالغزالي نسبة إلى مهنته صناعة الغزل، أو إلى بلدته، حيث كان يعيش في بلدة غزالة في طوس، ويعرف أيضاً بالطوسي نسبةً إلى بلدة طوس الموجودة في خراسان في إيران، ولا بدّ من الإشارة إلى اختلاف الباحثين في تحديد أصله، فمنهم من قال بأنه من أصل فارسي، ومنهم من قال بأنه من أصل عربي.
ولد في منطقة الطابران، وهي أحد قسمي طوس، في عائلة فقيرة، إبتدأ طلبه للعلم في صغره، حيث أخذ الفقه في طوس على يد الشيخ أحمد الراذكاني، ثم رحل إلى جرجان وتلقّى العلم على يد الشيخ الإسماعيلي، ثم رحل في عام 473هـ إلى نيسابور، ولازم إِمام الحرمين أبو المعالي الجويني، وتعلّم مختلف أنواع العلوم، والفقه، مثل: فقه الخلاف، وفقه الشافعية، وأصول الفقه حتى اجتهد فيها.
توفي أبو الغزالي عام 505هـ، في طابران، ولقد أمر الرئيس التركي بإعادة إعمار قبره عام 2009م في ديسمبر خلال زيارته لإيران.
الغزالي والتصوف
مرّ الغزالي في العديد من المراحل الفكرية في حياته قبل أن يستقر على التصوف، حيث ابتدأ مرحلة التصوف بالكثير من الشك، الأمر الذي دفعه للدراسة والبحث لمدة شهرين حتى استقر على الصوفية، ثم تفرّغ لدراسة المعتقدات والأفكار، ومطالعة العديد من كتبهم، مثل كتب الحارث المحاسبي البصري البغدادي المولود سنة 781م، والمتوفى سنة 857م في العراق، وقوت القولب لأبي طالب المكي من مواليد إيران والمتوفى سنة 998 في العراق، والمتفرقات المأثورة عن الجنيد المولود سنة 221هجري، والمتوفى 297 هجري، في العراق وغيرها.
نشأ الغزالي منذ طفولته نشأة دينية، ذات طابع صوفي، ولقد إستمر عليها حتى نهاية حياته. فضلاً على وضعه النفسي القلق بسبب معاصرته للانقسامات الفكرية والاضطرابات السياسية. وعندما طرق باب الفلسفة أثناء تدريسه بالمدرسة النظامية في بغداد ما بين “1093-1095”. وبعد أن تشعب فيها ازداد حيرة وقلقا، ولعل من أهم ما قدمه الغزالي في التصوف هو الاعتدال، حيث يرد على نظريات الحلول والاتحاد والوصول ووحدة الوجود، كونهم قد تخطوا في طقوسهم تعاليم الإسلام بشكل عام.
الشك بداية طريق اليقين
أول ما فعله هو شكه في العقائد الدينية الموروثة، ولقد رد على أغلب الفِرق آنذاك. لأن كلًا منها يزعم أنه الناجي الوحيد. بل وقد رد حتى على مذهب الأشعرية الذي تبناه، وكذلك فعل مع المغالين في الصوفية، فانطلق بمنهجه العلمي الشكي كمصباح ينير له عقله تجاه العقائد الموروثة والمشاكل الفلسفية. ففي العقيدة الدينية وجد أنها تنتقل إلى الإنسان عن طريق التقليد. وعليه فإن الفرد ينشأ وفقاً لملته التي يعتنقها أبواه. ولذلك قال النبي محمد صلى الله عليه وسلم “كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه”. فمسألة التقليد ليست يقيناً ولا تقود إلى حقيقة الفطرة الأصلية التي تميز بين الحق والباطل. أضف إلى ذلك أن هذه “الفطرة الأصلية” هي واحدة عند كل البشر.
شك أول الأمر في المحسوسات مثلا، أن حاسة البصر تنظر إلى الكوكب فتراه صغيراً في مقدار دينار. ثم الأدلة الهندسية تدل على أنه أكبر من الأرض في المقدار. وعليه فإن الحسيات غير يقينية ولا توجب أن نسلم بها بصورة قاطعة.
بعد ذلك إتجه إلى العقل فشك به أيضاً. إذ لا يمكن أن نسلم بالضروريات الأولية للعقل، لأن قولنا: بأن العشرة أكثر من الثلاثة. أو أن النفي والإثبات لا يجتمعان في الشيء الواحد. أو غيرها من البراهين العقلية التي لابد وأن تكون من العلوم. ولكن هذه العلوم إن لم تكن مسلماً بها، فإن الدليل قطعاً سوف يكون عقيماً لا ثقة به ولا أمان معه.
