في مقابلة لوزير الإعلام العمانيّ معالي الدّكتور عبدالله بن ناصر الحراصيّ مع الإعلاميّ موسى الفرعيّ في برنامج أثير «معالي الوزير» بعنوان: هل توجد حريّة رأي؟، حاول الدّكتور الحراصيّ تقمص دور المواطن لا الوزير، الكاتب لا المسؤول، فغلب على المقابلة لغة الصّراحة والمكاشفة عن قرب، وابتعد عن اللّغة الأبويّة والتّبريريّة، فلم يبرئ الإعلام والأداء الحكومي من النّقص، ولم يشيطن النّاقد ويعتبره مفسدا، بل اعتبر الجميع في سفينة الوطن الواحدة الّتي تسع الجميع، فالحكومة أداء تنظيمي ليس ملائكيّا، والمجتمع هو الغاية، فلا حكومة بلا مجتمع، وعليه رأي المجتمع كناقد حقيقيّ يخدم الحكومة، فهذا أمر مطلوب شرعا ووطنا، فالنّقد للأداء الحكوميّ حالة صحيّة، وتوفير أكبر مساحة من الحريّة في ذلك أمر مطلوب.
حاول المذيع أن يذهب بوزير الإعلام أيضا إلى مسالك الوزارة وتنظيمها، ورؤية الحراصيّ الشّخصيّة ونتاجه في التّرجمة، ولكن أخذ حيّز المجتمع ووسائل التّواصل الجانبَ الأكبر من المقابلة، ويظهر من المقابلة أيضا لغة الحبّ والإصلاح مع النّقد للمثقف والكاتب والمشاهير والنّخب، وما يجري في وسائل التّواصل الاجتماعيّ، فتدرك من نقد الحراصيّ أنّه ليس نقدا علويّا، بقدر ما هو نقد إصلاحيّ وعفويّ صريح.
وشخصيّا جلست مع وزير الإعلام في أكثر من جلسة، وكثيرا ما تأخذنا التّجاذبات في الآراء الفكريّة، نتفق في بعضها ونختلف في أخرى إلى درجة التّقاطع في الحديث، ولمّا تجلس معه لا تشعر بالجلوس مع وزير أو مسؤول، بقدر ما ترى نفسك أنّك في عالم الثّقافة والنّقد والحوار المتبادل، فينصت لك فتتصوّر أنّك المتحدّث الرّئيسي، ولو جلست في مكتبه كأنّك في مقهى ثقافيّ لا مكتب الوزير، وإن تحدّث هو رأيتَ المثقف الّذي يعيش مع المعرفة، ولا يدخل في الشّخوص، لكنّه لا يخجل من النّقد، فمع تشجيعه لنا، ومع الكتابات المتواضعة جدّا الّتي نقدّمها، لكنّه أيضا يبدي رأيه ونقده، ونبادله النّقد والفكرة الأخرى، لدرجة أنّك تعزّز رأيك مزهوّا به لدرجة إذا خرجت من عنده تتصوّر أنّك تخشى أن قد أسأت الأدب في مقام الحديث معه، ولكن مع الأيام يزيدك قناعة أنّك جالس مع مثقف متنوّر يسعد بالنّقد والمعرفة والحفر فيها لا التّسطيح، ويسعد أنّك تبدي رأيك، وتدافع عنه، ولو خالفت رأيه كليّا أو جزئيّا.
الّذي يهمني في هذه المقابلة رؤية الحراصيّ حول الوعيّ وحريّة الرّأي وضرورة النّقد، ومصاديق ذلك على الكاتب والنّخب الثّقافيّة من جهة، وعلى وسائل التّواصل الاجتماعيّ من جهة ثانية، ولا أتحدّث عن العناصر الأخرى في المقابلة، وهي طويلة، في ساعة وعشر دقائق تقريبا، انطلقت من الابتداء من رؤية عمان الحديثة في عهد السّلطان هيثم بن طارق – يحفظه الله -، حيث «يدعم بقوّة حريّة الرّأي المسؤولة»، «ويدعم الوعي النّقديّ الّذي يدفع بالإنسان لتقديم ما لديه لتطوّر البلد»، وأنّ «السّلطان ينصحني شخصيّا في توفير الحريّة للكتّاب فيما يريدون قوله، لكن بمسؤوليّة وتحليل حقيقيّ، ينبع من الصّدق والتّأمل والبحث، ويقول لنا: إذا رأينا نفعا فيما يقوله الكاتب سنغير به مسارات وقرارات اتّخذت».
