إذا كنّا قد رحّبنا في السابق بقرار البرلمان العراقي تجريمَ التطبيع مع الكيان الإسرائيلي، باعتباره يعبّر عن أصالة الشعب العراقي ومواقفهالتاريخية في دعم الشعب الفلسطيني، فالواجبُ يحتّم علينا أن نتوجّه بتحية إكبار وتقدير لمجلس الشورى العماني، الذي ناقش يوم الاثنينالماضي (26 ديسمبر 2022م)، مشروع قانون لتعديل المادة الأولى من قانون مقاطعة إسرائيل والتوجه إلى التشديد ضد التطبيع، حيثيوسّع المقترح نطاق المقاطعة التي نصّت عليها المادة المذكورة، بعد أن رأى بعضُ الأعضاء المتقدمين بالطلب، المستجدات الحاصلة، سواءكانت في الجانب التقني أو الثقافي أو الاقتصادي أو الرياضي، فاقترحوا “تعديلات إضافية تتضمن قطع أيّ علاقات اقتصادية كانت، أورياضية، أو ثقافية، وحظر التعامل بأيّ طريقة أو وسيلة كانت سواء كان لقاء واقعيًا أو إلكترونيًا أو غيره”، كما أشار إلى ذلك سعادة الشيخيعقوب الحارثي نائب رئيس مجلس الشورى، الذي أوضح أنّ القانون الحالي يحظر التعامل مع الكيان الإسرائيلي، سواء للأفراد أوالشخصيات الاعتبارية، لكن المقترح الجديد يفضي إلى “التوسع في التجريم والتوسع في مقاطعة هذا الكيان”.
حقيقةً تلقى النّاس مقترح مجلس الشورى بارتياح تام، لأنه يعبّر عن نبض الشعب العُماني الرافض للتطبيع مع الكيان الإسرائيلي؛ وهوموقفٌ داعمٌ للحكومة العمانية التي تواجه الضغوطات من الأقربين قبل الأبعدين، لكي تسير مع الركب.
ورغم وجود بعض الاتصالات بين الحكومة العمانية وحكومة الاحتلال – بين فترة وأخرى – إلا أنّ الموقف الرسمي هو موقفٌ مشرفٌ أيضًا؛ومن ذلك مثلا السماح لأعضاء مجلس الشورى لمناقشة موضوع تغليظ التطبيع أو “التطويع” – كما سماه أحد الكتاب -، فالحكومة العمانيةعلى دراية بأنّ التطبيع مع الكيان الصهيوني هو في صالح الكيان ولن يكون في صالحنا، والشاهد ما حدث مع كلّ الدول العربية التيطبّعت علاقاتها، فلم تستفد شيئًا وإنما خدمت المشروع الصهيوني. وقد استطاعت سلطنة عُمان – حتى الآن – أن تَعبُر بأمان كلّ الحواجزالتي أقيمت أمامها للتطويع، كأن ترفض ضغوط الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب لانضمامها إلى قافلة “الاتفاقيات الإبراهيمية”،الذي أراد أن يفوز بفترة رئاسية ثانية على حسابنا، وكذلك ضغوط خلفه الرئيس جو بايدن بالسماح للطائرات الإسرائيلية بالعبور فوق الأجواءالعمانية، وهو الرفض الذي انتقدتْه كثير من وسائل الإعلام الإسرائيلية ومنها صحيفة “تايمز أوف إسرائيل” التي أوضحت “أنّ الجدل حولالمقاطعة العمانية لتل أبيب قد يكون مرتبطًا بجهود إسرائيل لتأمين موافقة مسقط على تحليق الطيران المدني الإسرائيلي في أجواء الدولةالخليجية”.
وإذا تركنا الضغوطات الأمريكية جانبًا فإنّ الأوضاع على الأرض تفرض نفسها على الواقع، عندما أصبح الإسرائيليون بعد اتفاقياتالتطبيع مع البعض، أمام عقر دارنا وعلى عتبة بيتنا، بكلّ ما يمثله ذلك من خطورة على الوضع الداخلي، ممّا يتطلب خطوات جادة لحمايةالمجتمع، كالتي اقترحها بعض أعضاء مجلس الشورى، إذ يؤكد هذا المقترح وتفاعل الناس معه أنّ أمر إقامة العلاقات مع الكيان الصهيوني،لو أعطي للشعوب العربية عبر مجالسها المنتخبة لما أقدمت أيّ دولة عربية أو إسلامية على إقامة مثل هذه العلاقة، رغم أنّ هناك بعضالأصوات النشاز، التي تحدثت عبر مواقع التواصل، عن الفوائد الاقتصادية التي قد تعود بالنفع للبلد من وراء هذا التطبيع، ناسين أنّ الدولالعربية الست التي طبّعت مع الكيان الصهيوني لم تستفد اقتصاديًا شيئًا، بل الأمر صار عكسيًا، وهو ما نبّه إليه د. حيدر اللواتي فيتغريدة له: “يتوهم من يرى أنّ مصالحه الاستراتيجية يضمنها التطبيع مع الكيان الصهيوني؛ فنظرة إلى وضع الدول المطبّعة تكفي كبرهان.. هذا الكيان وُجد للهيمنة على الدول ولتفتيت الشعوب وتوهين الأديان وليس للتعايش والسلام، وهذا هو هدف التطبيع، ومع صعود المتطرفينفي الكيان سيعود التطبيع إلى الواجهة”.