وينتهي المطاف الشكي عند الغزالي إلى حقيقة تشمل الشرع والعقل. حيث اعتبر العقل شرعاً داخلياً والشرع عقلاً خارجياً، وما الفرق إلا في العجز الماورائي للعقل؛ وهنا يتدخل الوحي والإلهام في إنقاذه ليس إلا.
البحث عن الحقيقة
في بداية الطريق الفلسفي يأتي الشك الفلسفي، الذي يعد وسيلة للبحث عن الحقيقة، ويختلف بذلك اختلافاً جوهرياً عن الشك الإرتيابي الذي يغلق على نفسه دائرة لا يريد الخروج منها، ولا يعترف بإمكانية هذا الخروج. فكيف بدأ كل من الغزالي وديكارت الشك؟
كانت الفلسفة في عصر الغزالي أثرت في تفكير وسلوك الكثيرين، وأدى ذلك إلى التشكيك في الدين الإسلامي والانحلال في الأخلاق، والاضطراب في السياسة، والفساد في المجتمع،
فتصدّى الغزالي لهم بعد دراسة الفلسفة لأكثر من سنتين، حتى فهمها، وأصبح كواحد من كبار رجالها، يقول عن نفسه: «ثم إني ابتدأت بعد الفراغ من علم الكلام بعلم الفلسفة،وعلمت يقيناً أنه لا يقف على فساد نوع من العلوم،من لا يقف على منتهى ذلك العلم،حتى يساوي أعلمهم في أصل ذلك العلم..فشمرت عن ساق الجد في تحصيل ذلك العلم من الكتب..ثم لم أزل أواظب على التفكر فيه بعد فهمه قريباً من سنة أعاوده وأردده وأتفقد غوائله وأغواره،حتى اطَّلعت على ما فيه من خداع،وتلبيس وتحقيق وتخييل، واطلاعاً لم أشك فيه”، وألّف في ذلك كتابه ”مقاصد الفلاسفة”مبيّناً منهجهم. ثم بعد ذلك وصل إلى نتيجته قائلاً: *«فإني رأيتهم أصنافاً، ورأيت علومهم أقساماً وهم على كثرة أصنافهم يلزمهم وصمة الكفر والإلحاد، وإن كان بين القدماء منهم والأقدمين، وبين الأواخر منهم والأوائل، تفاوت عظيم،في البعد عن الحق والقرب منه”.
يصف الإمام الغزالي في كتابه *”المنقذ من الضلال” كيف أصابه مرض الشك نتيجة المتناقضات الموجودة في عصره بسبب التقليد الأعمى للاعتقادات والقيم الموروثة، وهذا أمر لا يمكن تصوره لأنها مذاهب يناقض بعضها بعضا، فإما أن تكون باطلة كلها وإما أن يكون أحدها صحيح والباقي باطلاً. فرأى أنه لا بد من الشك فيها حتى يستقل بفكره ويكون رأيه. فلا خلاص إلا بالإستقلال والشك بالموروث، ويعبر عن ذلك في قوله: ”إن الشكوك هي الموصلة للحقائق، فمن لم يشك لم ينظر، ومن لم ينظر لم يبصر، ومن لم يبصر بات في العمى والضلال.
أما ديكارت، تعلم تعليماً جيداً في بداية طفولته وشبابه الأول، ولكنه أمضى عمره فيما بعد في غربلة هذه الثقافة التي تلقاها، بل وفي نقدها وتدميرها أيضاً، فقد اتخذ ديكارت منهج الشك الحازم حول الأفكار التي يتصورها العقل في وضوح ويقين كاملين والتي كانت بدايتها متمثلة في التقليد والتربية، في صور المعارف والحقائق التي تلقاها الإنسان منذ الطفولة. إلا أنه لم يعترف بأخذه عن الإمام الغزالي، ولولا محض الصدفة لاعتقد كثر أن نظرياته استخلصها لوحده لا من الغزالي.
تأثر ديكارت بالغزالي
في القرن الثاني استعمل الفيلسوف الغزالي الشك المنهجي للحصول على الجواب على سؤالان رئيسان الفلسفية: الأول: كيف نحصل على المعرفة؟
الثاني كيف نعرف ان عندنا المعرفة الأكيدة؟
وفي القرن السابع عشر بحث الفيلسوف الفريسي ديكارت عن حل نفس الجواب بنفس المنهج وحصل على نفس الجواب، فأثر الفلسفة الإسلامية كان واضح التأثر على الفلسفة الغربية.
