يقول القانون العلمى أن “لكل فعل رد فعل مساوٍ له فى القوة مضاد له فى الاتجاه”، لكن وبكل أسف استعلت الدول الغربية المغرورة بقوتها وحضارتها على هذا القانون وهى تمارس تسلطها واستعلائها على كل العالم على مدى التاريخ الحديث والمعاصر، لذلك لم يستطيعوا فهم قانون “ثورات الشعوب” المضطهدة.
وظلت أدبياتهم تتعامل مع كل الثورات الطامحة للتحرر من قيود الاستعباد والاستعمار باعتبارها تمرداً وإرهاباً وخروجاً على القانون ، ويعتبرون قمعهم لمثل هذه الثورات احتراماً لقانون هم من صاغوا بنوده، وهم أول من يخرجون عليه إذا تعارض مع مصالحهم . فقانون حرية السوق وحرية التجارة العالمية مثلاً هم من ابتدعوه لنهب ثروات العالم وجعلها تتجه فى اتجاه واحد “من الغربإلى الشرق” أو “من الجنوب إلى الشمال” وعندما تعارض هذا القانون مع مصالحهم كانوا هم، بقيادتهم الأمريكية، أول من خرجوا عليه وفرضوا الكثير من “القوانين الحمائية” لحماية اقتصاداتهم من التأثيرات المتبادلة لحرية السوق العالمية وحرية التجارة. وهم من صاغواميثاق الأمم المتحدة، وهم من تحدوا الالتزام به عندما تعارض مع مصالحهم ، سواء ما يتعلق باحترام حريات وسيادة الدول والشعوب، أو مايتعلق بحق الشعوب فى تقرير مصيرها، أو بالتأكيد على إدارة العلاقات الدولية بالتعاون والسلام. هم من أسقط هذه المبادئ والقيم، بل هممن تحدى الطبيعة وقوانينها ومن ثم تسبب فى حدوث الكوارث العالمية من زلازل وبراكين وعواصف وارتفاع حرارة الأرض وذوبان الجليد وغيرها لأنهم أعطوا الأولوية لمكاسبهم على حساب المصالح الكونية العامة.
شعوب العالم كله باتت تكتوي بهذه الممارسات الغربية التى أغراها غرورها بالسعى الدءوب لفرض جديد منظوماتها القيمية على باقى العالم وفق منظورها لـ “عولمة القيم” الذى ليس له غير معنى واحد هو “عولمة القيم الغربية”. الكارثة أن هذا يحدث فى وقت وقعت فيه منظومة القيم الغربية أسيرة لثلاثة دوائر أقرب إلى “المستنقعات” هى دائرة الإلحاد الذى يزداد تفشياً فى الغرب، ودائرة الشذوذ التى باتت محمية بالقوانين، ودائرة المخدرات . ثلاث دوائر متشابكة باتت تحكم منظومة القيم الغربية وهى تتغنى بقيم الحرية وحماية حقوق الإنسان التىأخذت تتحدث حالياً ليس عن حرية الإنسان فى أن يعيش فى دولة تحترم إنسانيته وتوفر له احتياجاته وحقوقه وتؤمن له نظاماً خالياً من كلأنواع التمييز، بل عن حرية الإلحاد وحرية الاختيارات الجنسية وحرية تناول المخدرات، لم تعد تتحدث فقط بل أخذت تضغط لفرض هذه الحريات الساقطة على بقية شعوب العالم باعتبارها عنوناً لـ “الحداثة”، وأخذت تتجه نحو معاقبة كل من لا يقبلون بـ “توطين” هذه الحريات في مجتمعاتهم، وهناك من يسعى فى المجالس النيابية بهذه الدول للدعوة لربط المبيعات العسكرية باحترام “حقوق الإنسان” و”الديمقراطية”التى باتت أسيرة لهذه الحريات .
وعندما تصل الأمور إلى هذا الحد كان حتماً أن يفرض القانون العلمى نفسه فى شكل موجات من التمرد على هذه الحضارة الغربية باستعلائها السياسى ونهبها الاقتصادى وفوقيتها القيمية، والتحدى الذى أظهره الرئيس الروسى فلاديمير بوتين فى خطابه المهم والقوى أمام الفيدرالية الوطنية بمناسبة مرور عام على “الحرب الأوكرانية” (28/2/2023) كان مؤشراً مهماً لهذا التمرد فى الاتجاهين: الاتجاه الاستراتيجى بالتصميم على إسقاط المشروع الغربى “الأطلسى” العدوانى ضد روسيا كما تؤكده الحرب الأوكرانية، وإظهار التحدى الصريح فى رفض منظومة القيم الغربية. وهذا التمرد بدأت تمارسه الصين هى الأخرى ولكن بأساليبها الخاصة التى أخذت تكتسب مصداقية واسعة فى معظم أنحاء العالم تنال كثيراً من مصداقية الغرب، للدرجة التى جعلت البروفيسور “نوربرت لامبرت” الرئيس السابق للبوندستاج (البرلمان الألمانى) الرئيس الحالى لمؤسسة “كونراد أديناور” يقول “من الواضح أن الزمن الذى كان فيه للأفكار المستمدة من الغرب تأثير تكوينى شبه تلقائى على بقية العالم قد ولى. نجد أنفسنا الآن في وضع تنافسي يجب أن نكون واعين له وجادين بشأنه”.
