كل إنسانٍ منّا لديه تعلق بمكان، بأديب، بشاعر، بمدينة أو بلد، بحكاية قديمة، أو بمسقط الرأس، لا يخلو شخص من هذه المكنونات مهما علا أو قلّ شأنه، لكن قلّة من تتعرف على حضارات العالم وآدابها، ثقافاتها وعمرانها، سواء قديماً أو حديثاً، فالتراث العالمي والعربي وبالطبع الإسلامي في المقدمة زاخر بالسيَر والتراجم والمؤلفات في كل ميادين الحياة.
من المقدمة أعلاه ارتأيت الكتابة عن الأدب العالمي بشكلٍ عام، على أن نمحّص آداب العالم فرادى في مواضيعٍ لاحقة، ليس من باب التفاخر، بل من أجل تثقيف أبناء الأمة لمعرفة جمال كل أدب وما يميزه عن الآخر، ولهم في النهاية الحكم، إما أن يحبوه وإما لا، فما هو الأدب العالمي؟ قد يتصور البعض ان النتاج الأدبي الرائج في بلد ما، والذي يترجم بعد فترة وجيزة الى عدد من اللغات الأجنبية يدخل على الفور الى الرصيد الذهبي للأدب العالمي، وهذا وهم وقع فيه كثير من المبدعين والنقاد في بلادنا، إذ لا يزال هذا الأمر مثار جدل بين الباحثين الغربيين منذ عشرات السنين ولم يُحسم حتى يومنا هذا، وببحثٍ بسيط عن مصطلح “الأدب العالمي”، نجد أن هذا المصطلح ورد لأول مرة على لسان غوتة، الذي قال خلال حديث مع صديقه ايكرمان في العام 1827: “أنا مقتنع بأن أدباً عالمياً أخذ يتشكل، وأن جميع الأمم تميل الى هذا. إننا ندخل الآن عصر الأدب العالمي. وعلينا جميعاً الإسهام في تسريع ظهور هذا العصر”.
لكن في واقع الحال، إن ولادة هذا المصطلح لم يأتِ من فراغ، فقد كان دانتي قد أشار في دراسة له بعنوان “حول الملكية” الى وجود حركة ثقافية عالمية، كما تحدث العديد من المفكرين والفلاسفة والأدباء الألمان والفرنسيين عن التجربة الإنسانية المشتركة، كذلك تحدث شيللر عن مفهوم “التاريخ العالمي” وهيجل عن مفهوم “الروح العالمية”، لقد نظر شيلر إلى عصره (القرن الثامن عشر) كبداية لتمازج الأمم المختلفة في مجتمع إنساني واحد واعتبر نفسه مواطناً عالمياً. وقد أثرى ممثلو الرومانسية (بايرون، شيلي، وكيتس، وورد زورث) مفهوم “الأدب العالمي”. وتعزز هذا المفهوم وتعمق في القرن العشرين، عندما توسعت الاتصالات الأدبية بين الأمم، وبدا واضحاً وقائع التأثير المتبادل، والتماثل الطوبولوجي في العملية الثقافية على مستوى العالم.
بالتالي، لا يمكن إنكار أن الأدب العالمي كان وسيلتنا لمعايشة وفهم ثقافات مختلفة كانت في منأى عنا جغرافياً وثقافياً، أغلبنا قرأ بالفعل أعمال أدبية من الشرق والغرب، وتلك الأعمال الإنسانية ساهمت ولو بشكل قليل في سد الفجوة المعرفية بيننا كبشر مختلفي الثقافات والانتماءات، إذ لطالما كان الأدب هو نافذتنا نحو المعرفة والفهم العميق للنفس البشرية، ومن الفهم ينبع التقبل، تقبل الاختلافات والتي نشأت مع تنوع البيئات على أرضنا. الأدب العالمي موجود منذ وجود هذا التنوع الثقافي والحضاري بيننا.
قبل أن نعرف من هو غوته الذي استخدم مصطلح الأدب العالمي لأول مرة، لا بد من سرد بشيءٍ من التفصيل عن تجربتي الشخصية، فلقد كنت من عشّاق القصص والحكايات منذ نعومة أظافري، وساعد في هذا الأمر أن كانت الكويت منفتحة على تنشئة الأطفال في زمني على عالمٍ مليء بالخيال والجمال في آنٍ معاً حيث أولت للطفولة البرامج الكرتونية المدبلجة من روائع الأدب العالمي، مثل (حكايات عالمية، التي فيها من كل آداب العالم، وفلونة من الأدب الأسترالي، وسالي، من الأدب الانكليزي، وغير ذلك الكثير)، هذا الأمر كبر معي وأصبحت أفتش عن تفاصيل كل قصة ومن مؤلفها وفي أي بلد، وهذا بطبيعة الحال مع الوقت كان له الدور الأكبر في صقل ثقافتي في مختلف الميادين، لأن الاطلاع عى ثقافات الشعوب يمد الشخص بملكات فكرية لا نجدها عند البعض.