ذكر الدكتور العلامة عثمان الكعاك أحد أعلام تونس المعاصرين المتوفى في العام 1976 ميلادي، في المؤتمر العاشر للفكر الإسلامي في عنابة بتونس في أوائل السبعينيات أن العلامة المصري د محمد عبد الهادي أبو ريدة، والذي كانت تربطه بالكعاك علاقة وثيقة طلب إليه أن يعاونه في عمل بحثي يتوفر عليه أبو ريدة بخصوص تأثير أبو حامد الغزالي في الفكر الغربي، وبما أن الكعاك كان يعمل أمينا للمكتبة الوطنية فإنه استطاع أن يصل إلى مكتبة رينيه ديكارت فوصل إليه وبدأ يطالع، وفوجئ الكعاك بنسخة من كتاب أبي حامد الغزالي “المنقذ من الضلال” مترجمة إلى اللاتينية في مقتنيات ديكارت، وبقلم ديكارت خطوط تحت أكثر من فكرة من أفكار الغزالي ومكتوب عليها “ينقل هذا إلى منهجنا” أي كتاب ديكارت”، وذكر الكعاك أنه في وفي إحدى صفحات كتاب “المنقذ من الضلال” للغزالي إشارة بالخط الأحمر وضعها ديكارت بنفسه تحت عبارة الغزالي الشهيرة “الشك أولى مراتب اليقين”، وقد أكد كل من الدكتور محمود حمدي زقزوق في كتابه “المنهج الفلسفي بين الغزالي وديكارت”، و الدكتور. نجيب محمد البهبيتي في كتابه “المدخل إلى دراسة التاريخ والأدب العربيين” أكدا على أن رينيه ديكارت قد سرق من أبو حامد الغزالي وخاصة من كتابه المنقذ من الضلال.
هذا التأثر وإنتقاء جُمل الإمام الغزالي ونسبها إلى ديكارت دون الإشارة إلى مصدرها أو التنويه بحاشية الكتاب أو حتى الفهرس، ليجعلنا نتبنى نظرية الشك في كل ما هو منسوب للغرب وندقق فيه، هل هو خلاصة غربية صافية، أم مقتبس عن مراجع عربية وإسلامية ونسبها إليهم، فقول ديكارت “انا أفكر إذاً أنا موجود”، ليس ببعيد عن قول الفيلسوف الغزالي “أنا أريد إذاً أنا موجود وقادر”، فديكارت جاء بعد الغزالي بستة قرون، وحقيقة الأمر هي أن الشبه شديد من حيث «المنهج» وليس من حيث المحتوى بين الغزالي وديكارت فخطوات المنهج الذي يؤدي بالإنسان إلى اليقين في كتاب محك النظر للغزالي، تجد نفسك على وشك أن تتساءل: ماذا بقى بعد ذلك لديكارت؟ إذ ربما كان ركن الأساس في المنهج عندهما واحداُ، وهو ضرورة البدء بحقائق لا تحتمل أن يشك فيها بحكم طبيعتها المنطقية ذاتها ثم هناك بين الرجلين شبه آخر، لا يقل أهمية عن ركن الأساس الذي ذكرناه. وذلك الشبه الآخر هو أنه بالرغم من أن المبدأ الديكارتي يبدو وكأنه استدلال نتيجة من مقدمة، ففي كلمة «إذن» التي بين طرفين ما قد يوحى أن الطرف الثاني أخذ مستدل من الطرف الأول.
نابغة كل العصور
لم يكن ديكارت فقط من تأثر بالغزالي بل كل من الفلاسفة وهم حسب دولهم، الفرنسيون: ديكارت وباسكال وجسندي ومالبرانش، والإنكليزيون: هوبز وبوتلير وكارليل، والهولندي اسبينوزا.
قال ول ديورنت عن الغزالي: كان رد الفعل الذي نتج من هذه الحركة المتشككة هو ظهور أبي حامد الغزالي أعظم علماء الدين المسلمين، الذي جمع بين الفلسفة والدين، فكان بذلك عند المسلمين، كما كان أوغسطين عند الأوروبيين.
أحس الغزالي بأنه قد عثر على هذا النوع من المعرفة في تأمل الصوفية الباطني: فالصوفي يقترب من سر الحقيقة المكنون أكثر مما يقترب منه الفيلسوف؛ وأرقى أنواع المعرفة هو التأمل في معجزة العقل حتى يظهر الله للمتأمل من داخل نفسه، وحتى تختفي النفس ذاتها في رؤية الواحد.
في المحصلّة، وعَودٌ على بدء، سأبقى وفيّاً أميناً لتاريخي وتراثي وموروثي، وأين ما وُجِدَ الخطأ سأشير عليه، فكيف وإن كان نسب تعب سنوات طويلة من الدراسة والتحصيل العلمي في بلادنا العربية ونسبها للغرب دون أدنى إعتراف أو ذكر للحقائق، وكما كنت أقول دائما، تاريخنا وتراثنا ومكتبتنا وكتبنا أمانة يجب صونها، لأن في جعبتي الكثير الكثير وما أول الغيث إلا أبو حامد الغزالي.
عبدالعزيز بن بدر القطان