وما رأيته ككاتب في «جريدة عُمان» كتبته كشهادة قبل فترة بسيطة في مقالي: «جريدة عُمان في يوبيلها الذّهبيّ» وقلت فيه: «إنّ جريدة عُمان لا تحتفل اليوم بيوبيلها الذّهبيّ؛ بل هي تعيش فترتها الذّهبيّة، والّتي أرجو أن يستمر انفتاحها وقوّتها بشكل أكبر، ولفترة أطول؛ لأنّه كلّما اتّسعت الحريّات كلّما كانت الصّحيفة أو المجلّة أكثر قوّة»، فأنا أكتب في الصّحيفة بفترات متقطعة منذ عام 2007م، واليوم شخصيّا أطرح رؤيتي الخاصّة فكريّا ونقدا، ولا أجد تضييقا أو حذفا أو منعا، وأجد رموزا فكريّة وأطروحات لها عمقها تنشر في الصّحيفة بشكل يوميّ، ولكن هناك من يحكم دون أن يقرأ، ويتذمر دون أن يبادر، وهناك من له رؤية سلبيّة مسبقة، فيحاول التّعميم لا الإنصاف.
فقط ما تحقّق في جريدة عمان أرجوه في قناة عُمان الثّقافيّة، بحيث تكون هناك برامج ناقدة، وتطرح رؤى نقديّة فكريّة وفلسفيّة، ومعالجات سياسيّة واجتماعيّة واقتصاديّة، وتكون مرتبطة بالبودكاست، ووسائل التّواصل الاجتماعيّ، وتستغل القدرات النّاعمة، مع التّرويج الإعلاميّ، وأن تستضيف شخصيّات عربيّة ودوليّة، تناقش جدليّات فكريّة وفلسفيّة واجتماعيّة، ففي عمان طاقات عميقة، حيث بالإمكان جعل قناة عُمان الثّقافيّة الزّاوية المقابلة لجريدة عُمان، وقد بدأت، ولكن تحتاج إلى تسويق إعلاميّ بشكل أكبر، لتكون حاضرة في الوجدان والفكر العربيّ كغيرها من القنوات الفاعلة.
كما أرجو أن تتم مراجعة قضيّة التّصاريح للمدوّنات الشّخصيّة (يوتيوب) ذات المحتوى، والّتي أدرجت في «قانون المنشآت الخاصّة للإذاعة والتّلفزيون»؛ ففيها شيء من التّعقيد، فهذه أقرب إلى المدونات الشّخصيّة، ومساهمتها في صناعة المحتوى يساهم في نشر الوعي والتّثاقف، كما أنّ حضور العماني فيها يعطي صورة مهمة عن الوطن والإبداع الشّبابيّ والثّقافيّ، وفي السّنوات الأخيرة أصبح العماني حاضرا ومنافسا في الفضاء العربيّ، وأنا لستُ ضدّ التّنظيم، فهذا أمر مهم، وهو ضرورة إجرائيّة، ولكن مع تسهيل ذلك، وفق منظومة فيها أكثر سعة للحريّات، لتعطي تدافعا يهذّب المعرفة ويحفر فيها.
ومن حيث الوعي وحريّة الرّأي، فيربطهما الحراصيّ بالصّلابة والمسؤوليّة أي الوعي الحقيقيّ، فيرى «مهمتنا نشر الوعي الحقيقيّ، وتأسيس الفكر الواعي المسؤول»، هذا الوعيّ الحقيقيّ لا يمكن أن يتحقّق بعيدا عن مساحة الحريّة، فلا وعي بدون حريّة، ولكن هناك أيضا «معاناة في إطلاقيّة حريّة الرّأي هكذا»، «بعض الصّحف البريطانيّة كالتّايمز وغيرها أصبحت تناقش موضوع التّنمر، والآراء الانطباعيّة غير المبنيّة على فكرة، فبدأ المثقف والمفكر يخاف من طرح فكره، حيث يتم مهاجمتهم حتّى شخصيّا»، «والتّنمر أحيانا يصل إلى مراحل غير أخلاقيّة، وبعيدا عن القول الحسن، والقول الحسن يدخل حتّى في نيّة الكلام، والهدف منه»، لهذا «خبراء الإعلام اليوم يتحدّثون عن التّربية الإعلاميّة، وهي تعلّم الإنسان ابتداء أنّ له رأي حقيقي، وعليه أن يحمي رأيه، ولا يقبل بالتّنمر عليه من أيّ شخص كان، وهو مسؤول عن رأيه»، وكما أنّ الأصل أنّ «المفكر الحقيقيّ لا يهاب من طرح رأيه وفكره، فنحن نخاف على أصحاب الفكر والجيل الجديد من التّقوقع على الذّات، والخوف من طرح الفكر» بسبب الخوف والتّنمر، فهذا يعني «على الأسر أن تربي أبناءها على عدم الخوف من إظهار آرائهم الحقيقيّة».
«فالرّأي الحرّ الحقيقيّ اليوم مطلوب لتطوير مؤسّسات الدّولة ذاتها»، وعندنا في عُمان «ثلاث محدّدات: الله والوطن والسّلطان»، فالله بمعنى لا نقبل «التّأثير في معتقدات النّاس علنا، ويجهر بذلك على غير تعقل»، والوطن أي «وحدة الوطن وبنائه الدّاخليّ، وانسجامه وأمنه»، والسّلطان «لأنّه وأسرته رمز لهذا البلد»، فهذه كما يرى الحراصيّ محدّدات حريّة الرّأي عندنا، وكلّ دولة في العالم لديها محدّدات تراعى وتحترم.
