كما أشرنا في عشرات المقالات، ونقلاً عن عشرات العلماء، أن القرآن الكريم، معجز بأسلوبه، وكلما قرأنا القرآن الكريم، في كل مرة نتأملجماليته الخلّاقة والتعابير والأساليب البيانية المعجزة والفصاحة والبلاغة، التي نكتشفها فقط إن قرأنا بتدبر وتفكّر، فبغير ذلك لا يمكن لأحدأن يشعر بماهية هذه الجماليات كلها.
فالتشبيه التمثيلي على سبيل المثال، يزيد الأسلوب جمالاً، لأن الله تبارك وتعالى، لم يلتزم بنص واحد يتضمن صيغة وأسلوب واحد، بل كانالتنويع في الأساليب هو السائد، فكان الفن ظاهراً بطريقة بديعة، لا يمكن لعاقل أن يأتي بمثلها، قال تبارك وتعالى: (مثلهم كمثل الذياستوقد ناراً قلّما أضاءت ما حوله ذهب الله بنورهم وتركهم في ظلمات لا يبصرون)، و (أو كصيب من السماء فيه ظلمات ورعد وبرق يجعلونأصابعهم في آذانهم من الصواعق حذر الموت والله محيط بالكافرين)، ففي الآيتين ذكر تبارك وتعالى المنافقين لكن في كل آية وجدنا المعانيبين ترهيب وترغيب كجزء من التضاد أو المعارضة وهذا أمر ليس بمقدور أحد أن يقوم بمثل هذا الأسلوب، فأغلب ما ورد في القرآن الكريم هومن فئة الإعجاز الإلهي، لا يمكن للبشر العمل مثله أو حتى بشيءٍ قريب منه.
وكما أبضاً أشرنا في مواضيع سابقة، أن الله تبارك وتعالى، في الفن البياني انتقى كلمات محددة وألفاظ جامعة لبيان المعاني، وكذلكالعناصر المهمة كما في قوله تبارك وتعالى: (نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم إنى شئتم)، فلكلمة حرث دلالات كبيرة ربطاً مع الحرف أنّى،وليس هذا فقط ففي بعض الأحيان أن الآيات تعمل عمل الحالة الفكرية وتعمل العقل ليتأملها ويتدبرها، من خلال العناصر الحية في الصورة،فنجد الصور المحسوسة التي تحرك البحر الراكد وتحرك المشاعر في النفوس، كما في قوله تعالى: (وأجلب عليهم بِخيلك ورجلك وشاركهم فيالأموال والأولاد وعدهم وما يعدهم الشيطان إلا غرورا).
وهنا نستذكر أن الإعجاز في القرآن الكريم يأتي، بأشكال عديدة، منها، الأسلوب البديع، والتشبيه التمثيلي، وغير ذلك، وهو ما يتناسب معلسان العرب وفصاحتهم المشهورة لذلك نزل القرآن الكريم بلسانٍ عربي وفي أرضٍ عربية، بالتالي، إن التشبيه التمثيلي هو صورة منالصورة البيانية التي تظهر إعجاز القرآن، ومذلك تؤثر في نفوس السامعين والمخاطبين، لأن هذا الشائع في كلام العرب، وكما أشرت فيالمقدمة أعلاه، كلما زاد التدبر والتأمل، يزداد الغوص في كشف الإعجاز كل واحد بطريقته مع الحفاظ على الضوابط والقواعد، كركيزةأساسية في هذا الصدد.
بالتالي، إن الرؤية الجمالية في القرآن الكريم، تتأسس على مجموعة من المفاهيم، كل واحدة منها يمكن أن تشكل منبراً دلالياً مستقلاً، يمدكل طالب علم أو باحث، بمساحات لا متناهية من النظر والتأمل والتدبر، وتمد القارئ بعمق نفحات هادية وهادئة تريح النفس وتبعث علىالسكينة، في أساس الجمال القرآني، ينطلق من الأسس المعرفية القرآنية بعد اكتشافها وتبويبها وتأصيلها، ثم يعود إلى المتن القرآني ذاته،لإبراز التجليات الجمالية الكامنة فيه، وإظهارها على النحو الذي يليق بقدسية هذا الكتاب، واستنباط الدلالات الربانية والمقاصد الروحية،والتي نرى أنها مقصودة بالاعتبار عند الشارع الحكيم، قال تبارك وتعالى: (فأنبتنا به حدائق ذات بهجة)، وتأمل كلمات هذه الآية يجعلناندرك في أي مكانٍ نحن، فيالا جمال كتاب الله العزيز.
