في الثامن عشر من يناير الحالي، تمرّ الذكرى السنوية الخامسة لرحيل الدكتور الشيخ إبراهيم بن أحمد الكندي رحمه الله، وهو أحد أبرز اللغويين العرب وأحد الفقهاء الذين كرّسوا حياتهم للدعوة إلى الله تعالى، وكان مدركًا لقيمة وسائل الإعلام، التي اتخذها منبرًا لنشر العلم والثقافة والمعرفة، فصار نجمًا برامجيًا إذاعيًا وتلفزيونيًا، هذا غير خطبه ومحاضراته. ورغم علمه الغزير وإلمامه بعلوم اللغة العربية نحوًا وصرفًا وبلاغة، إلا أنّ شهرته انطلقت من خلال إذاعة سلطنة عُمان، في البداية عبر برنامجه اليومي “كيف تعبد الله؟”، الذي تناول العبادات بلغة بسيطة وأسلوب سهل، سهّل للناس استيعاب الفكرة، حيث حكى لي الشيخ الكندي أنّ أحد الأشخاص قال له مرةً إنه اكتشف أنه لم يكن يصلي صلاة صحيحة إلا بعد متابعته لبرنامج كيف تعبد الله؛ فيما قال لي أحد المغاربة إنّ هذا البرنامج بُث من خلال إذاعة بلادهم، فكان له جمهور كبير من المتابعين، نظرًا للمعلومات الواردة فيه، والبساطة التي تميّز بها الشيخ إبراهيم في تعليم الناس أمور العبادات. وأذكر أني عرفتُ الدكتور إبراهيم الكندي أول مرة، من خلال ندوة الفقه الإسلامي، حيث ألقى محاضرة عن فقه الزواج، وبعدها انطلق عبر الإذاعة ببرامجه المتعددة التي عرفه الجمهور من خلالها. ورغم جديته في برامجه إلا أنه كان شخصًا مرحًا، ذا سرعة بديهة وفكاهة، ويحمل الزميل المذيع هلال بن سالم الهلالي، والمخرج عبد الله بن علي العزري كثيرًا من الفكاهات التي كان يتحفهما بها الشيخ أثناء تعاملهما معه فترة طويلة؛ كما أني أذكر أنّ الشيخ إبراهيم رحمه الله، عند بداية عمله في جامعة السلطان قابوس سكن فترة في الخوض، فكان يؤمّنا أحيانًا في صلاة الفجر في مسجد سالم بن زاهر البوسعيدي رحمه الله، ومن ضمن دعائه بعد الصلاة: “اللهم نعوذ بك أن نعقد صفقة خاسرة في هذا اليوم”. وفي اعتقادي أنّ الله سبحانه وتعالى استجاب له، إذ كان نشيطًا في مجال التجارة بالأراضي والعقارات، مثلما كان نشيطًا في مجال الدعوة.
ضمن مشروعه الثقافي التوثيقي، الذي بدأه الباحث د. محسن بن حمود الكندي عن الحياة الثقافية العمانية منذ أكثر من عقدين من الزمن، أصدر كتابًا عن الراحل إبراهيم الكندي، بعنوان “الشيخ الدكتور إبراهيم بن أحمد الكندي – عالم النحو والأصول” في مجلد من 688 صفحة، إصدار مكتبة الجيل الواعد، رسم فيه صورة كلية شاملة لشخصية وحياة وتراث الشيخ الكندي، بعيدًا عن قضايا التخصص في تلك العلوم التي عُرف بها الشيخ وأبدع فيها. ويقول د. محسن إنه بذل قصارى جهده للإحاطة بعبقريات الشيخ المتعددة الأوجه: الأصولية والفقهية والنحوية واللغوية والإعلامية والخطابية والأدبية والاجتماعية، وتحليل هذه الشخصية الجامعة لهذه العبقريات؛ وهو ما وضح فعلا من خلال صفحات الكتاب المكون من خمسة فصول، مع فصل خاص عن الذاكرة المصورة المشتملة لبعض صور الشيخ، طاف الباحث بالقارئ حول رحلة الشيخ إبراهيم بدءًا من المؤثرات الأولى في حياته، مرورًا بقراءة جهوده البحثية في الفقه الإسلامي، وقراءة جهوده البحثية في النحو واللغة العربية، مع فصل خاص عن قراءة في تجربته الشعرية ومضامينها وخصائصها، وأخيرًا قراءة في مصادر كتاباته النثرية وأنماطها.
