تُمثِّل رياضة كرة القدم اليوم بيئة استثمارية واعدة ومجالا خصبا للمنافسة والوصول إلى العالمية، وتعزيز الاستدامة الاقتصادية، وتحقيق عوائد مربحة على المستوى الشخصي للاعب والأندية وعلى المستوى الوطني، وأصبحت العديد من دول العالم تراهن اقتصاديا على الرياضة عامة ورياضة كرة القدم خاصة، وتعمل على تأكيد حضورها في الخريطة الرياضية العالمية، كما تضخ في ـ سبيل ذلك ـ موازنات كافية، وموارد مالية باهظة، واستثمارات اقتصادية ضخمة، لذلك لم يعد التعامل مع المسألة الرياضية في إطارها الضيق وصورتها الرتيبة، فما تجذبه من تذاكر أعداد المشاهدين للمباريات في ميادين الملاعب والمجمَّعات الرياضية أو الاشتراكات عبر القنوات الإعلامية المشفرة كفيل بتحقيق عوائد ربحية ضخمة تصل إلى المليارات من الريالات، إنه بحق استثمار ذكي بحاجة إلى إرادة صلبة وعزيمة نافذة وقرار سياسي؛ لذلك فمسألة الوصول إلى الاحترافية ليست ضربا من المستحيلات، إذا ما سلّمنا بأن مفهومنا للاحترافية يتجاوز بالضرورة وصول منتخب سلطنة عمان لكرة القدم إلى نهائيات كأس العالم، بل يستوعب مفهوم الاحترافية كل صور المنافسة المتحققة في استضافة المونديال العالمي أو كذلك رفع سقف القدرة الرياضية العُمانية دوليا كبيت خبرة إقليمي أو دولي في بناء المحترفين الدوليين في كرة القدم واستضافة الفرق الدولية المحترفة في ملاعبها؛ إذ نملك من الفرص والمُقوِّمات ما يصنع الفارق ويقوي رغبة الإنجاز، وهو أمر يضعنا أمام قناعة بأن الإرادة السياسية تُمثِّل اليوم الحلقة الأقوى والرهان الأكبر في معادلة بناء الاحترافية الرياضية لسلطنة عُمان، ونعتقد بأن هذه الميزة التنافسية للرياضة العُمانية موجودة اليوم وبقوة، من خلال وجود القيادة على رأس الهرم الرياضي ممثلة في صاحب السُّمو السَّيد ذي يزن بن هيثم آل سعيد وزير الثقافة والرياضة والشباب نجل مولانا حضرة صاحب الجلالة السُّلطان هيثم بن طارق المُعظَّم ـ حفظهما الله ـ، الأمر الذي يُمثِّل ـ في ظل هذه الميزة التنافسية ـ محطة قوة داعمة وفرصة استثمارية لسلطنة عُمان في الوصول إلى الاحترافية وإثبات أندية سلطنة عُمان موقعها في الخريطة الرياضية العالمية. على أن وصول بعض الرياضيين العُمانيين إلى الاحترافية والنجومية على المستوى العالمي يعطي صورة تفاؤلية بأنه لا مستحيل مع الإرادة والدعم، ومع ذلك ندرك أيضا أن الإرادة بحاجة إلى مزيد من التخطيط والتنظيم والتكاملية في العمل الرياضي، والذي يعتمد على وجود الملاءة المالية وحضورها الكفء في تحريك عجلة التقدم في هذا المجال وتسريع وتيرة الإنجاز فيه، وإحداث تحوُّل مبتكر في المشهد الرياضي العُماني على مستوى البنية الأساسية المؤسسات الرياضية وبناء القدرة البشرية الوطنية المؤهلة أو البنية الناعمة ممثلة في التشريعات والأنظمة والحوافز.
عليه، فإن البحث في استحقاقات الاحتراف الكروي في الرياضة العُمانية ينبغي أن يستفيد من هذه الممكنات والفرص المتاحة لإعادة ترتيب البيت الداخلي للكرة العُمانية وتوأمته مع الواقع الاجتماعي والاقتصادي والتحوُّلات التي يراد أن يحققها اقتصاد كرة القدم في سلطنة عُمان في إطار رؤية عُمان 2040، وفق منظومة رياضية متكاملة تقرأ البُعد الاحترافي في الرياضة العُمانية عبر إدخال التحسينات الجذرية والتطوير الممنهج، من حيث:
? تعزيز وتطوير القدرة الوطنية للوصول إلى الاحترافية من خلال بنية مؤسسية وإدارية وتنظيمية وتشريعية وتحفيزية واستثمارية، ومنظومة حماية اجتماعية متكاملة للاعبين والكادر الفني والإداري في الانتقال بالرياضة العُمانية إلى كونها استثمارا واعدا، لصناعة المحترفين وإنتاج الخبرات الرياضية، وبناء شراكات عملية واتصالية مع أندية ومنتخبات واتحادات عالمية، الأمر الذي من شأنه خلق بيئة جاذبة لهواة كرة القدم المحترفين. هذا الأمر يؤسس أيضا إلى إعادة هيكلة مسار التكامل بين المكوِّنات الرياضية بما في ذلك مجالس الإدارة بالأندية أو اتحاد الكرة أو المجالس الرياضية والجهاز الإداري والفني للمنتخب العُماني لكرة القدم حتى تكون السياسة الرياضية موحدة وتستهدف صناعة النموذج الوطني القادم الذي يضع سلطنة عُمان في مصاف المحترفين.
