يأتي اعتماد حضرة صاحب الجلالة السُّلطان هيثم بن طارق المعظم ـ حفظه الله ورعاه ـ الاستراتيجية الوطنية لمكافحة المخدرات والمؤثرات العقلية بسلطنة عُمان للأعوام 2023 – 2028م، لتمثل انطلاقة جادة للجهات المعنية باتخاذ الإجراءات اللازمة ووسائل الردع الضروريةللحدِّ من هذه الظاهرة نظرًا لآثارها السلبية (صحيًّا واجتماعيًّا واقتصاديًّا وأمنيًّا)؛ وبالتالي جملة الدلالات التي تحملها توجيهات جلالةالسُّلطان المعظم في استشعار وطني لهاجس الخطر المترتب على انتشار ظاهرة المخدرات في المجتمع العُماني وآثارها السلبية على حياةالفرد والمجتمع، ناهيك عن الآثار الاقتصادية والاجتماعية والصحية والأمنية الناتجة عنها، وما يعنيه ذلك من التزام مسار التكاملية في العملالوطني الموجَّه نحو مكافحة هذه الظاهرة، خصوصا في ظل ما تشير إليه إحصائيات السجل الوطني للإدمان لعام 2021 من أن استهلالكالمواد الأفيونية والقنب الأعلى استخداما في المواد المخدرة، حيث جاءت في المرتبة الأولى (75%) ثم القنب في المرتبة الثانية (58%)وتعاطي الكحول في المرتبة الثالثة (55%) والمهدئات في المرتبة الرابعة (32%) والمنشطات في المرتبة الخامسة (31%)، كما لم تكن هناكفروق في تناول المؤثرات العقلية الأخرى إلا ما يظهر من ارتفاع معدلات استخدام المنشطات بأنواعها مثل مخدر الكريستال ميث من 8% إلى 31% في السنوات من 2019- 2021. وتشير إحصائيات المركز الوطني للإحصاء والمعلومات إلى أن عدد جرائم المخدرات التي تمارتكابها في عام 2020 بلغت 1,376 جريمة، وبحسب التوزيع الجغرافي لها، فقد شكلت محافظة مسقط المرتبة الأولى وبلغت ما نسبته(43%) تليها محافظة ظفار (14%)، وبلغت جرائم المؤثرات العقلية الأخرى مثل السكر والخمور (428) جريمة تم تسجيلها عام2020 متحت هذا التصنيف (جرائم السكر58% بواقع 246 حالة، وجرائم تهريب الخمر والمتاجرة به 42% بواقع 181 حالة). ومن حيث التوزيعالنسبي لعدد الجناة ففي جرائم المخدرات بلغت نسبة الجناة العُمانيين (17.6%) والوافدين (5.9%) وأما بشأن جرائم السكر والخمور فقدبلغة نسبة الجناة من العُمانيين (3.4%)، وترتفع عند الجناة الوافدين حيث بلغت (4%)، وحسب ما طرحته إحدى الصحف المحلية في تقريرلها حول الموضوع في عددها بتاريخ 30 مايو 2022 من أن مستشفى المسرة عالج ما يقارب من 2945 حالة إدمان من عام 2017 وحتىنهاية عام 2021، وهي حالات لا تعكس الواقع المتزايد للمخدرات، إذ إن هذه الأعداد فقط لحالات الرعاية والعلاج الطبي.
من هنا يُمثِّل اعتماد الاستراتيجية الوطنية لمكافحة المخدرات والمؤثرات العقلية للأعوام (2032- 2028) محطة جديدة في العمل الوطنيالمؤطر والمنظم والموجَّه في مكافحة المخدرات وتحقيق رؤية سلطنة عُمان نحو تحقيق مجتمع آمن من خطر المخدرات والمؤثرات العقلية، فإنالمتتبع لمرتكزات عمل الاستراتيجية الوطنية لمكافحة المخدرات والمؤثرات العقلية بسلطنة عُمان، بدءا من الرؤية والرسالة والأهداف الاستراتيجيةالأربعة التي طرحتها والتي اتجهت نحو تعزيز وتطوير القدرة الوطنية العُمانية في مجالات الوقاية والتوعية، والعلاج والتأهيل وإعادة الدمج،والمكافحة، والرصد والدراسات، بالإضافة إلى ما أطَّرته من برامج عملية تتناغم مع الأهداف الاستراتيجية وتجسيدها في الواقع، وما طرحتهفي سبيل تحقيق هذه البرامج من سياسات وممكنات وموجهات بلغت 26 سياسة، تُمثِّل خيارات داعمة للانطلاقة منها لتحسين جودة هذهالبرامج في ظل معطيات عمليات التشخيص والتحليل والمراجعة والتقييم، وتقديم مؤشرات أكثر وضوحا وابتكارية ومهنية تسهم في رفدالمؤسسات ولجان العمل ومراكز التنفيذ، بالمعلومات والقدرات والإحصائيات والمؤشرات والبيانات التي تتيح لها فرصا أكبر في التوسع فيالعمليات التصحيحية والتوعوية والتثقيفية والعلاجية والتكتيكية الموجهة نحو التعامل مع هذه الظاهرة، هذا الأمر يأتي في ظل منحى النوعيةللوسائل والأدوات الحديثة والمبتكرة في ظل ما طرحته من بيئات مؤسسية وتنظيمية وتشريعية وتواصلية واتصالية وتدريبية وإعلامية وشراكاتعملية لتحقيق الأولوية الوطنية المرتبطة بتجفيف وتقليل حجم العرض والطلب للمخدرات والمؤثرات العقلية.
