اتَّخذت فلسفة الأمن في سلطنة عُمان منحى عصريا متوازنا، يتناغم مع إنسانية الأمن والحياة، القائم على إدماج مفاهيم الأمن وقواعده ومرتكزاته ومصادره وبرامجه في برامج التنمية الوطنية ورؤية عُمان 2040، حيث تتجه للإنسان بكُلِّ ظروفه والعوامل المؤثِّرة فيه، مراعية حاجاته وأولوياته واهتماماته، ويتفاعل مع حياة الإنسان في أبعادها النفسية والاجتماعية والفكرية والسلوكية والأخلاقية والغذائية والجسمية والصحية وغيرها. لذلك جاءت المبادئ الأمنية في النظام الأساسي للدولة ترجمة عملية لبناء وطن آمن مستقر، وإنتاج حياة آمنة مطمئنة تنعكس نواتجها على استقرار المواطن المعيشي وأمنه على نفسه وماله وحياته، وقدرته على ممارسة عاداته اليومية السليمة بأريحية واطمئنان، كما عملت منظومة الأمن على ضمان المحافظة على الثوابت العُمانية، وصون النسيج الاجتماعي الوطني، والحفاظ على الأسرة، والتثمير في الموارد الأخلاقية والأرصدة النوعية التي عرفت بها سلطنة عُمان وارتبطت بالشخصية العُمانية، وتأصَّلت في قواعد الدولة وتشريعاتها، مثل التسامح والتعددية والحوار والانتماء والهُويَّة والقِيَم والسلام، بل سَعَتْ سلطنة عُمان ومن خلال منظوماتها السياسية والتعاون الدولي والميزة التنافسية للموقع الجيوسياسي إلى التوجُّه نحو تعزيز اقتصاد الأمن ليُسهم بدوره في التنمية الوطنية، الأمر الذي كان له أثره الإيجابي على استمرار حصول سلطنة عُمان على أفضل مستويات الأمان عالميا.
ومنذ إصدار أول تقرير للمؤشر العالمي في الإرهاب في عام 2012، وعُمان تتصدر قائمة الدول الأقل تضررا من الهجمات الإرهابية وتحقيقها لدرجة عالية من استدامة الأمن والأمان والابتكارية فيه، حيث جاء تصنيف سلطنة عُمان كأقل دولة في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا تعرضًا للهجمات الإرهابية وفقًا لتقرير معهد الاقتصاد والسلام بأستراليا في سنواته المتتالية، والذي انعكس ذلك بدوره على نتيجة السلطنة في مؤشر تكلفة الجريمة المنظمة على الأعمال التجارية، ومؤشر موثوقية خدمات الشرطة، لتستمر نتائج هذا الاستحقاق العالمي لسلطنة عُمان فيما أفصح عنه المؤشر السنوي لقاعدة البيانات العالمية “نامبيو”، والذي جاء فيه تصنيف سلطنة عُمان كرابع أكثر الدول أمانًا والخامس في الخلو من الجريمة على مستوى دول العالم، حيث حصلت فيه سلطنة عُمان على (3.80) نقطة في مستوى الأمان و(7.19) في معدل انتشار الجريمة، استحقاقا عُمانيا عالميا في بناء منظومة الأمن والأمان والسلام والوئام، وجهودها الأصيلة في بناء مجتمع عُمان الأمن وترسيخها لمفاهيم الأمن وأبجدياته وتعميقها لأرضيات نجاحه في حياة الأُمَّة العُمانية وسلامها الداخلي وفي سياساتها الخارجية، بفضل الاستقرار السياسي والأمني الذي تتمتع به السلطنة، وكفاءة وفاعلية السياسات الوطنية الداعمة لتحقيق أعلى درجات الأمان الوطني والتناغم الحاصل بين منظومة الأمن والتنمية.