خلال السنتين الماضيتين طُرح اسم سلطنة عُمان كثيرًا – خاصة في وسائل الإعلام الإسرائيلية – “كدولة محتملة للانضمام إلى اتفاقياتأبراهام لتطبيع العلاقات مع إسرائيل”، ولكنّ المسؤولين العمانيين غلّبوا المصلحة العامة للوطن، وهي المصلحة التي تتماشى مع توجهاتالشعب العماني، وهو ما أشار إليه معالي السيد بدر بن حمد وزير الخارجية بقوله إنّ قرار مجلس الشورى العماني بتجريم التطبيع معالكيان الإسرائيلي جاء “تجسيدًا لتطلعات الشعب العماني وسائر الدول الإقليمية من أجل التوصل إلى حل عادل وشامل للقضيةالفلسطيني، وفقًا للمعايير الدولية ومبادرة السلام العربية”.
وأمام الضغوط الأمريكية للتطبيع، لا أدري لماذا علينا أن نكون مجرد ورقة في يد المترشح الأمريكي أو الإسرائيلي؟ ولماذا علينا أن ندخل فيحرب نيابة عن الآخرين ضد جارة لنا؟ فعُمان دولة عريقة لها ماضيها ولها مواقفها المستقلة، لذا من أجل تعزيز الموقف العماني الرسمي لا بدأن نشيد بخطوة مجلس الشورى تلك، والذي أرى أنه يجب أن تتضافر كلّ الجهود في هذا الاتجاه، سواء من مجلس الشورى أو مجلسالدولة، وكذلك من الكتّاب والخطباء والمؤثرين عبر مواقع التواصل، ولابد أن نشيد بموقف سماحة الشيخ أحمد بن حمد الخليلي المفتي العامللسلطنة، المتابع للأحداث العالمية والمتفاعل معها، الذي يرى “أنّ المقاومة هي السبيل الوحيد لاستعادة فلسطين، وأنّ كلّ مسار آخر مرفوض؛فكلّ الاتفاقيات لم تجدِ نفعًا، وإنما هي استهلاك للوقت”، فقد غرّد مثمنًا خطوة مجلس الشورى “إنا لنساند بكلّ قوة المشروع الذي طُرح فيمجلس الشورى العماني الموقر، وهو إحكام مقاطعة الكيان الصهيوني مقاطعة مطلقة في التجارة وغيرها؛ لأجل تماديهم في العدوان وعدممبالاتهم بحقوق الشعب الفلسطيني المظلوم، وهذا ممّا يدخل في الأخوة الواجبة بين المسلمين..”
وإذا كان مقترح مجلس الشورى لتوسيع نطاق مقاطعة الكيان الإسرائيلي قد لقي هذا الترحيب الشعبي الواسع داخليًا وخارجيًا، لأنه يُعبّرعن الإرادة الشعبية العمانية تجاه التطبيع، فالمرجو أن تتواصل الخطوات ويتحول المقترح إلى واقع عبر سن قوانين تنظم ذلك، لأنّ الدولة – بالتأكيد – على علم ودراية بالمستجدات الحاصلة في الإقليم، ومدى خطورة تغلغل الإسرائيليين في مفاصل المجتمع، وهذه الدراية تقودنا إلىتناول نقطة أخرى هامة، الانتباهُ لها واجب، وهي السماح للمقيمين في دول المجلس أن يدخلوا إلى الأراضي العُمانية دون تأشيرة، فهذهالنقطة قد يكون لها عواقب لا تُحمد عقباها؛ إذ يبدأ الأمر بزيارة عادية، ثم دغدغة الناس بمعزوفة “الفوائد الاقتصادية” التي يرقص لهاالبعض، وينتهي بكوارث لا قبل لنا بها.
شخصيًا كثيرًا ما كتبتُ ضد التطبيع ومنتقدًا كلّ الخطوات التي تقود إلى ذلك، وعندما يتخذُ مجلس الشورى خطوة كهذه، فلزامًا عليّ أنأقف معه، لأني أراه موقفًا مشرفًا ليس بغريب على الشعب العماني المشهود له تاريخيًا بمواقفه الداعمة للشعب الفلسطيني سياسيًاواقتصاديًا، وعسى أن تقتدي به البرلمانات العربية الأخرى، ومهما يكن فعلاوة على ترحيب الناس بخطوة المجلس، فإنّ مجرد مناقشة التطبيعتحت قمة البرلمان، كفيلة بأن تعطي المجلس شرعية أخرى، بعد أن كثر الحديث طويلا عنه وعن صلاحياته، فلا ينبغي الخلط بين الأمور.
زاهر بن حارث المحروقي
جريدة عمان. عدد الأثنين 2 يناير 2023م