وعليه، يمكن قراءة أبعاد ملامح هذه الاستراتيجية في الآتي:
أولا: البُعد الشمولي، حيث تراعي الاستراتيجية مبدأ الشمول والاتساع والواقعية في تعاطيها مع ظاهرة المخدرات وفق معالجة دقيقة تراعيطبيعة المستهدفين ومراحلهم العمرية وتتجه لتنويع أسلوب الخطاب الديني والاجتماعي والأسري والتربوي والإعلامي الرسمي وتنوعه وتعددمنصَّاته، بما يضمن تحقيق مستويات عالية من الاستجابة من قبل المستهدفين، والتزامهم بتنفيذ مقتضيات الأوامر والتوجيهات والإجراءات،وفق أُسس وموجهات عمل قائمة على التخطيط والتنسيق وحُسن الإدارة والتنظيم.
ثانيا: البُعد التكاملي في الأداء، تعكس مكوِّنات الاستراتيجية صورة نموذجية وطنية في مكافحة المخدرات، في تكامل الأداء وتقاسمالمسؤوليات، وتأصيل ثقافة العقل الجمعي والمسؤولية المشتركة ذلك أن مكافحة المخدرات وغيرها من الظواهر المجتمعية لا تقتصر على شرطةعُمان السلطانية فحسب، بل هي مسؤولية مجتمعية في ظل المهام والاختصاصات والسلم الاجتماعي للفرد، وتتفاعل خلالها كل الدوائر ذاتالعلاقة داخل المؤسسات وخارجها باعتبارها نتاج جهد وطني تتشارك فيه مرئيات الجميع في تمكين الممارسة السليمة وتبنيها، لذلك تفرضالاستراتيجية في سياساتها مفهوما أعمق في مسؤولية تكامل الأدوار ووحدة منهجيات العمل ووضوح طريقة الأداء مع قبول التباين فيطبيعة المحتوى، وكيفية تنفيذ الأسلوب.
ثالثا: البُعد الوقائي، أعطت الاستراتيجية مسألة التوعية والوقاية حضورًا مُهمًّا في عملها باعتباره خيارًا استراتيجيًّا، يؤسس لمدخلات التأثيروالاحتواء وصناعة البدائل من خلال كفاءة الرأسمال البشري الاجتماعي، ومنهجيات العمل والخطط والاستراتيجيات كلما استطاعت أنتلامس نواتجها الواقع، كما راعت الاستراتيجية في تنفيذ برامجها التوعوية سياسة التنوع، بحسب تنوع المهام والاختصاصات والوظائف منجهة، والتنوع الحاصل في طبيعة المخاطبين أنفسهم، وتعدد احتياجاتهم، مراعية في ذلك كل المتغيرات المؤثرة في سلوك المستهدفين النفسيةوالاجتماعية والاقتصادية والخبرات والمراحل العمرية والسلوك الاجتماعي والثقافة التي يمتلكها الفرد والمصادر التي يتلقى من خلالها ثقافتهاليومية، وطبيعة المحتوى ذاته، والهدف المقصود المراد تحقيقه من التوعية الحاصلة، ورصدا مستمرا لمؤشرات النجاح الحاصلة بها.
رابعا: البُعد الاستراتيجي، وذلك بتأكيدها على بناء القدرة الوطنية في تهيئة العاملين في هذا القطاع وتدريبهم وتأهيلهم وصقل مهاراتهموتعزيز بنيتهم المعرفية والأدائية، وإكسابهم ثقافة مهنية واسعة داعمة لتحقيق هذه الأهداف والوصول إلى الرؤية الوطنية من هذا العمل، بمامن شأنه إعادة إنتاج الخبرة ورفع درجة التأثير والاحتواء والحدس بالتوقعات، وامتلاك حس الفراسة في رصد تجليات الواقع، بالإضافة إلىامتلاك السيناريوهات وإنتاج الحلول وتقييم البدائل وغيرها في إطار الشفافية والمصداقية والموضوعية في الطرح، وما يصاحبها من تحليلوإبداء الرأي وقبول الرأي الآخر.
