شكَّلت التوجيهات السَّامية لحضرة صاحب الجلالة السُّلطان هيثم بن طارق المعظم ـ حفظه الله ورعاه ـ إلى مجلس الوزراء الموقر بإلغاء كلمة “مؤقتة” من جميع عقود العمل التي يتم توقيعها لتوظيف العُمانيين خطوة مهمة في سبيل الإنهاء الكلي اللفظي والمعنوي للعمل بالعقود المؤقتة والعقد محدودة المدة، وتعبر عن اهتمام جلالة السُّلطان المعظم بأولويات المواطنين ومراعاة ظروفهم، الأمر الذي يسهم في إعادة إنتاج الصورة السلبية القاتمة التي باتت تطرحها أجندة التوظيف والتشغيل للقوى العاملة الوطنية في القطاع الخاص في ظل إلغاء الحد الأدنى للأجور المرتبط بالمؤهلات، والعقود المؤقتة ومحدودة المدة التي أثارت امتعاض الشارع العُماني وأعطت الشركات مساحة واسعة للتسريح والإنهاء القسري لعقود العمل للمواطنين.
وبالتالي ما يعنيه ذلك من الحاجة إلى مسارات واضحة في آلية التعامل مع العقود الحالية، وأن لا تكون مسألة التغيير يراد بها اللفظ دون استدراكها في كل عقود العمل السابقة والحالية واللاحقة للعُمانيين في القطاعين الحكومي والخاص على حد سواء، إن وجود مسار توضيحي ومفاهيمي لإزالة اللبس وإشكاليات الفهم والوقوف على خطوات التطبيق الصحيح، والحد من التفسيرات الاجتهادية للمراد من إلغاء كلمة مؤقتة يستدعي اليوم من مجلس الوزراء الموقر إصدار بيان توضيحي حول المراد من هذه التوجيهات، والصورة الجديدة التي يمكن أن تقرأ فيها عقود العمل، ثم الفرص التي تحققها في سبيل تعزيز توجُّهات الحكومة نحو تحقيق تحوُّل في مسار برامج التنمية الوطنية والتي تشكل أنظمة العمل والتشغيل والعقود أحد أهم أركانها في ظل ما ارتبط بها من حالة عدم الرضا في الفترة السابقة، وتبقى الإشارة إلى أن الخطوات الجادة التي اتخذتها الحكومة في الشأن الآخر المرتبط بدراسة تسعيرة الخدمات الحكومية، حيث وصل عدد الرسوم التي تم دراستها بحسب بيان وزارة المالية في ديسمبر لعام 2022 منذ البدء بتطبيق دليل تسعير الخدمات الحكومية إلى (1647) وإجمالي عدد الرسوم المخفضة والملغاة والمدمجة (845) في المرحلتين الأولى والثانية، يمكن أن تعطي صورة تفاؤلية بأن تكون عبارة “المؤقتة” المشار إليها في تعميم وزارة العمل بتاريخ 5/12/2022 تتجاوز اللفظ إلى الدلالات المعنوية والواقعية لها في عقود العمل.
وعليه، ومع المساوئ التي ارتبط بالعقود المؤقتة؛ كونها أحد القرارات والتجاوزات الخاطئة التي تبرز مساحة التباين الحاصل في منظومة العمل والفجوة أو الحلقة المفقودة بين قطاعات الإنتاج، ناهيك عن ما تمثله من معطيات سلبية على بيئة العمل والمؤسسة والعامل على حد سواء، فإنها أيضا كانت محطات ارتجالية غير مدروسة أو أنها حالة استفزازية يراد منها الضغط على العامل المواطن وخلق حالة من عدم الارتياح ومزيد من القلق والتشويه حول أدائه المهني ـ تلك الشماعة التي حاول أن يبني عليها بعض المتنفذين في القطاع الخاص قناعته بأن القوى العاملة العُمانية غير مؤهلة للعمل، أو يحاول أن يرسل إيحاءات سلبية للتشكيك في كفاءة الشباب العُماني ـ.
