منذ العصور القديمة، كان الناس يقدّرون القدرة على ملاحظة ما لا يلاحظه الآخرون، وإيجاد حلول غير قياسية لتزيين الكلام، وعادة ما تولد العبارات الأكثر وضوحاً وتذكراً نتيجة لنقل معنى كلمة إلى أخرى، حيث أن الكلمات أو المنعطفات في الكلام المستخدمة بالمعنى المجازي وإنشاء تمثيلات رمزية للأشياء والظواهر تسمى المجازات،يتم استخدامها لتعزيز الصورة المجازية والتعبير عن الكلام، وإعطائه اللون والعاطفة.
في نص القرآن الكريم، نجد الصفة والتي هي خاصية رمزية لشيء أو ظاهرة تحتوي على مقارنة خفية، حيث يؤكد هذا النوع من المجاز على ميزة أو أخرى للموضوع، ويخلق صورة مرئية تترك انطباعاًحيوياً على المستمع، ولدينا المقارنة وهي تعبير رمزي مبني على مقارنة بين كائنين أو مفاهيم أو حالات لهما سمة مشتركة، وغالباًما يوجد هذا النوع من الاستعارات في القرآن ويستخدم لإبراز أهم ميزة لشيء أو ظاهرة.
أما الاستعارة فهي استخدام كلمة بالمعنى المجازي، بناءً على التشابه أو القياس أو المقارنة غير المسماة، في معظم الاستعارات، يأتي المعنى المجازي للكلمة في المقدمة، ويعطي معناها المباشر التعبير تلويناً عاطفياً خاصاً، والقرآن الكريم غني بهذا الأمر، قال تبارك وتعالى: (فوجدا فيها جداراً يريد أن ينقض)، صوّر الخالق عز وجل الجدار بأنه إنسان يمتلك الإرادة في السقوط وهي صفة لا يمتلكها إلا العقلاء فقط، وبالتالي تم استعارة صفة الإرادة هنا الخاصة بالعقلاء للجدار الذي هو جماد لا يمتلك الإرادة.
والتجسيد فهو منح الأشياء أو الظواهر غير الحية بالمشاعر الإنسانية والأفكار والكلام، وغالباً ما يتم تصنيف التجسيدات على أنها نوع من الاستعارة، وفي البلاغة العربية يتم الجمع بين هذين النوعين من الاستعارات تحت اسم الاستعارة، وفي الكناية،استبدال كلمة بأخرى بناءً على علاقة معانيها بالتجاور، يمكن تحديد هذا الارتباط من خلال العلاقات المكانية أو الزمنية أو السببية، وهذا هو الفرق الرئيسي بين الكناية والاستعارة، حيث لا ترتبط المعاني المعجمية والمجازية للكلمات، وفي إعادة الصياغة يتماستبدال اسم مباشر بتعبير وصفي، يُستخدم لتزيين الكلام والإشارة إلى سمات الموضوع.
المفارقة هي تقنية غير متوقعة وغير عادية تختلف عن معايير التفكير المقبولة عمومًا. في مثل هذا المسار، يتم الجمع بين المفاهيم التي تبدو غير متوافقة، وعلى خلفية التباين الناشئ، يظهر جوهر الظاهرة الموصوفة بتعبير أكبر.
وتمت دراسة مشكلة الوسائل التصويرية والتعبيرية في القرآن الكريم بالتفصيل في الأعمال المكرسة للبلاغة العربية (علم البيان) وشخصيات الكلام (علم البديع)، وقد قدم علماء الأمة الإسلامية مثل البقلاني والجرجاني و الرازي والزمخشري مساهمة كبيرة في دراسة الأساليب البلاغية للقرآن، حيث ربط بعض الكتّاب تعقيد الخطاب القرآني بنظرية الإعجاز ، على سبيل المثال يعتقد ابن المعتز والسيوطي أنه في النص القرآني يمكن العثور على النماذج الأولية لجميع الوسائل البلاغية، في الوقت نفسه، اعتقد البقلاني أن الوسائل البلاغية في حد ذاتها لا يمكن أن تكون فريدة من نوعها،على أي حال، فإن معرفة سمات الأسلوب القرآني أصبحت في النهاية إلزامية لجميع المفسرين والمجتهدين.
ويتم تحديد الأسلوب القرآني من خلال الأهداف العامة للوحي،للإقناع بصدق أحكام الإيمان والتشجيع على احترام وصاياه، لأنالدعوة القرآنية موجهة لجميع الناس بغض النظر عن جنسيتهم أو لون بشرتهم أو أصلهم أو مستواهم التعليمي، وبما أن الناس يرون المعلومات بشكل مختلف، خاصة إذا لم تكن مبنية على الخبرة التجريبية، فإن النص القرآني مليء بالحجج التي تؤكد صحتها، وعادة ما يسمى جزء الكلام، الذي يتم من خلاله إثبات صحة الأطروحة، بالحجة البلاغية، فالنص القرآن يحتوي على نماذج لجميع الحجج البلاغية.