إن قراءة معمَّقة لاستحقاقات الأمان عالميا، يعود بنا إلى ركيزتين أساسيتين نعتقد بأنهما تمثلان جذورا ممتدة لصناعة الأمن في سلطنة عُمان وتعزيز مواقفها الإيجابية وموقعها المؤثر والفاعل في السياسة الدولية، ونهجها الذي التزمته في الحفاظ على الكيان الحضاري العالمي، وتعظيم المشتركات القِيَمية والمؤتلفات الإنسانية، وهما: الثوابت العُمانية في الداخل والخارج، والوعي والاتزان الفكري للمواطن؛ فمن جهة ارتبطت السياسة العُمانية في الخارج بمنهج التوازن والحيادية والمصداقية والثبات، وتعاملها مع معطيات الواقع الدولي ومجريات الأحداث الإقليمية والعربية والخليجية، القائمة على مبادئ الحق والعدل والمساواة، وعدم التدخل في الشؤون الداخلية للغير، وحق الشعوب في تقرير مصيرها، وحل القضايا بين دول العالم وبلدانه بالطرق السلمية، ونهج الحوار في التعامل مع الاختلاف، والسلام العادل المتكافئ الذي يحفظ السيادة الوطنية وهُويَّة الشعوب والحفاظ على مرتكزاتها الوطنية، وفض النزاعات بالطرق السليمة وتبنِّي سياسات داعمة للسلام العالمي والتكامل الإنساني، فاكتسبت هذه السياسة الحكيمة ثقة المواطن فيها وشعوره بما تقدمه له من فرص العيش الكريم والأمن والأمان والاحترام والتقدير، ومن جهة أخرى كان للسياسة الداخلية التي التزمت بها سلطنة عُمان في شمولية برامج التنمية الوطنية واستيعابها لكل الأرض العُمانية دون استثناء، وتعظيم الوحدة الوطنية والولاء للوطن وجلالة السلطان، وتعميق لغة التسامح والتعايش والوئام والحوار والانسجام في الخطاب الوطني والممارسة بين أبناء الوطن الواحد، باعتبارها مفردات عُمانية أصيلة ومرتكزات ارتبطت بهُويَّة الإنسان العُماني والقِيَم والأخلاق والمبادئ العُمانية، كان لها أثرها في الانطلاقة التنموية لسلطنة عُمان لأكثر من خمسة عقود مضت وتحقيقها لتنمية مستدامة شاملة في كل المجالات.
لقد أثمرت هذه الصورة النموذجية في السياسة الداخلية والخارجية العُمانية في تأصيل الشعور الإيجابي لدى المواطن وضعته أمام مجريات التنمية الوطنية، فهو أولويتها وهدفها وغايتها، وهو أساس نجاحها ومسار تقدمها ونموها، الأمر الذي أسهم في بناء شخصية المواطن العُماني وتمكينه وتعظيم الفرص التعليمية والتدريبية والتنموية، وتوجيهها نحو الولاء للوطن وجلالة السلطان، والسلام الداخلي، والتصالح الذاتي والمحافظة على الحقوق وسيادة القانون والقضاء والعدالة الاجتماعية وتكافؤ الفرص، ووحدة المبدأ والمصير، وفق سياسات وطنية متوازنة حافظت على درجة الأمان والسلامة للمواطن وإبعاده عن المخاطر، ظهرت تجليات ذلك في التعامل مع الأنواء المناخية والحالات المدارية، والإجراءات الاحترازية والتدابير الوقائية التي اتخذتها سلطنة عُمان في التعامل مع جائحة كورونا (كوفيد19)، وهي تمضي اليوم بأفق أوسع نحو رفع درجة الحماية الاجتماعية للمواطن وفق تشريعات منظمة، وأطر وإجراءات دقيقة تضمن لها الاستدامة والتنوع والتوسع في الخيارات، وتعطي مساحة للمواطن للابتكارية والإبداع والتجديد لضمان استمرار العطاء لديه، ورفع الحس الأمني في تعامله مع المستجدات الحاصلة في الواقع الاجتماعي وما فرضته التداعيات الاقتصادية والاجتماعية والتقنية من تحوُّلات.
وكان لهذه التوازنات في مجريات الحياة السياسة والاجتماعية أثرها في رفع درجات الوعي لدى المواطن الذي حفظ مكتسبات النهضة وحافظ على حضور القِيَم والأخلاق والهُويَّة العُمانية في كل مواقع العمل والمسؤولية، وأدرك المواطن العُماني الذي يعيش كغيره في عالم كوني واسع، ما تمثِّله التحدِّيات الفكرية من حضور في أحداث العالم المعاصر وقضاياه، والتي تستنزف موارد الأوطان وثرواتها، وتأثيرها على أمن واستقرار المجتمع وصحة وسلامة الإنسان النفسية والفكرية، لذلك أصبح دور المواطن أصيلا في المحافظة على الأمن والأمان في سلطنة عُمان، للقناعة بأنه كلما قوي الوعي الفكري للمواطن والتصق بالثوابت الوطنية أسهم ذلك في الحفاظ على المقدرات الوطنية والتزم الثوابت العُمانية المعززة لقيم المواطنة والولاء والانتماء، نظرا لما يؤسسه الوعي الفكري من قوة معرفية ومنهجية وتحليلية يستطيع من خلالها المواطن أن يحدد أدواره ويقف على مسؤولياته، ويمتلك القدرات والاستعدادات التي تؤهله نحو إعادة إنتاج واقعه ورسم خريطة مستقبله، فيعرف حقوقه ويدرك واجباته، ويحترم أفراده التزاماتهم الشخصية في إطار من التشريعات والقوانين والأنظمة، وبرامج التعليم والتدريب، والاستراتيجيات الوقائية والعلاجية التي تسعى في جملتها إلى رفع درجة الحس الأمني وخلق وعي مجتمعي عام حول القضايا التي باتت تؤثر سلبا على حياة المواطن الصحية والبيئية والقانونية والأمنية.
