الإنسان هو أساس الوجود في الأرض، وحامل لواء الشريعة الإسلامية، وهو المخلوق الذي تدور حوله عناصر الطبيعة، وقد كرمه الله بالخلق في أحسن تقويم، وقد خلق الإنسان في تعب ومشقة، فهو يقاسي الصعوبات بشتى أصنافها منذ ولادته حتى وفاته، فسيرة حياته عبارة عن أزمات متتالية وشدائد قاسية، فهو يكابد أمر الدنيا والآخرة . وهذا أمر منطقي لأنه الدنيا هي فترة إمتحان وعملٌ دؤوب، وأكثر الناس فيها تائهون يسلكون طرق فرعية، وغير قادرين على معرفة الطريق الرئيسي الذي يجعلهم سعداء في الدنيا وفي الآخرة في جنات النعيم . والعاقل في هذه الدنيا يمتاز بالتواضع فهو لا يتكبر لأنه دائمًا يتذكر أصله البسيط، فهو مخلوق من صلصال لا قيمة له، فلا داعي للتكبر والغرور، فلا يتكبر على خالقه، بل يخضع له، ولا يتكبر على الناس، وإنما يتواضع لهم، ويمد لهم يد المحبة والألفة والسماحة والود والوئام والتقدير والاحترام.
والمجتمع الإسلامي نسيج متين، ومنظومة متكاملة، ووحدة واحدة، ولا يمكن الحفاظ على هذه المبادئ الراسخة إلى بتجذير العلاقات الإجتماعية، وتعزيز الروابط بين الناس، وترسيخ الوشائج بين الأقارب، وبالحب والمودة تبنى القاعدة الإجتماعية، فينبغي تشييد العلاقات الدافئة بين الأفراد، وإذابة الجليد بين مفاصل المجتمع، وذلك من أجل النهوض بالمجتمع بكل أجزائه.
وهذه العلاقة المنشودة لن تتحقق إلى بتعميق منظومة التسامح وترسيخ مبادئ العفو والصفح وكظم الغيظ، ويجب ألا ننسى أن الإنسان كائن غير معصوم، ولابد أن يخطئ، والمجتمع هو كيان بشري مليء بالإيجابيات والسلبيات على حدٍ سواء، ولا أحد يطالب المجتمع بأن يكون ملائكيًا أو معصومًا، ولكن الواجب هو دعم الإيجابيات وتكثيرها ومحاربة السلبيات وتقليلها، والقاعدة الخالدة في هذا السياق هي أن الله تعالى لا يغير أحوال الناس، إلا إذا غير الناس ما بأنفسهم ومن هنا ينبع التغيير.
والإنسان مهما كان قويًا، ومهما أمتلك من الصحة والمال والسلطة فلن يصبح خالدًا، لأن لكل إنسان نهاية، وهو راحلٌ والآخرون راحلون عن الدنيا الفانية، نعم الجميع راحل عن هذه الدنيا فحضارات وأمم قد سقطت واندثرت وزالت من على هذه الأرض ولم يبقى لها باقية، فكيف هو حال الإنسان الضعيف؟ وما دام الإنسان على قيد الحياة فهي فترة الإمهال من الله له حتى يصحح المسار لأن غدًا لا ينفع التمني ولا الندم؛ فبادروا أيها المتخاصمون في كل مكان بالصلح والتصالح فيما بينكم وسامحوا بعضكم البعض حتى يكون مجتمعنا مجتمعًا متماسكًا، لأن الخصام والتنازع بين الأخوة والأصدقاء والجيران يشتت الجهود الإنسانية، ويفرق الكلمة، ويبعثر الأفكار. وهذا المناخ الموبوء يهدم أركان المجتمع، والأمر يتطلب أن يتكاتف الجميع وتسود بينهم روح الإخاء، فالإخاء يحولهم إلى جسد وعقل واحد وهذه هي القوة الحقيقية في أبهى صورها.
ولا يكفي أن يكون الإنسان صالحًا بل عليه أن يكون صالحًا ومصلحًا في آنٍ واحد، فالإصلاح بين الناس منظومة دينية وثقافية واجتماعية، وهذا ما يزرع القوة في الأفراد ويجعلهم شديدي التمسك، وتتلاشى نقاط الضعف في المجتمع شيئًا فشيئًا، ويصبح على قلب رجلٍ واحد، قال الله تعالى “وأصلحوا ذات بينكم” (الأنفال 1) وهذا توجيه رباني للمؤمنين بأن يصلحوا أحوالهم ويبتعدوا عن الفرقة والنزاع، ويتمسكوا بالوحدة والألفة وذلك بإزالة الشحناء بين الناس وإتباع منهجية الإصلاح.