بالعودة إلى غوته (1749)، يعد يوهان فون غوته من أشهر الأدباء الألمان وأكثرهم إثراء للأدب الألماني والعالمي على حد سواء، والذي كتب أعمال أدبية مميزة تنوعت ما بين الروايات والمسرحيات والأشعار، وتميز بأنه كان واسع القراءة والمعرفة، وكان شغوفاً بتعلم اللغات مما مكنه من قراءة الأعمال الأدبية بلغتها الأم، ومن أشهر أعماله هي مسرحية فاوست والتي تجسدت في عدة أعمال سينمائية حول العالم، وتم اقتباسها كذلك في أعمال أدبية، وبحسب سيرة غوته، أنه كان شغوفاً بالأدب الصيني وكان قارئاً نهماً للترجمات الصينية على قلتها، كما أنه تأثر بالشعر الفارسي وظهر ذلك في إحدى دواوينه والذي ذكر فيها الشاعر الفارسي حافظ الشيرازي، كما أنه كان واسع الإطلاع على الأدب العربي والشعر العربي على وجه الخصوص، فقرأ فيه الكثير، وحاول ترجمته إلى الألمانية، كل تلك القراءات المختلفة جعلته يدرك أهمية نشر الآداب المختلفة، ومنها الأدب الشرقي من خلال إيصاله للإنسان الغربي، بالتالي، ربما ينال غوته الفضل في صياغته لمصطلح الأدب العالمي، ولكن الفضل يرجع لفعل الكتابة نفسه وتوثيقها للقصص الإنسانية على مر العصور وفي مختلف بقاع الأرض.
لكن ثمة مسألة مهمة، فكل بلد كانت تعتقد أن أدبها هو حكر لها وهو الأدب العالمي، إذ يرى بعض الباحثين الأوروبيين، ان الأدب الأوروبي الكلاسيكي والمعاصر هو الذي يمثل الأدب العالمي. وأنصار هذا الرأي لا يتحدثون عن أوروبا كمفهوم جغرافي، بل يتصورونها كمفهوم روحي. وهذا يعني بالضرورة ان الأدب العالمي هو الأدب المشبّع بـ “الروح الأوروبية” وأن هذا الأدب لا يمكن تمثله الا من خلال منظور الثقافة الأوروبية. وهذه وجهة نظر أوروبية ضيقة، ويرى هؤلاء، أن آداب الشعوب الشرقية تقع خارج نطاق الأدب العالمي، لأن نتاجاتها لم تصبح بعد في متناول أيدي البشرية بأسرها. ويرى البعض الآخر منهم إن الآداب (الهمجية) الغريبة لا تنتمي الى الأدب العالمي. ويدعو إلى نبذ الفلكلور وطرحه خارج نطاق روائع الأدب العالمي، ولا شك أن مثل هذه المزاعم مرفوضة تماماً. صحيح ان الفلكلور لا يدخل في الأدب العالمي على نحو مباشر، ولكن مما لا ريب فيه أن شعراء مثل هايني وبيرنس ويسينين قد ترعرعوا فوق تربة الفولكلور وان نتاجاتهم جزء من الأدب العالمي، كذلك عملية التأثير والإثراء المتبادل للآداب القومية، والتي تظهر في مرحلة متقدمة من التطور الحضاري للبشرية. وهذا ما نلمسه بوضوح في إشارة غوتة الى الدور الذي يلعبه الأدب العالمي في توطيد أواصر العلاقات المتبادلة بين الشعوب، حيث يقول “إننا نود أن نعيد الى الأذهان من جديد ان مسألة توحيد العقليات الشعرية امر مستحيل. فالحديث هنا يدور حول تعريف الشعوب بعضها ببعض، وليس عن أي أمر سواه. وحتى اذا اخفقت الشعوب في اقامة علاقات محبة متبادلة فيما بينها، فإنها ستتعلم في الأقل كيف تتحمل بعضها بعضاً”.
كما أن التقدم التكنولوجي، وخاصة في مجال الاتصالات ووسائل الإعلام الحديثة قد ساعد في تقريب ثقافات الشعوب المختلفة وآدابها وفي النضج السياسي والتكامل الروحي على نحو متسارع بمضي الزمن. ولا نعني بذلك زوال الحدود الجغرافية أو ابتذال القيم وضياعها، بل التفاعل الهارموني لكافة القيم. إن الشخص الذي لا يرى في الأدب العالمي سوى سلسلة من المؤلفات الشامخة، سيدهش للفكرة التي مؤداها إن أدب كل شعب ينبغي أن يجد مكانه ضمن الأدب العالمي، ومن أشهر الأعمال الأدبية العالمية، والتي نالت شهرة واسعة والتي تناولنا بعضها في مقالات أخرى مثل “ملحمة جلجامش” من قلب الحضارة السومرية، وملحمة الإلياذة والأوديسة من الحضارة اليونانية القديمة، وغيرها من الأعمال الأدبية القديمة والحديثة، والتي غيرت مفهومنا عن بعضنا البعض، ومنحتنا رؤية مختلفة للحضارات والثقافات.
36 #ملحمة_الإلياذة_والأوديسة
ملحمة الإلياذة والأوديسة من الحضارة اليونانية القديمة، وغيرها من الأعمال الأدبية القديمة والحديثة، والتي غيرت مفهومنا عن بعضنا البعض، ومنحتنا رؤية مختلفة للحضارات والثقافات.
من هنا، لكل حضارة ثقافتها وآدابها، قد لا تكون قد وصلت للعالمية،لكن هذا لا يُلغي أهميتها، فكما واقع اليوم، الترويج الإعلامي كان سبباً رئيسياً في إطلاق العنان لكثير من الآداب حول العالم، والبعض الآخر لم يحلفه الحظ، إنما فللشرق سحره وللغرب بريقه.
د. عبدالعزيز بن بدر القطان