? تعظيم دور الأكاديميات الرياضة لصناعة المحترفين على المستوى الفردي والجمعي للمساهمة بدور فاعل في بناء المشروع الرياضي العُماني؛ باعتبارها محطَّات مهمَّة في تدريب الأطفال الصغار والنشء والكبار على إتقان المهارات الرياضة لكرة القدم والتعامل مع فلسفتها، وأن يسهم وجود هذه الأكاديميات في رفع درجة التدريب الاحترافي على أيدي متخصصين من داخل سلطنة عُمان وخارجها من خلال استراتيجية عمل واضحة وآليات مقننة، بحيث يتوافر فيها مدربون محترفون قادرون على النهوض بالخبرات والكفاءة الوطنية، وفق تشريعات تضمن المحافظة على دور هذه الأكاديميات في إنتاج الحلول والمعالجات الجذرية للتحدِّيات التي يواجهها الجهاز الإداري والفني واللاعبين أنفسهم. بالإضافة إلى دور هذه الأكاديميات الرياضية في احتواء اللاعبين الناشئين والصغار وتعريضهم لبرنامج تدريبي متكامل، على أن بناء شخصية اللاعب بحاجة إلى موجهات تربوية ونفسية وثقافية واجتماعية وترويحية، وهو ما لا يتأتى إلا عبر وضوح مسار عمل الأكاديميات الرياضية وقياس الأداء المترتب عليه بالشكل الذي يضمن إنتاج شخصية اللاعب المحترف، بحيث ينعكس ذلك على أدائه على أرض الملاعب.
? رفع سقف التدريب الرياضي الاحترافي وعبر تبنِّي استراتيجيات وأنظمة وبرامج عملية لاكتشاف المواهب الرياضية من طلبة التعليم المدرسي والتعليم ما قبل المدرسة، وإيجاد أنظمة تقييم ومتابعة ورصد وتشخيص تضمن كفاءة عمليات الانتقاء والاختيار وفق معايير واضحة وأدوات مقننة تُمثِّل فيهم حس الرياضة، وتحقيق تقدُّم ملموس في تقديم منتج كروي قادر على سد الفراغ وإثبات بصمة حضور له في الاستجابة والتكيف مع المشهد الرياضي الوطني والإقليمي والعالمي، بما يتطلبه ذلك من خطة تدريب تدريبة وتأهيلية وإثرائية متكاملة، تضمن إعادة إنتاج الواقع الكروي وتعظيم مسار الثقة في اللاعبين وإعادة صياغة نشاط الأندية الرياضية للولايات ومجالس الإدارة وطريقة انتقاء الشباب وكفاءة البرنامج اليومي في خلق روح رياضية قادرة على صناعة الفارق.. وهو أمر يستدعي اليوم توفير المدربين المؤهلين أكاديميا ومهنيا وتفرغ المدربين العُمانيين في الأندية، ورفع مستوى الأجور والحوافز المقدمة لهم لتدريب الفرق الرياضية، كما يتطلب تفريغ اللاعبين المحترفين بكافة الأنشطة وإدراج الألعاب التي يحترفون بها كوظيفة مستقلة خاضعة للشروط والقواعد المعمول بها في سلطنة عُمان، وبما يؤسسه ذلك من أهمية إيجاد آليات وطنية لترتيب أوضاعهم المهنية أو الدراسية أو الأسرية أو المعيشية؛ كونها مساحة أمان لهم في الانتقال إلى مراحل متقدمة من الاحترافية الكروية.
