حقيقة مؤلمة ينطلق منها طرحنا لهذا الموضوع تتمثل في أن الكثير من الأُسَر المعسرة ومحدودة الدخل والأُسَر التي سُرِّح عائلها وأمثالها من الأُسَر التي باتت تقترب من سقف العوز ومؤشر الفقر، تنتظر المواسم الدينية (شهر رمضان المبارك، وعيدي الفطر والأضحى) بكُلِّ ترقُّب وشغف؛ لأنَّها باتت تفتح أعيُن الناس عليها، وتتجه أنظار الفرق الخيرية وأصحاب الأيادي الخيِّرة إليها، في حين ظلَّت شهور العام وأيامه من غير اهتمام أو متابعة لحالها، فلم تجد مَن يواسيها في محنتها ويستجيب لاستغاثتها ويتعرف على ظروفها ويمدُّ يد العون إليها، أو يحنُّ عليها بمكرماته، إلَّا مع بدء هذه المواسم على الرغم ممَّا ورَد في هذا الشأن من أنَّ أفضل عمل الخير أدومه وإنْ قلَّ؛ ذلك أنَّ الحالة الإنسانية التي احتاجت إلى هذه المؤونة من الطعام والغذاء والكسوة في رمضان والعيدين، أو حاجتها لبعض الكماليات التي تحتاجها لتحفظ وتنتج من خلالها هذا الطعام كأجهزة الطبخ والتبريد وغيرها كما كانت بحاجة إلى هذه المساعدات في رمضان، فهي بحاجة إليها أيضًا في غير هذه المواسم الثلاثة، ولأنَّها ما زالت تعاني من تراكمات الحياة وافتقدت مَن يجدد لها الاحتواء والرحمة والعطف، لذلك كانت صورة الفرح والاستبشار والبهجة التي تعيشها الكثير من الأُسَر المعسرة في هذه المواسم الدينية أكبر من تخيُّلها وأعظم من تصوُّر وقْعها وتأثيرها على حياة هذه الأُسَرة وإشراقتها وابتسامتها، وإضافة التجديد لها في قادم أيامها وهي تصنع من هذا الدعم والمساندة روح التغيير وحُب الحياة لتنتعش فيها الآمال الكبيرة بأنَّ الحياة بخير والقادم أفضل.
وعليه، يطرح هذا الأمر نقاشات حول فلسفة العمل الخيري، وما إذا كانت مرتبطة بعقيدة ومبدأ ومنهج ومسار واضح ينبئ عن ممارسة مستديمة وعادة أصيلة، وبين أنْ يكون حالة وقتية مزاجية أو مرتبطة بالمواسم الدينية؛ نظرًا لِما دلَّ عليها من وفضل الصدقة وزيادة الأجر والثواب، ممَّا يعني الحاجة اليوم إلى قراءة متجدِّدة لمفهوم العمل الإنساني الخيري في مجتمع سلطنة عُمان، وعبر استنهاض روح المبادئ الوطني السامية المؤصلة لمفهوم التكامل والتعاون والتعاضد والأخوة واستنطاق القِيَم الإيمانية والدينية التي تُمثِّل ثوابت أصيلة في المجتمع العُماني. ورغم أنَّ هذا السلوك بات يطرح في ذاته شجونًا كثيرة، منها اتساع مساحة العوز التي يعيشها الكثير من الأُسَر العُمانية خارج منظومة الضمان الاجتماعي، في ظلِّ هذا المنحى الذي بات يقصر العمل الخيري على المواسم الدينية، أو أنَّ البحث عن هذه الفئات والاقتراب منها لتعرف ظروفها، حالة وقتية مرتبطة بزمن محدَّد ومناسبات ومواسم محدودة، فإنَّها تؤكد حقيقة أخرى يجب أنْ يدركها المجتمع عامَّة والقائمين على العمل الخيري في محافظات سلطنة عُمان أو أصحاب الأيادي الخيِّرة والمبادرات التعاونية الجادَّة، والقائمين على رعاية هذا الأمر؛ أنَّ العمل الخيري لا يرتبط بالمواسم ولا ينتظر من يطلبه من المحتاجين والمتعففين من المواطنين، لذلك يجب أنْ يضع في فلسفة عمله الاستدامة والاستمرارية، وأنْ يدرك مَن التزموا بتقديم العمل الخيري للناس عبر الجمعيات الخيرية أنَّ المسؤولية الأخلاقية والأمانة الإنسانية تقتضي اليوم أنْ يتحوَّل العمل الخيري بكُلِّ تفاصيله إلى سلوك مجتمعي مستدام وممارسة أصيلة ونهج مستمر، يتجاوز رمضان والعيدين إلى بقية الشهور الأخرى.
