فى البيان الذي اصدره صندوق النقد الدولى فى 16 ديسمبر 2022 عن حيثيات وشروط موافقته على اعطاء قرض جديدلمصر بقيمة 3 مليار دولار، وردت ثلاثة شروط اساسية من ضمن جملة من الشروط الاخرى وهي:
1) تقليص بصمة الدولة فى الاقتصاد.
2) بيع اصول الدولة.
3) تحقيق نمو شامل بقيادة القطاع الخاص.
· بعد ذلك ببضعة أيام أعلن البرلمان موافقته عن تعديل قانون خاص بصندوق هيئة قناة السويس يعطيه الحق فىبيع اصوله.
· وبعده بأيام قليلة أيضا أعلن مصطفى مدبولي رئيس الوزراء عن موافقة عبد الفتاح السيسي رئيس الدولة علىوثيقة ملكية الدولة، وهي الوثيقة التي قسمت اصول الدولة الى ثلاث فئات؛ الاولى ستباع بالكامل والثانية ستكون شراكةبين الدولة والقطاع الخاص والثالثة ستحتفظ الدولة بملكيتها.
· وقبل كل ذلك ومنذ التسعينات وحتى يومنا هذا كانت الدولة المصرية تقوم ببيع عشرات الشركات فى موجاتمتلاحقة من الخصخصة كلما تعرضت لضغوط من صندوق النقد الدولي ومن يمثلهم من الدائنين واصحاب المصالح.
· كل ذلك يثير اليوم مجموعة من التساؤلات لدى المراقبين والمهتمين والقلقين من الاوضاع الاقتصادية شديدة التأزم فىمصر، وقبلهم جميعا لدى المواطن المصري الغلبان والحيران بين الدولة وبين القطاع الخاص.
التساؤل الاول يتعلق بالغموض الشديد الذي يحيط ويكتنف كل ما يدور حولنا من سياسات وصفقات واتفاقاتاقتصادية.
· فكل هذا يدور فى الكواليس والغرف المغلقة، فى سرية بالغة لا يصل الينا من حقيقتها الا قليلا.
· وتخرج التصريحات الرسمية وكأنها مكتوبة ومصاغة بشفرة سرية لا يفهمها ويفك طلاسمها الا المتعاقدين أوالمتواطئين.
· والسرية قد تكون مطلوبة فى الامور والمسائل التى تتعلق بقضايا الامن القومى.
· ولكنها يجب ان تكون سرية وطنية في مواجهة الجهات الاجنبية المعادية والمتربصة.
· وليست سرية مع هذه الجهات فى مواجهة الشعوب.
· خاصة وقد دأبت مؤسسات الدولة على اتهامها ليل نهار بالتآمر على الدولة من اجل اسقاطها، واتهام كل منيعارضها بانه من العملاء لهذه الجهات الاجنبية!
والتساؤل الثانى:
1) إذا كانت أصول الدولة هي ملكية عامة، فهل يجوز التصرف فيها بدون العودة والاحتكام الي الشعب الذى يملكها، منخلال مؤسساته “المستقلة” من برلمان ونقابات واحزاب سياسية ومنظمات اهلية ومراكز بحثية ومنابر اعلامية وغيرها(ان وجدت)؟
2) ووفقا لأي معايير وطنية واستراتيجية واقتصادية واجتماعية يتم تصنيف واختيار الاصول المزمع بيعها والتخلصمنها او الاحتفاظ بها؟
3) وما هو الدافع الحقيقى للبيع؟ هل هو المصلحة الوطنية والجدوى الاقتصادية؟ أم لأنها تعليمات الدائنين وصندوقنقدهم الدولي بسبب افلاسنا والعجز عن سداد ديوننا؟
4) وفى هذه الحالة، من هم المسئولون عن هذه الأزمة وعن اغراقنا فى هذا الحجم من الديون الخارجية والداخلية وعنالعجز عن السداد وتدهور قيمة العملة وزيادة التضخم والارتفاع الهائل فى الاسعار وتآكل الاحتياطي النقدي من الدولار؟
5) وما هي الضمانات بأنهم لن يتسببوا في افلاسنا مرة ومرات اخرى، لنجد أنفسا في دوامة جديدة وقروض وشروطجديدة وبيوع جديدة للأصول والمقدرات؟
6) وما هي شروط ومواصفات من له الحق في الشراء؟ وهل هم من المصريين ام الاجانب؟
7) وان كان المشترى مصريا، فهل سيكون له الحق في بيعها لاحقا للأجانب كما حدث من قبل؟ وما هى ضمانات حمايةالأمن القومى فى مواجهة أى اختراقات أو استحواذات أجنبية معادية محتملة؟
8) وما هى درجة استقلالية القرار الوطنى فى قبول او رفض الضغوط والاملاءات الدولية لبيع الاصول المصرية، وفىقبول او رفض هوية المشترى؟
***
ثالثا ـ ثم عن مسألة قيادة القطاع الخاص للاقتصاد المصرى:
· ان الرهان على القطاع الخاص كان هو التوجه والسياسة الرسمية فى مصر منذ صدور قانون الانفتاح الاقتصاديعام 1974، وفقا لتوجيهات وتعليمات ومصالح النظام الراسمالى العالمى بقيادة الولايات المتحدة، وهو ما تم فى إطارعملية اعادة بناء مصر (أخرى) بعد حرب 1973، على مقاس المصالح الأمريكية وأمن (اسرائيل)؛ مصر كامب ديفيد التابعةالمطبعة المديونة المنهوبة من رؤوس الاموال الاجنبية ووكلائها المحليين.
