فى الوقت الذى تخوض فيه الولايات المتحدة الأمريكية معركتين لإحكام تفردها وسيطرتها على العالم دون أى منافسة من قوة أخرى ، المعركة الأولى ضد روسيا فى أوكرانيا ، والمعركة الثانية مع الصين فى منطقتى المحيطين الهندى والهادى ، تخوض الولايات المتحدة معركة ثالثة لإحكام السيطرة على التوجهات العالمية السياسية والاقتصادية والفكرية والثقافية هذه المعركة التى تأخذ أحياناً شكل (الحرب النفسية والدعائية) أو تكون ضمن إطار “الصراع القيمى” أى الصراع على القيم العالمية عبر مسارين الأول يركز على السعى إلى “عولمة القيم” الأمريكية أى جعلها، دون غيرها، قيما عالمية الانتشار والتداول ، والثانى توظيف منظومة القيم الأمريكية كأدوات اختراق وسيطرة على المجتمعات فى العالم والتدخل فى الشئون الداخلية للدول باعتبارها “القوة الحارسة” أو “القوة الحامية” لهذه القيم، سواء كانت قيما سياسية مثل الديمقراطية وحقوق الإنسان والتعددية السياسية، أو كانت اقتصادية مثل فرض النموذج الاقتصادى الرأسمالى على العالم وتحويل الاقتصادات العالمية إلى اقتصادات تابعة، وتوظيف الهيئات والمؤسسات الاقتصادية العالمية التى تسيطر عليها مثل صندوق النقد الدولى وغيره لفرض التبعية والخضوع للهيمنة الأمريكية، أو كانت اجتماعية ثقافية على نحو الحملات الأمريكية الراهنة للترويج لـ “الإباحية الجنسية” والسقوط الأخلاقى بتوفير الدعاية لدعوة “الحريات الجنسية” والزواج المثلى وغيرها من القيم الساقطة وجعلها النموذج الواجب الاتباع عالميا.
وثيقة “استراتيجية الأمن القومى” الأمريكي التى اعتمدتها إدارة الرئيس الحالى جو بايدن فى أكتوبر الماضى تضمنت النص على خوض هذه المعارك الثلاث باعتبارها أهدافا أمريكية عليا بالنص على أن الولايات المتحدة “ستقود العالم بقيمها” وأن الولايات المتحدة “لن تترك مستقبلها عرضة لأهواء أولئك الذين لا يشاركونها رؤيتها للعالم”.
وإذا كانت هذه الاستراتيجية قد حددت ثلاثة أهداف أمريكية عليا تسعى لتحقيقها هى حماية الشعب الأمريكى، وتوسيع الازدهار الاقتصادى وتكريس القيم الديمقراطية ، فإن الهدف الثالث الأخير، أى هدف تكريس الديمقراطية يتجاوز الداخل الأمريكى إلى الأفق العالمى الأوسع حيث جاء التأكيد بأن “الولايات المتحدة ستستمر فى الدفاع عن (الديمقراطية) فى جميع أنحاء العالم”. فإدارة بايدن تتبع هنا ذات النهج الأمريكى العنصرى والاستعلاء للتدخل فى الشئون الداخلية للدول الأخرى تحت راية حماية حقوق الإنسان والديمقراطية . كان المبرر الأول لاستخدام هذا السلاح عندما قررت الولايات المتحدة فى إدارة الرئيس بيل كلينتون التى أعقبت إدارة الرئيس جورج بوش الأب التدخل فى دول العالم تحت راية “التدخل لأسباب إنسانية” متجاوزة النص المؤكد عليه فى ميثاق الأمم المتحدة بعدم التدخل فى الشئون الداخلية للدول. لكنها فى عهد جورج بوش الابن تجرأت أكثر ورفعت شعار “التدخل للدفاع عن الديمقراطية” كان هذا هو الغطاء الذى استخدم لتبرير الغزو الأمريكى- البريطانى للعراق عام 2003 بعد انكشاف أكذوبة السبب الأول المعلن لهذا الغزو وهو “امتلاك العراق لأسلحة دمار شامل” .