ويرى د. محسن أنه من الصعوبة بمكان دراسة أدب وفكر شخصية مثيرة مدهشة تلتبس بمفاهيم ثقافية مختلفة كشخصية الشيخ إبراهيم الكندي؛ ذلك لأنّ عُمان كلها وعلى امتداد قرن من الزمان لم تكد تعرف شخصية التبست حياتها وفكرها وآثارها بسياق الحراك الديني والاجتماعي والثقافي لعالم ضرير خارق للعادة، عدا شخصيته وشخصية إمامه وإمام الأمة العلامة المحقق نور الدين السالمي رحمه الله، – الذي ملأ الدنيا وشغل الناس – مع فارق في التفكير والممارسة والإنتاج التأصيلي؛ ومع ذلك يظل اسم الشيخ إبراهيم – كما يقول د. محسن – متميزًا في بعض المساقات الاجتهادية والرؤى المنهجية والدراسات الأكاديمية. ولإزالة أيّ التباس في هذا الأمر يقول: “تأتي هذه المقارنة على صعيد التمثيل، وليس على سبيل المفاضلة، وهي نسبية، ولا يجب أن يُفهم منها التعظيم المطلق والمقارنة التبجيلية، وإنما المقصود منها الممايزة بين عالِمين عُمانييّن كبيريْن جمعتهما الإعاقة البصرية وفقد النظر، مع وعينا بأنّ الشيخ إبراهيم الكندي لا يرقى إلى منصة هذا الطور المرجعي الكبير، ونحسبه تلميذًا له، تربّى على فكره وقرأ متونه وأسفاره، وهو مرجعه الأول في التكوين والتشكل”.
لقد جسدت حالة الدكتور إبراهيم الكندي مثالا للحضور الكارزمي في مجتمع يرى أنّ مكان الكفيف هو البيت ومقعده المسجد، ويجب أن يكون هدفه الدعاء والتضرع والاعتكاف في الزوايا فقط، وأنّ عليه أن يستسلم لقدره المحتوم، ومع ذلك تجاوز الشيخ الكندي حدّ الأفكار الهدامة، بسلوك غير عادي، وتاق إلى الشموخ والتميز بدءًا من التحصيل الدراسي، ومرورًا بالحراك الحياتي، وانتهاء بالإنتاج الفكري؛ فكان لا يحتاج إلى دليل يدله الطريق، ولا معوان يسيّر له أمور يومه إلا لمامًا؛ فمتى سار في درب سلكه وحفظه، ومتى خُط له دربٌ عرف جغرافيته ومعالمه، ومتى عرف إنسانًا لم ينسه، فتراه يواصله ويبادله اللقيا والبشاشة ولو فارقه أعوامًا كثيرة؛ فلا غرو أن يقول عنه د. محسن: “لا نبالغ في القول إن اعتبرناه رجلا استثنائيًا في الوسط العماني على الأقل في النصف الثاني من القرن الأخير”، إذ كان من نتاجه، أطروحاتٌ ومؤلفاتٌ وأبحاثٌ مفردة وبرامج توعية ومحاضرات دعوية ودروس مسجدية، قدّرها د. محسن ب6219 إنتاجًا، حيث احتلت الأحاديث الإذاعية المرتبة الأولى بما نسبته 71,1%.
يقول د. محسن إنّ الشيخ إبراهيم – الذي تزامل معه في جامعة السلطان قابوس – “كان رجل المرحلة العلمية بامتياز، مفعمًا بكلّ مفاهيم الاستثناء ومقاييسه القيمية، وظلّ على هذه الحال في حياته كلها، تزكيه في ذلك منازله الأولى في التعليم منذ نعومة أظفاره وفقده لعزيزتيه وهو ابن الخامسة، وتملكه لقدرات الحفظ من الشرف الأول لكلّ شيء يسمعه أو يتبدى له من بعيد، وبالأخص آيات كتاب الله الكريم، وأحاديث نبيه الشريف صلى الله عليه وآله وسلم، فكأنه وجد ليكون حافظًا حاذقًا، وتلميذًا نبيهًا ماهرًا حد العبقرية المفعمة بالتوق الأبدي إلى التفوق ونيل المراتب العليا، في حس طموحي لا يرضى إلا بالوصول إلى القمة، مهما كلفته من أثمان غالية”.
لقد بذل الباحث د. محسن الكندي جهدًا كبيرًا لتوثيق حياة رجل عاش طوال حياته وفيًا للدعوة إلى الله تعالى، وناشرًا العلم عبر الإذاعة والتلفزيون وما بين لقاءات جماهيرية، ومحاضرات جامعية مسجدية، فكان أنموذجًا للعطاء المتواصل الذي لا تحده الصعاب، ولا تعيقه الآلام؛ لذا فإنّ كتاب “الشيخ الدكتور إبراهيم بن أحمد الكندي – عالم النحو والأصول” يأتي استكمالًا لجهود المؤلف الثقافية التي عني فيها بالبحث في فكر وتاريخ شخصيات عُمانية أدبية وشعرية وإعلامية، التي بدأها قبل عقدين عندما غاص في بحور الصحافة العمانية المهاجرة، بصدور كتابه الأول عن صحيفة “الفلق” وشخصياتها؛ وهي الرحلة التي لم تتوقف حتى الآن، إذ أخرج بعد ذلك الكثير من الأبحاث والدراسات عن الشخصيات العمانية البارزة في مجال الثقافة والعلوم والسياسة والتاريخ، وهو أحد الباحثين العُمانيين الجادين، الذين أثروا المكتبة العمانية والعربية بالعديد من الأبحاث والمؤلفات، منها الكتاب الذي تناولناه في مقالنا هذا.
زاهر بن حارث المحروقي