كما شكَّلت التحوُّلات الاقتصادية والاجتماعية والظواهر الفكرية التي بات يعيشها المواطن العُماني الناتجة عن ارتفاع سقف استخدام التقنية واتساعها وعمق تأثيرها في حياة المواطن، وزيادة تأثير المتغيرات الفكرية والاقتصادية والاجتماعية على حياة الفرد، في صناعة أهمية كبرى للوعي الفكري للمواطن وقدرته على تجاوز الإشاعة والظواهر الفكرية السلبية والحركات التحريضية وتحدِّيات الأمن الاجتماعي كالمخدرات والجرائم والانحراف العكسي لسلوك الشباب وما يستهدفه في هُويَّته ودِينه وعقيدته وقِيَمه وأخلاقياته وقناعاته، وما يُثار أو يُفتعل من قضايا حول مواقفه وسياساته الوطنية، والتعامل مع التحدِّيات الاقتصادية الناتجة عن الاحتيال الإلكتروني وجرائم تقنية المعلومات والابتزاز الإلكتروني، وغيرها، أو كذلك التعقيدات التي باتت تطرحها الإجراءات الاقتصادية وارتفاع الأسعار وغلاء المعيشة واتساع دور مشاهير الدعاية والإعلانات التجارية وتأثيرها في ظل فراغ الضوابط على الهُويَّة الوطنية وقِيَم المجتمع وأخلاقيات الإنسان، وتراجع تأثير الضبط الاجتماعي لمؤسسات التنشئة والتعليم والأسرة والإعلام وغيرها، كل ذلك وغيره عزز من وعي المواطن بما يفرضه عليه الواقع من مسؤوليات، ويقف عند حدوده من التزامات وموجهات، انعكست على مشاركته الأمنية وفاعليته في صناعة الأمن الوطني.
وتبقى سياسات التناغم والتكامل الوطني بين المؤسسات الأمنية والعسكرية والمدنية ودخول المواطن كعنصر مهم في خطوط التأثير ومحطات الإنتاج، وما انتهجته شرطة عُمان السلطانية بالتعاون مع الجهات المعنية في صون الأمن والحفاظ على النظام العام وحماية الأرواح والممتلكات ومنع ومكافحة الجريمة بمختلف أنواعها وأشكالها الحلقة الأقوى في معادلة الاستدامة الأمنية والجاهزية الأمان، في ظل سياسات تطويرية وقائية وعلاجية فاعلة، اكتسبت صفة الاستمرارية والنضج والكفاءة في أداء دورها، سواء في الحدِّ من الجرائم والتي أظهر تقارير المركز الوطني للإحصاء والمعلومات أنها تتجه إلى الانخفاض في السنوات الأخيرة، أو السياسات التي ارتبط بتفعيل مبدأ الشراكة المجتمعية الأمنية بما يضمن وحدة أساليب المواجهة وآليَّات التعامل مع الواقع الأمني فيما يتعلق بالجرائم العامة والمخدرات والمؤثرات العقلية أو الأمن المروري والسلامة على الطريق أو في كل ما يضمن المحافظة على الأخلاق والأدب العامة، كما يتعلق أيضا بالخدمة الأمنية والشرطية ذاتها ومستوى الجاهزية التي تتميز بها، ودخول الخدمة الإلكترونية في العمل الشُّرطي بشكلٍ فاعل ضمن له سرعة الإنجاز والدقة ودرجة الموثوقية التي تحققت لها محطَّات شكَّلت جذورا ممتدة لاستحقاقات عُمان في مؤشرات الأمان العالمي.
د.رجب بن علي العويسي