واستخدام ذات الشعار لإسقاط نظم حكم معارضة لأمريكا فى كافة أنحاء العالم منها ليبيا والسودان وسوريا وكثير من دول أفريقيا وأمريكا اللاتينية وتحت شعار الدفاع عن الديمقراطية وحقوق الإنسان يجرى التدخل فى الشئون الداخلية للدول أيضا ولكن بأدوات أخرى غير عسكرية أو استخباراتية خاصة المعونات الاقتصادية والدعاية المكثفة . فقد نجحوا فى إسقاط معظم الحكومات غير الموالية لهم فى شرق ووسط أوروبا فى مرحلة ما بعد تفكك حلف وارسو عبر ما أسموه بـ “الثورات الملونة” ، فعلوا ذلك أيضاً فى أمريكا اللاتينية ويحاولونه فى الشرق الأوسط وأفريقيا، لذلك لم يكن غريبا أن يأتى الرئيس الأمريكى جو بايدن ، وفى الصراع مع روسيا والصين ليجدد خوض “معركة الديمقراطية” على النحو الذى كشفته مجريات “القمة الديمقراطية” الثانية التى تزعمها الرئيس بايدن (28 مارس 2023) . فقد تعمد الرئيس الأمريكى بتقديم 690 مليون دولار لتعزيز برامج الديمقراطية فى جميع أنحاء العالم، وأن التمويل الجديد سيركز على البرامج التى تدعم وسائل الإعلام الحرة والمستقلة ومكافحة الفساد وتعزيز حقوق الإنسان وتطوير التكنولوجيا التى تعمل على تحسين الديمقراطية. وقال بايدن فى افتتاح هذه القمة، التى عقدت افتراضيا ، أن الولايات المتحدة والحلفاء “يمرون بلحظة حرجة تحتاج فيها الديمقراطيات إلى إثبات قدرتها على تجاوز الأنظمة الاستبدادية”.
وفى ذات الكلمة هاجم بايدن ما يعتبره “الغزو الروسى لأوكرانيا”، وأشار إلى أنه سيعمل مع الكونجرس الأمريكى لتخصيص 9,5 مليار دولار لتعزيز الديمقراطية فى جميع أنحاء العالم، أى أنه سيخوض معركة التدخل فى الشئون الداخلية للدول تحت غطاء الدفاع عن الديمقراطية ومحاربة نظم الحكم المستبدة بتمويل قدره 9,5 مليار دولار على مدى السنوات المقبلة، وبالطبع أبرز النظم الاستبدادية وفق الأدبيات السياسية الأمريكية فى الوقت الحاضر هى روسيا والصين، حيث بدأ الترويج لحرب جديدة عالمية بديلة أو بموازاة الحرب ضد “الإرهاب الإسلامى” هى الحرب ضد الاستبداد، لذلك لم يكن غريبا أن تحظى هذه المعركة التى تخوضها واشنطن تحت راية الدفاع عن الديمقراطية وحقوق الإنسان باهتمام القمة الصينية- الروسية التى جمعت الرئيسين الصينى شي جينج بنج والروسى فلاديمير بوتين فى موسكو. فقد اتهم الزعيمان الولايات المتحدة (وفق الإعلان الصادر عن هذه القمة فى 21/3/2023) بـ “تقويض الأمن العالمى عبر السعى إلى نشر صواريخ فى دول عدة بهدف الاحتفاظ بالأفضلية العسكرية الأحادية الجانب” كما أكد البيان على أن روسيا والصين “تعارضان فرض دولة واحدة لقيمها على دول أخرى” مؤكدين “رفض التدخل الخارجى فى الشئون الداخلية للدول”.
الملفت أن قمة الديمقراطية التى عقدها الرئيس الأمريكى التى أكدت دعم السعى لتحقيق ما أسمته بـ “التجدد الديمقراطى فى العالم” تجئ فى وقت أضحى فيه النموذج الأمريكى للديمقراطية فى أسوأ حالاته سواء من ناحية الوضع الديمقراطى الداخلى فى الولايات المتحدة أو من ناحية مصداقيته العالمية فالديمقراطية داخل أمريكا باتت الآن فى أسوأ حالاتها بشهادة السيناتور الأمريكى برنارد سوندرز، الذى كشف فى محاضرة مهمة مظالم النظام الأمريكى وانسحاق الطبقة العاملة والبقة الوسطى فى ظل “حكم الأقلية” المسيطرة على الثروة والسلطة . وفسر ذلك بقوله “نحن نتجه إلى نظام حكم أوليجاركى (حكم الأقلية) يسيطر عليه عدد قليل ممن يملكون المليارات من الدولارات أفرادا وشركات ومؤسسات”. أما التمييز العرقى ضد أصحاب البشرة السوداء من الأمريكيين فيفوق كل تصور، هذا يحدث فى ظل انحياز أمريكى مفرط لدعم المستبدين الحلفاء فى معظم دول العالم.
أما التمييز العرقى ضد أصحاب البشرة السوداء من الأمريكيين فيفوق كل تصور، هذا يحدث فى ظل انحياز أمريكى مفرط لدعم المستبدين الحلفاء فى معظم دول العالم. المثال الصارخ على ذلك أن بنيامين نتنياهو رئيس حكومة كيان الاحتلال الإسرائيلى فى هذا الوقت بالذات الذى تشهد فيه الأراضى الفلسطينية المحتلة أحداثا عصيبة كان من أبرز المشاركين فى قمة بايدن الديمقراطية وخير شاهد على مدى زيف هذه الديمقراطية .
د. محمد السعيد إدريس
جريدة الأهرام : 11 / 4 / 2023م