? تنشيط حركة الرياضات المدرسية في صناعة الممارسة الكروية، بحيث تمارس في إطار منظم وضوابط واضحة ويقوم عليها جهاز متخصص لمراقبة التقدم الحاصل في مهارات الطلبة مع تأكيد تطوير مهارات المعلمين والمشرفين والمدربين في المدارس، وبالتالي أن تقرأ مسألة الرياضة المدرسية في إطار أكثر مهنية واحترافية وعبر أدوات ومسارات تسهم في إنتاج قدرات وطنية من الأطفال والشباب والنأشين الذين يحترفون كرة القدم، وبالتالي إيجاد توأمة بين منتخبات كرة القدم للمدارس مع الأندية والمنتخبات الوطنية المشاركة في المواسم الرياضية العالمية، بما يشكل مسارا وطنيا يعزز من الممكنات الرياضية في فقه وممارسات الطلبة، هذا الأمر يرتبط أيضا بتوفير أدوات الرصد والاستكشاف المبكر للمهارات الرياضة لدى الطلبة، بحيث لا تنتهي الحالة الرياضة بخروج الطالب من المدرسة، أو انتقاله إلى العمل ومؤسسات التعليم العالي، بل أن تظل فرص التدريب والتأهيل المنظم، الطريق لاحتواء هذه الكفاءة والمحافظة عليها، والعمل على بقاء ارتباطها بكرة القدم مستمرا لا ينقطع بالتحاق الطالب بالدراسة الجامعية أو العمل أو غيره، وبالتالي وجود قواعد بيانات متكاملة للاعبين وحصر أنشطتهم الكروية والبرامج المقدمة لهم بحيث يسهل العودة إليها من الجهات المعنية في عملية تقييم الأندية ومتابعة تنفيذها للخطط والبرامج الموضوعة لكل منها.
? تبنِّي مسار خصخصة القطاع الرياضي وفق الشروط والضوابط المنظمة للاستثمار في الأندية والمجتمعات الرياضية بما يسهم في تعظم الإنجاز الكروي وصناعة قدرات وطنية منافسه ومؤهلة لتمثيل سلطنة عمان دوليا واقليميا، فمع التأكيد على أن مفهوم أدارة الاستثمار في كرة القدم اليوم بحاجة إلى ممكنات ومزيد من الحوافر والضوابط والموجهات، لذلك تأتي مشاركة القطاع الخاص في صناعة المحترفين وتعزيز حضور الكفاءة، وتشجيع أصحاب الهمم والمبادرات الرياضية والتسويقية في الدخول في هذه المنافسة، هذا الأمر من شأنه أن يسهم في خلق تنافسية أكبر بين الأندية في تطوير برامجها والتثمير في مواردها وتصنع لنفسها بصمة في المشهد الرياضي، لذلك سيظهر دوري عمانتل وكأس جلالة السُّلطان بصورة أخرى تبرز مستوى وحجم الاهتمام المجتمعي بها.
وعودا على بدء، فإن التوجيهات السَّامية لحضرة صاحب الجلالة السُّلطان هيثم بن طارق المُعظَّم في ترؤُّسه لاجتماع مجلس الوزراء الموقَّر في السادس والعشرين من فبراير لعام 2023 «بدراسة المشاريع ذات الأولوية التي يتم التوصل إليها في مختبرات الاستثمار في قطاع الرياضة وتقديم التسهيلات اللازمة للمستثمرين لكونهم شركاء في التنمية الرياضية، وأهمية تطوير القطاع الرياضي والنهوض به، والانتهاء من الاستراتيجية الرياضية بما يكفل بناء وتهيئة قدرات الشباب واستكشاف مهاراتهم بدءا من المراحل الدراسية الأولى» محطَّات استراتيجية تستشرف مستقبل الرياضة في عُمان، وتصنع لقطاع الرياضة حضور القوة في الجهد الوطني، فإن نمو سوق رياضة كرة القدم العالمي اليوم، والحضور الاستثنائي الذي تشهده كرة القدم في أوساط الشعوب سياسيا واقتصاديا واجتماعية وفكريا وارتباطها بثقافة مجتمعية وإنسانية عالمية واسعة، يفرض علينا في سلطنة عُمان الاستفادة من هذه الفرصة العالمية في تعزيز اقتصاد كرة القدم، وإعادة إنتاج القدرة الوطنية الاحترافية المتقنة للمهارات الرياضية، والملتزمة بالشروط والأخلاقيات، والمؤمنة بالقواعد والمعايير الدولية التي ترتبط بهُويَّة لغة كرة القدم وخصوصية التعامل معها، لضمان صناعة المحترفين وإنتاج الخبرات الرياضية التنافسية، فهل سنشهد في قادم الوقت تحوُّلات تقرأ كرة القدم بسلطنة عُمان في مسارها للعالمية والاحترافية، مستفيدة من تجربة دولة قطر الشقيقة في استضافتها لمونديال كأس العالم، «قطر 2022»؟ وهل ستبرز مؤشرات نجاح قادمة في طريق الاحترافية السهل الممتنع تستفيد من توجهات سلطنة عُمان الاستثمارية والاقتصادية لتطرح المشروع الرياضي في سوق الاستثمارات العالمية؟
د.رجب بن علي العويسي