ممّا قيل وتنوقل كثيرًا إنه في عام 1920، وبعد الانتداب البريطاني في فلسطين ودخول القوات الفرنسية دمشق، توجّه الجنرال هنري غورو قائد القوات الفرنسية في الحرب العالمية الأولى، نحو ضريح صلاح الدين الأيوبي قائد معركة حطين، التي أنهت الحروب الصليبية ضد المسلمين وقال: «يا صلاح الدين.. أنت قلتَ لنا إبان حروبك الصليبية: إنكم خرجتُم من الشرق ولن تعودوا إليه.. وها نحن عُدنا، فانهض لترانا في سوريا». سواء كانت زيارة الجنرال غورو لقبر صلاح الدين وكلامه له حقيقة أم خيالا، إلا أنّ الواقعة – كما رويت – لها مغزاها. وقد خطرَت ببالي، وأنا أقرأ تصريحات إيلي كوهين وزير الخارجية الإسرائيلي بعد زيارته للخرطوم يوم الخميس 2 فبراير 2023، ومفاوضاته العلنية مع المسؤولين السودانيين؛ وهي العاصمة التي سبق لها أن استضافت قمة عربية عُرفت بقمة «اللاءات الثلاثة»، وذلك في 29 أغسطس 1967، حيث خرجت القمة بإصرار على التمسك بالثوابت من خلال لاءات ثلاث، وردت في الفقرة الثالثة من البيان الختامي على النحو التالي: «لا سلام مع إسرائيل.. لا اعتراف بإسرائيل.. لا مفاوضات مع إسرائيل»، ورغم الهزيمة الساحقة التي لحقت بالعرب في حرب 67، لكن الإرادة العربية لم تنكسر، وكانت اللاءات الثلاث خير دليل.
لم يخف إيلي كوهين فرحته – أو لنقل شماتته بالعرب -، فبعد عودته من العاصمة السودانية، قال إنّ «الخرطوم هي المكان الذي منه قرّرت الدول العربية اللاءات الثلاث التاريخية، ونحن نبني مع السودانيين واقعًا جديدًا تتحوّل فيه اللاءات الثلاثة إلى «نعم» لمفاوضات بين إسرائيل والسودان». وفي الواقع كان كوهين يعيد ما سبق أن عبّر عنه جاريد كوشنير كبير مستشاري الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب في تصريحات لقناة «فوكس نيوز» الأمريكية بقوله في أكتوبر 2020، «نعم الثالثة جاءت من السودان»، باعتبار السودان كان الدولة الثالثة التي وافقت على التطبيع مع الكيان الصهيوني. ورأى كوشنير «أنّ أهمية التطبيع مع السودان تأتي لكون العاصمة السودانية هي التي شهدت قمة «اللاءات الثلاث» والآن أصبحت ثالث عاصمة عربية توّقع اتفاقًا مع إسرائيل خلال الأشهر الماضية بعد أبو ظبي والمنامة»؛ وهذه التصريحات جاءت لتجدّد ما ذكره بنيامين نتنياهو رئيس الوزراء الإسرائيلي بعد توقيع الاتفاق، عندما أعلن أنه «في الخرطوم قال العرب (اللاءات الثلاث)، واليوم الخرطوم تقول نعم للسلام مع إسرائيل، نعم للاعتراف بإسرائيل، ونعم للتطبيع مع إسرائيل». والذي يظهر من هذه التصريحات هو ليس الفرح بالسودان لأنه طبّع مع الكيان الصهيوني، وإنما لأنّ تطبيع الخرطوم هو كسرٌ لللاءات الثلاث التي جاءت عقب هزيمة 67، التي اعتقد الصهاينة أنّ العرب سيستسلمون بعدها، إذ قال الجنرال موشيه دايان وزير الحرب الإسرائيلي حينها: إنه لم ينم ليلتها، فقد بقي بجوار الهاتف طوال الليل ينتظر اتصالا من عبد الناصر يعلن فيه الاستسلام، بل قال أكثر من ذلك حين اعتبر أنّ الحرب كلها من أجل إسقاط عبد الناصر.
يعتقدُ المسؤولون السودانيون، أنّ توجههم إلى إقامة العلاقات مع الكيان الصهيوني، سيحل مشاكل السودان كلها الاقتصادية وغيرها، وسيقرّبهم من واشنطن، وهو تصوّر خاطئ؛ فالمسؤولون في أيّ مكان في العالم، إذا فشلوا في تنمية بلدانهم – وفيها من الخيرات ما فيها – فلن تأتي إسرائيل لتحل مشاكلهم، ولا يجب أن يفوت المسؤولون السودانيون أنّ مصر والأردن لم تستفيدا شيئًا بعد هذه السنين من التطبيع، وأنهما في وضع اقتصادي صعب جدا. ثم إنّ الدور الإسرائيلي في تفتيت السودان معروفٌ وليس مخفيًا؛ فقد دعمت إسرائيل الحركة المسلحة في جنوب السودان للانفصال، إذ أقنعت الجنوبيين بأنّ صراعهم ديني، وأنه يدور بين شمال عربي مسلم محتَلّ وجنوب أسود مسيحي، كما عمدوا إلى تصوير الأزمة في الجنوب السوداني على أنها حربٌ بين الحضارة العربية والحضارة الأفريقية، بهدف زعزعة الثقة بين العرب والأفارقة، وتعميق الفجوة بين الشمال والجنوب، وصولًا إلى هدف التفتيت ثم الانفصال، وهو نفس ما فعله عملاء الموساد في زنجبار قبل الانقلاب على الحُكم العُماني هناك. ولا أتصور أنّ حكّام السودان لا يعلمون الدور الإسرائيلي في تقسيم بلادهم، وما يخططونه لتفتيت السودان إلى عدة دول، فكلّ ذلك معلن عبر محاضرات رسمية لمسؤولين إسرائيليين نُشرت في وسائل الإعلام الإسرائيلية.