· فماذا فعل لنا وبنا؟ وما هو كشف الحساب الختامي لأربعين عاما من اعطاء راية القيادة لرؤوس الاموال المصريةوالاجنبية؟ والى ماذا اوصلتنا؟
· ان رأس المال يبحث عن الربح، والربح فقط، ولا يعنيه من قريب أو بعيد أسس وأهداف التنمية الوطنية المستقلة أوالاحتياجات الشعبية والاجتماعية أو المشروعات الاقتصادية التى لها الاولوية فى خطط الانتاج وفقا لظروف وطبيعةالدولة الذي يستثمر فيها ودرجة تطورها، وانما يعنيه فقط المشروعات التى تحقق له اكبر عائد فى أقصر وقت.
· كما أن رؤوس الاموال المحلية فى البلاد مثل بلادنا غالبا ما تختار ان تكون وكيلة لرؤوس الاموال الاجنبية فىاسواقنا على أن تؤسس وتبنى صناعات منافسة للمنتجات الاجنبية، وهو ما يجعل منها قطاعا خاصا تابعا وغيروطنى.
· ولهذه الاسباب ومن واقع تجربتنا التاريخية معه ايضا، فانه من الخطر ان نسلم قيادة اقتصادنا الوطنى فى مصراو فى الى بلد نامى الى هذا القطاع الخاص التابع والوكيل فى معظمه لرأس المال الاجنبى.
· ولذلك تكون الدولة دائما هى الجهة الأضمن والاكثر أمانا من القطاع الخاص ورجال الأعمال ورؤوس الاموال المحليةوالمستثمرين الاجانب (سمهم ما شئت) فى القيادة والتوجيه والتخطيط لعملية التنمية وتوظيف كل الموارد والامكانياتالبشرية والموارد المادية والمالية لادارة وتنفيذ خطة مدروسة ومحددة للانتاج والتنمية والتطوير والنهوض.
· وهنا يأتى الوجه الآخر للمعضلة المصرية المستعصية وهو “طبيعة ومواصفات وتوجهات الدولة التى يمكنها انتقوم بهذ الدور”.
· فيجب أن تكون دولة وطنية مستقلة وليست تابعة، نزيهة وأمينة وليست فاسدة، ديمقراطية وليست مستبدة، منحازةلغالبية الشعب وليس لاقلية من الاغنياء وكبار رجال الدولة، تقودها قيادات منتخبة يمكن محاسبتها وعزلها واستبدالهاان فشلت او اخطئت او انحرفت، وتدير خططها ومؤسساتها الاقتصادية كوادر وطنية كفؤة ومتخصصة ومنتجة وليستبيروقراطية وهكذا.
· وكلها مواصفات غائبة فى الدولة المصرية وفى الغالبية العظمى من الدول العربية فى العقود الماضية، بل أن الدولةفى بلادنا اليوم قد تفوقت على القطاع الخاص من رؤوس أموال الاجنبية ومحلية فى استنزاف المواطن واستغلالهوافقاره واذلاله على كافة المستويات الاقتصادية والمعيشية والسياسية؟
· فما العمل؟ وأين المفر؟
· أتصور انه اذا كان قدرنا اليوم ومنذ سنوات طويلة أن شعوبنا تعانى من وطأة الفساد والتبعية والطبقية والافقاروالاستغلال والاستبداد فى الدول والانظمة التى تحكمها، فان الحل ليس فى بيع أصولهم وممتلكاتهم العامة التىصنعوها وراكموها على امتداد اجيال، وانما الحل الوحيد هو النضال من أجل اصلاح الدولة وتحريرها وتطهيرهاوترشيدها، وهو طريق شاق وطويل ومحفوف بالصراعات والتحديات والتضحيات، ولكن البديل عنه هو الضياع.
محمد سيف الدولة