وإلى جانب الحجج المنطقية التي تركز على تحقيق المعرفة البشرية، يحتوي القرآن الكريم أيضاً على حجج عاطفية لها تأثير نفسي على المسلمين، وذلك من خلال خلق موقف عاطفي تجاه معتقدات وأفعال معينة، وغالباً ما تستند الحجج العاطفية إلى إشارات إلى السلطة الخارجية والجمهور، حيث يتم الجمع بين الحجج المنطقية والعاطفية في القرآن، ويتم تعزيز الدليل الأول من خلال التأثير العاطفي للأخير، كما لا تؤدي الحجج في القرآن وظيفة إيضاحية فحسب، بل تؤدي أيضاً وظيفة تواصلية، إنه يساهم في التقارب بين مواقف الخطاب والجمهور، ولهذا الغرض يتم استخدام طرق لفظية مختلفة لإقامة الاتصال: مناشدات وأسئلة مباشرة للجمهور، أسئلة بلاغية، إلخ.
ويتم التعبير عن القيمة البلاغية لهذه الحجج في حقيقة أنها لا تثبت صحة النص القرآني فحسب، بل لها أيضاً تأثير لفظي إيجابي على المجال الذهني للإنسان، وعلى الرغم من أن جمهور القرآن الكريم قد نما من عدد قليل من القبائل العربية إلى عدة مليارات من الناس في جميع أنحاء الكوكب، إلا أن الحجج القرآنية تظل مقنعة للأشخاص الذين لديهم مجموعة واسعة من المعتقدات والمعرفة العلمية.
بالتالي، إن القدرة على ملاحظة أوجه التشابه بين الأشياء والظواهر ذات قيمة عالية في الكلام العربي، وبالتالي فإن روائع الأدب العربي مليئة بالمقارنات الملائمة والاستعارات التعبيرية، ومع ذلك، بالنسبة للنص القرآني فإن الوضوح أهم بكثير من الانفعالية والروعة، على سبيل المثال لا يُسمح باللجوء إلى المعنى المجازي إلا عندما يُستبعد المعنى المباشر بسبب حجج مقنعة من القرآن والسنة.
قد يتسائل البعض ما الجديد الذي أضفته، قد يكون لا شيء غير معروف، لكن لا بد من استعادة ما كنا نتحدث عنه في فترات سابقة من باب التذكير، وبالطبع للأهمية، لذا من هذا المدخل البسيط، نستكمل معاً لنبحر في سورة طه، ونستكمل تفسيرها الذب بدأناه معاً على أن ننهيه معاً بإذنه تعالى.
قال تبارك وتعالى: (يا بني إسرائيل قد أنجيناكم من عدوكم وواعدناكم جانب الطور الأيمن ونزلنا عليكم المن والسلوى كلوا من طيبات ما رزقناكم ولا تطغوا فيه فيحل عليكم غضبي ومن يحلل عليه غضبي فقد هوى وإني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحاً ثم اهتدى وما أعجلك عن قومك يا موسى قال هم أولاء على أثري وعجلت إليك ربّ لترضى قال فإنا قد فتنا قومك من بعدك وأضلهم السامري).
في معنى الآيات الكريمة، يقول الحق بما يعني، يا بني إسرائيل! لقد أنقذناك من عدوك (فرعون) وأعطيناك وعداً على الجانب الأيمن من الجبل (أعطينا موسى تورات أن يتبع قوانينه)، كما أنزلنا إليك المن والسلوى، الله تعالى يخاطب هنا يهود زمن النبي صلى الله عليه وآله سلم مذكراً إياهم بفضل الله على آبائهم في زمن موسى عليه السلام، ولما قضى الله تعالى على فرعون وجيشه، أمر موسى واليهود بالتوجه إلى جبل سيناء ليخاطب ربه هناك، ومن تاب عن خطاياه يغفر له بالتأكيد، أي أن إيمانه وتوبته وعمله الصالح ثابت، وهنا يمكن أيضاً أن يقصد بالنور والمعرفة التي وهبها الله قلوب الذين تابوا وآمنوا وعملوا الصالحات.
لقد استلم نبي الله موسى عليه السلام أمر الله له واليهود بالقدوم إلى الجبل، فأسرع وحده في تنفيذ الأمر بسرعة، طالباً رضا الله، وترك عوضاً عن نفسه زعيم شقيقه هارون، هنا يرى الزمخشري أن نبي الله موسى سار مع الناس المختارين إلى المكان الموعود على الجبل، ثم انتابته رغبة شديدة في سماع كلام الله بسرعة، “فإنا قد فتنا قومك من بعدك وأضلهم السامري”، لقد أضلهم وأبعدهم عن عبادتك.
بالتالي، نلاحظ أن الأسلوب القرآني تحدده الأهداف العامة للوحي – للإقناع بصدق أحكام الإيمان والتشجيع على مراعاة وصاياه، لأنالدعوة القرآنية موجهة لجميع الناس وبما أن الناس يرون المعلومات بشكل مختلف، خاصة إذا لم تكن مبنية على الخبرة التجريبية، فإن النص القرآني مليء بالحجج التي تؤكد صحتها، زد على ذلك الحكم الإلهية التي هي مقاصد شرعية تسيّر حياة الناس وتنظم حياتهم ومجتمعاتهم، فلم يكن الوحي حكراً على شخص النبي، بل كان النبي هو الناقل لتعاليم الخالق عز وجل من أجل تعميمها ونشرها على الجميع، فالزكاة والصدقة والفطرة والحياة البشرية ككل، إن لم تقترن بالإيمان المطلق والتسليم فحتماً هناك نقصاً ثقافياً كبيراً في الدين والعلم.
وفي هذه الأيام المباركة نسأل الله تبارك وتعالى أن يمدنا بوافر رضاه وينعم علينا وعلى الجميع بالأمن والأمان.
عبد العزيز بدر القطان
*كاتب ومفكر – الكويت.