من هنا يأتي إلغاء العقود المؤقتة والعقود محدودة المدة كانطلاقة نوعية لمرحلة جديدة من العمل الوطني نحو تعزيز التنافسية ورفع درجة الإنتاجية وتعظيم قيمة الرأسمال البشري الاجتماعي العامل في القطاع الخاص والحكومي على حد سواء، نظرا لما سوى هذه العقود من أهمية في إعادة التوازنات في سوق العمل، وتحقيق الإنتاجية والاستقرار الوظيفي للعامل العُماني، بما تمنحه له من حياة متجددة، يشعر فيها بذاته، ويصدق فيها مع نفسه، ويتعاطى خلالها مع منظومة العمل والأداء في إطار من المهنية والاحترافية والحب وصحوة الضمير، ناهيك عن ما تؤسسه من بيئة عمل محفزة وداعمة للإنتاج والعطاء وتتسم بالابتكارية والإبهار نظرا لما يطبعه عليها العامل المواطن المخلص من معين أفكاره ونتاج خبراته وعصارة تجاربه، الأمر الذي سوف يسهم في رفع الحافز الوظيفي والدافعية المهنية والجاهزية الأدائية، وإنتاج روح التغيير في سلوك العامل المواطن وتجسيد قِيم وأخلاقيات العمل التي تنطبع على سلوكه المهني وانتمائه الوظيفي وإخلاصه في أداء مهامه؛ فإن إنهاء العمل بالعقود المؤقتة يعبر عن حالة صحية في استجابة القرار الوطني لمعطيات الشارع العُماني، ويستشرف تحوُّلات استراتيجية تتناغم مع متطلبات رؤية عُمان 2040، ويستهدف تعظيم الرأسمال البشري الاجتماعي العُماني عبر ترقية دور العامل العُماني ومنحه المزيد من الاستحقاقات الإنسانية والمهنية والتحفيزية والوظيفية، وإشعاره بأنه مكوِّن استراتيجي في منظومة العمل، الأمر الذي يتوقع أن يبني فيه العزيمة نحو مواصلة النجاح، والإرادة في مواجهة التحدِّيات، والروح الإيجابية التي تقرأ فيه شغف العطاء وحب العمل، والقناعة المهنية التي تنسج في مسيرته المهنية قِيَم الإخلاص والمسؤولية والأمانة الوظيفية، ليترك بصمة إثبات شاهدة على إخلاصه، يعمل أكثر مما يتحدث، وينتج أكثر مما يستهلك، ليظهر الأداء معبرا عن ذاته، متحدثا عن نفسه، فإن هذا التوجُّه أيضا خطوة في إعادة هيكلة القطاع الخاص وتصحيح قواعد العمل فيه ومراجعة أطره التنظيمية والتشريعية والرقابية لضمان جودة سياساته وكفاءة خططه وفاعلية برامجه، ووقف موجات التهديد التي بات يشعر بها العامل العُماني في القطاع الخاص، فهو مهدد بالتسريح أو تحكم الأيدي الوافدة في عمله في ظل حضور الأخيرة الواسع في الوظائف العليا والهندسية والفنية، ووجودها في موقع اتخاذ القرار في القطاع الخاص.
ويبقى استدامة تحقيق هذا المسار مرهونا بثبات إجراءات العمل وسلاستها وكفاءتها ومصداقيتها وشفافيتها، ووضوح مسار التقييم والمتابعة والرقابة، وتوفر استطلاعات الرأي والمسوحات التي تعكس مستوى التحول الناتج من تطبيق هذا التوجُّه، والفارق الذي أحدثه على مستوى الأداء الشخصي والمؤسسي، بما يوفره ذلك من الثقة التي تبرز على شكل شراكات أكثر فعلية ومهنية في تحليل آليات العمل وأدوات التشخيص ومراقبة السوق وتصرفات الشركات، فإن نفي العقود المؤقتة إثبات للعقود الثابتة التي ترفع مسار الثقة وفرص الإنتاجية وترقية الجاهزية والحافز في بيئة العمل ومد جسور الثقة بين العامل والوظيفة، والذي يشكِّل بدوره امتدادا لتحقيق روح المواطنة في ظل شعور العامل بأن حقوقه مصونة، ومطالباته محققة، وينظر إليها بمزيد من الاهتمام والجدية وتعكس صدق المسؤولية ورغبة التغيير.
أخيرا، ومع التأكيد على القيمة المضافة التي يحققها هذا التوجُّه في منظومة العمل العُماني، وثقة المواطن في القطاع الخاص، وقدرة الأخير على تعديل أوضاعه وتصحيح ممارساته، إلا أننا نؤكد أيضا على أن تطبيق التوجيه السَّامي المطاع على أرض الواقع وبصورة مهنية واضحة للمواطن بعيدا عن التفسيرات الجانبية والأفكار المشوشة أولوية يجب أن تدرك، بما يلقي على مجلس الوزراء الموقر مسؤولية تحديد فلسفة العمل بهذا التوجيه السَّامي والأحكام المرتبطة به والمقصود من إلغاء كلمة “مؤقتة” وما إذا كانت تُقرأ لذاتها أم يراد منها إلغاء العمل الكلي بالعقود المؤقتة والعقود محدودة المدة بأي موقع أو مجال كان، بالإضافة إلى تكليف جهات الاختصاص ممثلة في وزارة العمل وغرفة تجارة وصناعة عُمان والاتحاد العام لعمال سلطنة عُمان في متابعة تنفيذ الأوامر السَّامية بهذا الشأن ومراقبة تطبيق العمل به، ورصد آليات التعامل الصحيحة معه، وإيجاد منصَّات لقياس الأداء والقيمة المضافة التي يحققها إنهاء العمل بالعقود المؤقتة على إنتاجية الفرد والمؤسسة، وقدرة القطاع الخاص على صناعة فرص وبدائل أوسع يجد فيها العامل العُماني مساحة أكبر للاستقرار الوظيفي، بحيث تعكس الممارسات الحاصلة في القطاع الخاص والشركات وضع التوجيه السَّامي موضع التنفيذ، وأن ما يتم من ممارسات في الشركات يمثل تجسيدا حقيقيا لهذه التوجيهات على أرض الواقع، كما يأتي التأكيد على دور جهاز الرقابة المالية والإدارية للدولة في الوقوف على مسار التسريح ومنعه حتى لا يجد القطاع الخاص في العقود الثابتة مبررا جديدا، ويختلق له عذرا آخر لتسريح العُمانيين من وظائفهم، فهل سنشهد في قادم الوقت إجراءات ثابتة تحسم هذه التجاذبات والأفكار المطروحة حول المراد من إلغاء كلمة “المؤقتة” من عقود العمل للعُمانيين؟
د.رجب بن علي العويسي