من المؤسف حقًا أن تمر على الإخوة والأخوات والأقارب والأصدقاء والجيران شهور وسنوات وهم متخاصمين، لا يكلم الإبن أباه ولا يكلم الأخ أخاه ولا يكلم الصديق صديقه ولا يكلم الجار جاره، لأسباب وأحداث ووقائع بسيطة وقعت على أثر ذلك القطيعة، والجميع راحل عن هذه الدنيا الزائلة ولن يبقى إلى الأثر الجميل الطيب والأخلاق الحميدة الكريمة . فلماذا كل هذا الجفاء والحقد والبغظاء ونحن أقارب أو بيننا نسبٌ أو صداقةٌ أو جيرة، تسامحوا وتصالحوا أيها المتخاصمون فقد ينام أحدكم للأبد، وأعفو عن من ظلمكم فقال تعالى ” فمن عفا وأصلح فأجره على الله ” والإنسان لا يعلم متى يأتيه الموت فالموت يأتي بغتة ودون سابق إنذار، فاسألوا عن بعضكم وتواصلوا وزوروا أرحامكم وأقاربكم وجيرانكم وأجتنبوا العتاب وأتركوا الأحقاد، وكونوا متحابين فيما بينكم واستغلوا الأيام والسنوات الجميلة التي جمعت بينكم فإنها لا تعود.وعليكم بالتواصل مع أفراد المجتمع وتقديم النصح والإرشاد لهم لأن للتوعية أهمية بالغة للإنسان كالماء والهواء ودون التواصل لا يعيش الإنسان ولا ينمو ولا يتطور.
المسلم ينبغي عليه أن تكون أعماله كالنحلة التي تطير لأميال كثيرة وتقطع المسافات الشاسعة، كي تحط على الكثير من الأزهار والنباتات، وتمتص ما لا يحصى من ألوان وأشكال الرحيق، ثم تحيله إلى شراب، به شفاءٌ للناس، وذلك الشراب لا يشبه أي شيء مما حطت النحلة عليه، وهكذا هو الإنسان المسلم أعماله كلها خير ومنفعة لنفسه وللآخرين . حتى تصبح حياته أكثر جمالًا وإثمارًا وتتفتح أمامه سبل النجاح.
اعلموا أيها الإخوة والأخوات أن الخلافات والنزاعات تحدث بين الناس كانوا أقارب أو غير ذلك فهم ليسوا ملائكة وليسوا معصومين، ويتطلب الأمر عند حدوثه مثل هذه الخلافات بين طرفين أن يتدخل طرفُ ثالث للاصلاح بينهم من أجل إستئصال الفتنة وتنقية القلوب من الضغائن، ويتوجب على الأخ ستر عيوب أخيه المسلم ونشر فضائله، وأن لا يلاحق سقطاته وأخطائه ولا يتصيد عثراته بل يلتمس له الأعذار، ويتذكر محاسنه وصفاته الحسنة وينظر إلى النصف الملآن من الكأس ولا ينظر إلى النصف الفارغ.
وقال الشاعر :
من يفعل الخير لا يعدم جوائزه // لا يذهب العرف بين الله والناس
والإنسان لأخيه الإنسان، ينصحه ويساعده ولا يخونه ولا يخدعه، لأنهم كيان واحد يسوده العدل والإخاء والرحمة، يساعدون بعضهم البعض في الطاعات والمباحات، ويستر أحدهم على الأخر ولا يفضحه، وهناك من الناس للاسف الشديد من يملكون أجسام قوية، وأشكال جميلة لكنهم مرضى نفسيون، قلوبهم مريضة عامرة بالحقد والبغضاء والنفاق.
إن قيم التسامح النبيلة (العفو والصفح وكظم الغيظ) منهج أخلاقي متكامل ومن شأن هذه القيم النهوض بمستوى الفرد روحيًا وماديًا، وتقوية المجتمع في كل مجالاته، لأن المجتمع لا يمكن أن يقوم على قواعد الكراهية والحقد والظلم وإنما يقوم على القيم الأخلاقية الشريفة، والعفو صفة شريفة فهي الرحمة بالآخرين، والتجاوز عن أخطائهم، والأخذ بأيديهم إلى بر الأمان، فالإنسان الذي يتصف بصفة العفو والتجاوز عن سقطات الناس، هو كبير في عيون الجميع ينظر إليه كإنسان كريم عزيز فيصبح له مقام رفيع في قومه.
كما أن كظم الغيظ صفة عظيمة لا تصدر إلا عن النبلاء قال الله تعالى “والكاظمين الغيظ” ( آل عمران: 134)، فكظم الغيظ هو إنتصار الخلق الرفيع عن النفس الأمارة بالسوء، فالكاظمون الغيظ يكتمون غضبهم فلا يصل أثره إلى الناس، ويحتسبونه عن الله تعالى، وهذه هي الأخلاق النبيلة التي لا تصدر إلى من شخص قوي استطاع التحكم بأعصابه وضبط مشاعره ولم يترك نفسه فريسة للغضب والتصرفات الطائشة.
إننا في الأيام الأخيرة من شهر رمضان المبارك، شهر الرحمة والغفران، مقبلون على أيام عيد الفطر السعيد وهي مناسبة عظيمة لإذابة جليد الخصومة والتسامح والتصافي وطلب العفو عن بعضنا البعض، تاركين الخلافات والمشاحنات الماضية وراء ظهورنا، وأن نفتح صفحة بيضاء ناصعة البياض كلها عفو وتسامح لحياة سعيدة جميلة خالية من النكد والكدر حتى نعيش سعداء وفي محبة وإخاء ووفاء وعطاء، والرجاء كل الرجاء بإستغلال هذه الأيام العظيمة للتآلف والتآخي والتسامح والتصالح حتى تكون علاقاتنا قوية وتدوم الألفة وتزيد المودة والمحبة فيما بين الناس.
وأخيرًا.. نرجو أن يتقبل الله منا ومنكم الصيام والقيام وصالح الأعمال، وكل عام وعمُان وسلطانها وشعبها والمقيمين على أرضها بألف خيرٍ وسرور وودٍ ووئام وسعادة وسلام.
حمد الحضرمي – محامٍ ومستشار قانوني