بيد أنّه في نظري – أي كاتب المقالة – كما يجب مراعاة هذه المحدّدات، ينبغي أن تقنن بشكل واضح، فمثلا التّجديف وازدراء الأديان قد يدخل فيها العموميّات، وفق مساحة النّقد والتّساؤل والبحث من جهة، ووفق دائرة الرّأي فيها من جهة أخرى، كما أنّ الوضع المعرفيّ اليوم ليس كالأمس، والانفتاح ليس كالسّابق مثلا، لهذا التّساؤلات ترتفع بشكل طبيعيّ، وتتنوع الآراء في ذلك، وهذا قد ينطبق في ضرورة مراجعة قانون المطبوعات والنّشر مثلا، مع تطوّر الآلة المعرفيّة اليوم.
وأمّا بالنّسبة للنّقد فيرى الحراصيّ أنّه ابتداء «علينا تعزيز القدرات النّقديّة لدى الأفراد»، وكما أنّ الوعيّ لا يتحقّق بدون حريّة، فكذلك النّقد، فعلى «الجميع ألا يخاف من طرح رأيه الحقيقيّ، والفكريّ المبني على أسس صلبة»، ويرى أنّه ليست مشكلتنا مع النّقد كنقد ولو كان نقد الحكومة وأدائها، فهذا مطلوب؛ لأنّ «المستقبل ليس للحكومة بل للمجتمع، والحكومة نظام لإدارة المجتمع»، لكن «مشكلتنا في الشّخصنة وإطلاق الأحكام المسبقة والتّسخيف والتّقزيم»، وجعل النّقد في هذه الدّائرة الضّيقة.
فيرى الحراصيّ ضرورة «الإنصاف في النّقد، فالّذي لا ينصف غيره هو لا ينصف نفسه؛ لأنّ لديه قدرات، فهناك مثقفون وأكاديميون في الجامعات، لديهم خبرة وقدرة في تقديم رأي حقيقي ومفيد، وفق الإنصاف»، «ومن الإنصاف في النّقد إبراز الحلول والمقترحات»، على أنّه «لو وقف بعضهم أنّ رأيي صواب ورأيك خطأ؛ لكان حسنا، إنّ مشكلة بعضهم يلغي الآخر تماما، وفق ثقافة الإلغاء والإقصاء» لا الإنصاف.
وبعد الحديث عن الوعي والنّقد المرتبط بحريّة الرّأي؛ ذكر بعض تطبيقاته من خلال وزارة الإعلام وما تقدّمه من جانب، ومن خلال وسائل التّواصل الاجتماعيّ من جانب آخر، والّذي يهمني هنا الثّاني؛ لأنّي مرتبط بها واقعا، فيرى الحراصيّ ابتداء أنّ «وسائل التّواصل الاجتماعيّ لا ينبغي التّعامل معها بسلبيّة»، وأنّ «الإعلام الاجتماعيّ يعكس صوت الأفراد»، وأنّها «توفر مساحة واسعة لنشر الوعي بين صفوف المجتمع»، صحيح أنّ «هذه الوسائل مؤثرة، وصوتها مرتفع بلا شك، لكنّها تبقى تشكل نسبة بسيطة من المجتمع»، ومع هذا «التّأثير الإيجابي لوسائل التّواصل الاجتماعيّ أمر مطلوب، المشكلة في التّأثير السّلبيّ».
لهذا يتأسف الحراصيّ من أنّ «العديد ممّا يبث للأسف في هذه الوسائل هي آراء غير مبنيّة على التّعقل» بل على الانطباعات السّطحيّة، «فالأمر الانطباعيّ في هذه الوسائل لا بأس به، وهو أمر طبيعيّ نمارسه جميعا، لكن أيضا ينبغي أن تكون هذه الانطباعات مبنيّة على فكرة، ولا تقتصر عند ظاهريّتها الشّخصيّة»، فأصبحت «وسائل التّواصل الاجتماعيّ تشكل ظاهرة للتّنمر والآراء الانطباعيّة غير المبنيّة على فكرة»، وأنّ العديد من «التّغريدات لا تفي بالمراد كثيرا، وما يحدث ليس صراعا فكريّا في الحقيقة، أغلبها خلافات شخصيّة».
ويرى «ما يقوم به المشاهير في وسائل التّواصل الاجتماعيّ أغلبه بحسن نية، لهذا المهم هو التّنظيم لا الكبح»، وأنّ «المؤثر في وسائل التّواصل الاجتماعيّ يرتجى منه نشر الوعي والثّقافة والكلمة المسؤولة والبناءة، لكننا للأسف أحيانا لمّا نقرأ لهم لا نجد إلّا انطباعات».
ندرك ممّا تقدّم أنّ معالي الوزير لا ينظر إلى وسائل التّواصل الاجتماعيّ بشكل إيجابي فقط؛ بل يدعو إلى تفعيلها إيجابا من قبل المجتمع من خلال نشر الوعيّ والنّقد الحقيقيّ، لتكون فاعلة في الإصلاح والرّقيّ بالوطن والمجتمع والإنسان.
بدر العبري