وفيما يتعلق بزيارة وزير خارجية الكيان للخرطوم، قرأتُ تغريدات للشيخ حمد بن جاسم بن جبر رئيس الوزراء القطري السابق، الذي غرّد في الخامس من فبراير 2023: «رأيتُ الابتسامة والفرح على وجه رئيس المجلس العسكري الانتقالي في السودان عبد الفتاح البرهان عندما استقبل الوفد الإسرائيلي الذي زار الخرطوم مؤخرًا. ومع أني لا أمانع في ذلك، فإني أتساءل ما هو ثمن هذه الحفاوة وما الفائدة التي سيجنيها السودان من هذا الانفتاح على إسرائيل»؟ ويضيف في تغريدة أخرى «لكني أعتقد أنّ الفائدة ستعود على الطرف الذي نصح السودان بإقامة علاقات مع إسرائيل، وإذا كان السودان يعتقد الآن أنّ هذه العلاقات مع إسرائيل ستقرّبه من أمريكا بناءً على نصيحة فهذه نصيحة فاشلة». وتنبع أهمية تغريدات ابن جاسم كونه ابتسم ابتسامات عريضة مع القادة الإسرائيليين في السابق أكثر من مرة وفي أكثر من مناسبة، ويبدو أنها كانت ابتسامات في الهواء فقط، فلم تستفد قطر من تلك اللقاءات والابتسامات شيئًا، رغم أنّ ظروف قطر الاقتصادية أفضل بكثير من ظروف السودان، وكذلك العلاقات القطرية الأمريكية. لم يسم الشيخ حمد الطرف الذي نصح السودان بإقامة علاقات من إسرائيل، لكنه يرى أنّ الفائدة ستعود للطرف الثالث، ونحن لا نعلم من المقصود، ولكن نعلم – علم اليقين – أنّ الكيان الصهيوني هو المستفيد وليس السودان؛ فوزيرُ الخارجية الإسرائيلي قال إنّ زيارته للسودان تضع حجر الأساس لاتفاق سلام تاريخي مع دولة عربية إسلامية ذات أهمية استراتيجية، وأنّ توقيع معاهدة السلام سيفتح الباب على مصراعيه أمام تأسيس علاقات دبلوماسية مع دول إفريقية أخرى، وتعزيز العلاقات القائمة مع الدول في هذه القارة، وأنّ العلاقات الوطيدة مع الدول الإفريقية تصب في مصلحة كافة الأطراف – حسب قوله -. وواضحٌ من هذا التصريح أنّ السودان مجرد ممر عبور فقط إلى الدول الإفريقية الأخرى. وإقامةُ العلاقات بين الكيان الإسرائيلي مع أيّ دولة عربية يُعدّ إنجازًا إضافيًا لرئيس حكومة الاحتلال بنيامين نتانياهو، لأنه استطاع اختراق هذه الدول كما يفخر بذلك دائمًا.
والموقف السوداني يشبه تمامًا موقف كلّ من قال «نخشى أن تصيبنا دائرة»، كما قال الله عزّ وجلّ في سورة المائدة {فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَىٰ أَن تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ ۚ فَعَسَى اللَّهُ أَن يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِّنْ عِندِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَىٰ مَا أَسَرُّوا فِي أَنفُسِهِمْ نَادِمِينَ}، ومن المسارعة فيهم، هو الاعتقاد أنّ عصر رخاء الشعب السوداني قد بدأ بعد التطبيع؛ فحسب تقارير إعلامية، فإنّ كوهين، قدّم لمضيفيه السودانيين، خطّة مساعدة إسرائيلية للسودان، ستركّز على «مشاريع وبناء قدرات في مجالات متنوعة»، وهو ما لم تحققه إسرائيل في أيّ مكان، ومن فشل في بناء مثل هذه المشاريع، لا يستحق أن يكون مسؤولا عن أيّ شعب في أيّ مكان العالم.
والحقيقة التي يجب أن تقال هي أنّ الشعب السوداني يرفض رفضًا قاطعًا أيّ تقارب مع العدو الصهيوني، والاتصالاتُ التي تجري حاليًا بين إسرائيل والسودان تحدُث ضد رغبة الشعب السوداني وإرادته، تمامًا مثل الشعوب العربية الأخرى التي ترفض التطبيع. ولماذا الاستعجال في خطوة كهذه قبل تسليم السلطة لحكومة مدنية منتخبة؟!
إنّ رمزية زيارة الوفد الإسرائيلي المعلنة للخرطوم، جاءت لتؤكد سقوط اللاءات الثلاث، على الأقل «من وجهة النظر الإسرائيلية»، ولكن هل فعلا سقطت تلك اللاءات؟ الجواب هو «لا»، لم تسقط طالما هناك شعبٌ يقاوم ويقدّم الشهداء يومًا بعد يوم، رغم اعتراف البعض بإسرائيل والتفاوض معها، وستبقى تلك اللاءات الثلاث ضمانًا لتعزيز الحقوق الوطنية الفلسطينية، وستبقى الهرولة إلى إسرائيل تؤكد الفجوة الكبيرة بين الحكومات العربية وشعوبها، وهي فجوةٌ تكبر يومًا بعد يوم حتى تنفجر الأوضاع، وعندها لن تنفع القبضة الأمنية ولن تنفع إسرائيل في شيء.
زاهر بن حارث المحروقي/ كاتب عماني مهتم بالشأن العربي ومؤلف كتاب «الطريق إلى القدس»