جرّب العرب خلال تاريخهم علاقات استراتيجية سياسية واقتصادية وعسكرية وأمنية مع الكثير من الدول الغربية وبشكل خاص مع المملكة المتحدة والولايات المتحدة الأمريكية، ووصلوا في هذه العلاقات إلى مدى واسع جدًا، إلا أن هذه العلاقات لم تنقطع يومًا عن سياقها التاريخي الاستعماري، مهما تحدث الجميع عن قوتها وضرورتها واستراتيجيتها في العصر الحديث.
ولم تستطع الشعوب العربية يومًا أن تنسى ذلك السياق التاريخي الذي ما زالت تعيش تفاصيله المريرة، والتي لا تختصر في القضية الفلسطينية فحسب ولكنها أحد أهم تمظهراتها، كما أن المستعمر نفسه لم يستطع أن ينسى ذلك التاريخ ويخرج من سياقه نحو علاقات جديدة متوازنة. وجرّبت بعض الدول العربية بناء علاقات استراتيجية وخاصة في الجانب الاقتصادي والعسكري مع الاتحاد السوفييتي في حقبة ستينيات القرن الماضي، حينما كان الاتحاد السوفييتي الوجه القوي المنافس للغرب ورأسماليته.. ورغم أن الاتحاد السوفييتي وقف في الكثير من المنعطفات التاريخية مع القضايا العربية إلا أن الكثير من الدول العربية وأغلب الشعوب العربية قاومت المد الشيوعي في بلدانها ولم تجد فيه ما كانت تبحث عنه، وبعد سقوط جدار برلين لم يعد أمام العرب إلا طريقهم الغربي الذي بقي شوكة يدمي أرجل العرب ويطعن عيونهم.
ومنذ عقد من الزمن أو يزيد بدت في العالم العربي دعوات جادة إلى تغيير البوصلة العربية والاتجاه شرقًا، وبشكل خاص الصين وهي تجربة حضارية وتنموية جديدة جديرة بالكشف والاستفادة منها بعد أن استطاعت أن تثبت نفسها وتكون رقمًا عالمية منافسًا في الصدارة، بل إنها تسعى جادة إلى بناء نظام عالمي جديد يقوم على أسس مختلفة عن أسس النظام العالمي الحالي وهي مدعومة باقتصاد قوي جدًا وبقوة عسكرية لا يمكن الاستهانة بها.
وللعرب جذور عميقة في علاقاتهم مع الصين، وهي جذور غير ملطخة بوحل الاستعمار كما هو الحال «غربًا»، فلا يوجد ميراث استعماري بين العرب والصين على سبيل المثال أو اليابان، وهذا الأمر يجعل التعاون والتكامل بين العرب وهذه الدول «الشرقية» أبعد ما يكون عن الأحقاد التاريخية وميراثها الثقيل دائمًا، كما أن العلاقات العربية- الصينية قديمة قِدم التاريخ حيث تشير الوثائق إلى أن البحار العُماني أبو عبيدة وصل إلى الصين في القرن الثاني الهجري وأقام فيها، ونشر الإسلام والثقافة العربية التي لقيت الكثير من القبول لدى الشعب الصيني.
وقد استشهد الرئيس الصيني شي جين بينج بهذا البحار العماني في مقال نشرته صحيفة الرياض السعودية في مستهل زيارته للمنطقة وعقده أول قمة عربية-صينية، وكان سياق حديثه عن العلاقات التاريخية بين الصين والعرب. وتكمن أهمية اتجاه العرب شرقًا في الانفتاح على الثقافات الأخرى وبشكل خاص الشرقية منها التي يمكن أن نعتبرها الأقرب إلى الثقافة العربية، ولا يمكن هنا أن نغفل أين وصل التقدم الصيني سواء في التجارة أو في التقدم التكنولوجي، وتصنف 11 جامعة صينية من بين أبرز جامعات العالم.
ورغم أن الصين بها أكثر من 900 مليون مزارع إلا أنها الدولة الصناعية الثانية في صناعة الطاقة بل يتوقع أن يتجاوز اقتصادها الولايات المتحدة خلال عقد من الزمن.
لكن العرب الذين عقدوا يوم الجمعة الماضي أول قمة عربية- صينية يحتاجون دائمًا إلى أن يذهبوا شرقًا مجتمعين بوصفهم أمة واحدة، يذهبون بأفق متسع وباستراتيجية واضحة المعالم وجادة وليست في سياق ردات الفعل المؤقتة فقط، ومن بين أهم بنود الاستراتيجية المطلوبة أن نعرف تاريخ وثقافة من نذهب نحوه، لا يمكن أن نذهب ونحن لا نعرف عن الصين إلا أنها قوة اقتصادية.
وهذا دور المراكز البحثية ومراكز الترجمة في العالم العربي لترجمة تاريخ الصين وأدبها، وليس الصين وحدها ولكن اليابان والهند، الهند التي يعمل منها في بلادنا العربية ملايين البشر لا نعرف عنهم الكثير، لا نعرف من أدبهم إلا النادر، وننظر إليهم بوصفهم قوى عاملة غير ماهرة بينما هم قوة اقتصادية تفوق العرب مجتمعين، وثاني أكبر كتلة بشرية بعد الصين.
ولذلك رغم أهمية الاتجاه شرقًا إلا أنه لا بد أن يكون اتجاهًا مدروسًا حتى نستطيع أن نجني ثماره الحلوة وننسى ثمار الغرب المرة.