واستكمالاً لتفسير سورة طه التي كنا توقفنا بها بعض الوقت لظروف خاصة، أعاننا الله أن نكمل ما بدأناه علّ الله تعالى يفيض علينا بالقوةللاستمرار في هذا العطاء الكبير لنشر الفائدة والمعرفة، وكنا قد وصلنا إلى الآية التي تقول: (ومن يأته مؤمناً قد عمل الصالحات فأولئك لهمالدرجات العلى)، ففي تفسير السعدي (الشيخ أبو عبد الله عبد الرحمن بن ناصر بن عبد الله بن ناصر السعدي الناصري التميمي)، ومنيأت ربه مؤمناً به مصدقاً لرسله، متبعاً لكتبه قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ الواجبة والمستحبة، فَأُولَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَا أي: المنازل العاليات، وفيالغرف المزخرفات، واللذات المتواصلات، والأنهار السارحات، والخلود الدائم، والسرور العظيم، فيما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر علىقلب بشر.
أما مضمون الآية كما ورد في تفسير البغوي، (أبو محمد الحسين بن مسعود بن محمد الفراء البغوي)، ثم بين- سبحانه – حسن عاقبةالمؤمنين فقال: وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِناً به إيمانا حقا، وقَدْ عَمِلَ الأعمال الصَّالِحاتِ بجانب إيمانه، فَأُولئِكَ الموصوفون بتلك الصفات لَهُمُ بسبب إيمانهموعملهم الصالح الدَّرَجاتُ الْعُلى أي: المنازل الرفيعة، والمكانة السامية.
وبالنظر إلى الأصل الواحد بين مفسر وآخر نجد أن الجامع هو أن المعنى ذاته، لكن لكل مفسر طريقته وأسلوبه، ففي تفسير الميسر، جاءمعنى الآية، ومن يأت ربه مؤمناً به قد عمل الأعمال الصالحة فله المنازل العالية في جنات الإقامة الدائمة، تجري من تحت أشجارها الأنهارماكثين فيها أبداً، وذلك النعيم المقيم ثواب من الله لمن طهَّر نفسه من الدنس والخبث والشرك، وعبد الله وحده فأطاعه واجتنب معاصيه، ولقيربه لا يشرك بعبادته أحدًا من خلقه، وتفسير الجلالين، “ومن يأته مؤمنا قد عمل الصالحات” أي الفرائض والنوافل “فأولئك لهم الدرجاتالعلى” جمع مؤنث أعلى.
بالتالي، إن التفسير بالاعتبار ينقسم إلى ثلاثة أقسام: تفسير بالرواية، ويسمى التفسير المأثور، والتفسير بالدراية، ويسمى التفسير بالرأي،والتفسير بالرواية والدراية، ويطلق عليه اسم، التفسير الأثري النظري.
وبتتبع تفسير سورة طه من أول آية فيها إلى آخر ما وصلنا إليه، نرى الأسلوب القصصي الذي يجعل القارئ المتدبر والمتفكر يعيش تفاصيلرحلة سيدنا موسى عليه السلام وهداية قومه وكشف زيف الفرعون، منذ أن ألقته أمه في البحر إلى تحقيق الرسالة.
في تفسير الطبري، (وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا) موحدا لا يُشرك به (قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ) يقول: قد عمل ما أمره به ربه، وانتهى عما نهاه عنه ( َأُولَئِكَ لَهُمُالدَّرَجَاتُ الْعُلَى) يقول: فأولئك الذين لهم درجات الجنة العلى.
بالتالي، سورة طه من السور التي لها روحانية خاصّة كحال كل آيات القرآن الكريم التي في سورة نجد موضوعاً يتميز بالعبرة والحكمةوالموعظة، ومع نزول القرآن الكريم الذي جاء موضحاً لطريق سعادة البشرية جمعاء في الدنيا والآخرة، وكشف عن مواضع التشابه والتماثلفي الآيات القرآنية في سورة طه المباركة، وأبان عن أنَّ هذا التشابه قد جاء مراعياً للسياقات المصاحبة للآيات، مع الإشارة إلى توضيحالظواهر البلاغية والبيانية التي توافرت في الآيات القرآنية المتقاربة في سورة طه الكريمة، ويتبقى أن نسبر أغوار سورة طه فيما تبقى منآيات هذه السورة المباركة.
عبدالعزيز بن بدر القطان/ كاتب ومفكر – الكويت.