خامسا: البُعد التواصلي والتفاعلي، تضع الاستراتيجية التطورات التقنية كخيار استراتيجي في صناعة الفارق وتحقيق الأهداف بدرجةعالية من الدقة، ذلك أن نهج التفاعل مع الحدث سوف يعزز من معيار ثقة الفرد فيما تطرحه الاستراتيجية من خيارات وبدائل ومبادرات،وبالتالي فإن الجهد النوعي الذي أسسته الاستراتيجية القائم على تطوير المواقع الإلكترونية وبرامج التواصل الاجتماعي المعنية بالإرشادوالتوعية عن ظاهرة المخدرات، وتأسيس وحدة للإنتاج الإعلامي لبرامج التوعية والوقاية من المخدرات والمؤثرات العقلية محطَّة نوعية في نقلالصورة الواقعية للسلوك اليومي المجتمعي حول المخدرات من خلال الإعلام بمختلف أنواعه، وتوظيف منصَّات التواصل الاجتماعي والإعلامالرقمي في تحسين جودة العمل الموجَّه نحو مكافحة هذه الظاهرة.
سادسا: البُعد التقييمي، أعطت الاستراتيجية مسار المتابعة والمراجعة والتحسين أهمية كبيرة لبلوغ الجودة والتحسين، فالهدف الاستراتيجيالمتعلق بتطوير القدرة الوطنية في الرصد والدراسات، سواء من خلال إنتاج بحوث علمية في مجال مكافحة المخدرات والمؤثرات العقلية، أوتطوير القدرة الوطنية في إنتاج ونشر المعرفة حول المخدرات والمؤثرات العقلية، سوف يضمن توجيه المراكز العلمية والبحثية المتخصصة فيالجامعات والمختبرات الطبية المركزية المتخصصة في المستشفيات، ومراكز الابتكار الصناعي بالمؤسسات وحُسن توظيفها والاستثمار فيها،وتعزيز الكفاءة الوطنية بها في دراسة وإنتاج مستلزمات وحلول واقعية في مكافحة ظاهرة المخدرات.
سابعا: البُعد الاستباقي، تضع الاستراتيجية لمفهوم المبادأة والمبادرة حضورًا مُهمًّا في فلسفة بناء القدرة الوطنية، فمن خلال عمليات التنبؤ والرصد والاستشراف والاستشعار التي تقوم بها الجهات المشمولة بالمسؤولية، سوف تقدم برامج استباقية نوعية، ترسخ لثقافة الاستجابة الذاتية والتغيير المانعة من وقوع الفرد في مشكلة المخدرات، واستشعار الفرد لمسؤولياته وواجباته في تدارك خطر المخدرات والمؤثرات العقلية يضعه في موقف إدارة واقعه اليومي وظروفه بكل مهنية، وفي إطار من الإيجابية والوعي بما يصلحه ويصلح الآخرين، فيضبط سلوكه وممارساته بضابط الوعي والحس الوطني ومنظومة الأخلاقيات وصحوة الضمير، ليصنع من نفسه القدوة والنموذج.
أخيرا.. تؤصل قواعد عمل الاستراتيجية، لسلوك الاستدامة القائم على الابتكارية والتحديث والاستفادة من معطيات الواقع والإحصائيات والمؤشرات، وخلق سلوك التغيير في المخاطبين والشركاء الفاعلين في المسؤولية، وتعزيز مسار الثقة بين الجهات الأمنية ممثلة في الإدارة العامة لمكافحة المخدرات والمؤثرات العقلية بشُرطة عُمان السُّلطانية التي أوكلت إليها مسؤولية تنفيذ ومتابعة الهدف الاستراتيجي الثالث الخاص بتطوير القدرة الوطنية في مجال المكافحة، والمواطن الذي تقع عليه مسؤولية الاستجابة الواعية للأطر الوطنية والمحافظة على استدامتها حاضرة في فكره وسلوكه للحيلولة دون التصاق هذه الظاهرة به، كمروِّج للمخدرات أو متعاطٍ لها أو متاجر بها، بالشكل الذي ينعكس على استدامة التأثير لهذه البرامج على سلوك المخاطبين؛ ويبقى تأثير هذه الجهود والبصمة التي تتركها في قدرتها على إعادة دمج واحتواء هذه الفئة في المجتمع بعد اكتمال العلاج والتأهيل لها، وثبات تعافيها وخروجها من دائرة الإدمان.
د.رجب بن علي العويسي