التمرد العالمى على الغرب، مازال فى بدايته، لكنه ينتشر بقوة فى معظم أنحاء العالم باستثناءات محدودة خاصة فى العالمين العربى والإسلامى بكل أسف ، كما أنه تمرد يعبر عن نفسه بأشكال وأساليب كثيرة، ويمكننا أن نرصد أربعة نماذج من هذا التمرد هى: التمرد الروسى- الصينى، والتمرد الأمريكى – اللاتينى، والتمرد الأفريقى والتمرد الآسيوى (الأيرانى). وهى بهذا المعنى، ولحسن الحظ، تنتمى إلى مجتمعات الشرق، الأمر الذى يشجعنا لإعادة طرح فكرة “حوار حضارات الشرق” كبديل، أو على الأقل، كمرحلة أولى لجعل الطموح إلى “حوار الحضارات العالمى” أكثر واقعية في حال تحقيق توازن القوة وتوازن المصالح بين كل من حضارات الشرق والحضارة الغربية.
بالنسبة للتمرد الروسى- الصينى فإنه يعتبر رأس الحربة فى صراع حضارات الشرق أو صدامها مع حضارة الغرب، لأنه بات قادراً على تحقيق نجاحات مرموقة فى مجال التحدى الاستراتيجى – العسكرى، والمجال الاقتصادى والمجال الثقافى ، ظهرت فى مؤشرات كثيرة كان آخرها تمكن روسيا والصين من إفشال المسعى الغربى لصدور بيان عن اجتماع وزراء خارجية دول مجموعة العشرين فى نيودلهى بالهند(2/3/2023) يتضمن مطالبة موسكو “بوقف الأعمال الحربية فى أوكرانيا” وإفشال صدور بيان مماثل قبل أسبوع من هذا التاريخ الوزراء مالية ومحافظى بنوك دول مجموعة العشرين عقد فى بنغالون بالهند أيضاً التى تترأس حالياً مجموعة دول العشرين. وقبل ذلك بأقل من أسبوعين كانت الصين تطلق منطاداً أثار الرعب فى الولايات المتحدة وكندا بعد تحليق لأكثر من يومين فى الأجواء الأمريكية قبل إسقاطه، لكن التمرد الصينى- الروسى الأهم على الغرب يتجلى فى مسيرة النجاحات التى تتحقق فى مسعى تحقيق تحول درامى لمستقبل النظام النقدىالعالمى عبر اعتماد محتمل للمؤتمر القادم لقمة منظمة “بريكس” القادمة فى جنوب أفريقيا (الصين وروسيا والهند والبرازيل وجنوب أفريقيا) (أغسطس 2023) لعملة موحدة بديلاً للدولار الأمريكى واليورو الأوروبى والاسترالينى البريطانى. إلى جانب ذلك يأتى التمرد الروسى على النظام الأحادى الأمريكى فى أوكرانيا بإصرار الرئيس بوتين على تحقيق الأهداف وإظهار التحدى للأمريكيين بتعليق العمل بمعاهدة”ستارت الحديدة” الروسية – الأمريكية الخاصة بشأن نزع السلاح النووى التى تعنى إشارة روسية للعودة مجدداً إلى السباق النووى رداًعلى التورط الأمريكى- الأوروبى المتزايد فى أوكرانيا.
التمدد الروسى – الصينى بدعمه التمرد الأمريكى – اللاتينى والتمرد الأفريقى بالتحرر من الارتباط بالغرب لصالح التقارب مع روسياوالصين، والتمرد الإيرانى باتجاهه نحو تأسيس علاقات شراكة استراتيجية مع كل من روسيا والصين للدرجة التى أزعجت الأمريكيتين ووضعتهم أولاً أمام خطر تفجر حرب فى الشرق الأوسط بين إسرائيل وإيران لا تريدها، وجعلتها ثانيا تحذر من مخاطر التقارب العسكرىالإيرانى – الروسى وتطالب بتأسيس تحالف عالمى لاحتوائه.
هذه التمردات هى بدايات تقول أن حضارات الشرق باتت قادرة على تحدى الحضارة الغربية فى وقت تعانى فيه الحضارة الغربية من خطرالسقوط. يبقى التساؤل عن مدى قدرة حضارات الشرق فى التحالف مع بعضها .
د. محمد السعيد إدريس
جريدة الاهرام : 7 / 3 / 2023م