وبالتالي ما يعنيه ذلك أنَّ سلوك العمل الخيري يجب أنْ يأخذ منحى الاستدامة والاستمرارية، ويمتلك روح المرونة والتغيير، وينظر في طبيعة الاحتياج الذي تعيشه الأُسَر على اختلاف الأزمنة والأوقات، والمواسم والمواقف، فهي تمرُّ عليها ظروف أخرى لها ثقلها على حياة الأُسَرة واحتياجات أبنائها وتحقيق متطلباتهم اليومية، كالعودة إلى المدارس في الفصلين الدراسيين الأول والثاني، واحتياجات أبنائها من الحواسيب الآليَّة والمستلزمات الدراسية من الدفاتر والأقلام والحقائب وغيرها، فإنَّها أيضًا تعيش الظروف الناتجة عن ارتفاع فواتير الكهرباء والماء في الصيف، وحاجتها إلى أجهزة التبريد والتكييف، كما تواجه مشكلة ارتفاع الأسعار وصعوبة توفير الكماليات الضرورية التي باتت الحاجة ماسَّة إليها لحياة آمنة مطمئنة، بما يؤكد أنَّ استدامة العمل الخيري، الطريق الذي يوصل إلى استقراء واقع هذه الأُسَر والتعايش معها واستحضار ظروفها ونقله إلى الشعور الجمعي كالتزام مجتمعي عليه أنْ يؤدِّيه في سبيل ضمان تحقيق مفهوم أعمق للعدالة والحماية في ظلال العمل الخيري وعندها ستجد هذه الأُسَر من العناية واللطف والعطف والدعم والمساندة والأخذ بيدها وأطفالها ما يبقي حبل الترابط المجتمعي قويًّا ومنظومة التكافل الاجتماعي حاضرة، وليجدوا في ظلِّ هذه الروح المجتمعية التعاونية والتكافلية مساحة أمل ونافذة متجدِّدة للعيش المشترك والتكيف مع الظروف الصعبة في العيش في رحاب السلام والأمن والطمأنينة والفرح، وليجدوا في هذه المساحة من الدعم فرصتهم في تجديد الولاء لهذا الوطن وتعظيم قدرة واستشعار روح المودَّة والرحمة والودِّ والتعايش والوئام والتكامل. إنَّها جسور من التواصل الممتدَّة، ومحطَّات من العطاء المتجدِّدة التي تستنهض في الإنسان قِيَم العمل والصبر والإنجاز والإنتاجية، وتستنطق فيه قِيَم البِر والإحسان والخيرية والتعاون.
ومع التأكيد أنَّ أهمِّية أنْ يمارس المجتمع دَوْره بكُلِّ احترافية ومصداقية في انسيابية منظومة التكافل الاجتماعي والعمل الخيري، وتعميق حضور قِيَم التطوع والصدقة وتفريج الكرب، والتخفيف عن الناس، فإنَّه أيضًا محطَّة اختبار لتجسيد الهُوِيَّة العُمانية وما تحمله من قِيَم الخيرية والبِر والتعاون والتكافل، ويؤسِّس لمرحلة متقدِّمة من العمل الوطني الذي تنشط فيه جهود مؤسسات المجتمع المدني من أجل الوقوف على الحياة اليومية للأُسَر وتخفيف الأعباء المالية عنها، وتشجيعها على إنتاج الفرص، إلَّا أنَّ تزايد أعداد الأُسَر المُعسِرة وارتفاع سقف الاحتياج لها في ظلِّ تنوُّع متطلبات الأُسْرة قد يثقل كاهل الفرق الخيرية والمتاح لها من الإمكانات، ويستدعي منها الكثير من الالتزامات في الوفاء بمسؤولياتها، ممَّا يعني أنْ تنشط الاستجابة المجتمعية في تقديم العمل الخيري وعبر مبادرة أصحاب الأيادي الخيرة والمبادرات الفردية والمؤسسية من القطاعَيْن الحكومي والخاص وغيرهم من التجار والمؤسسات والمجتمع أفرادًا وجماعات، الأمْرُ الذي سينعكس إيجابًا على قدرة هذه الفرق الخيرية واللجان العمل التطوعية بالمحافظات في رفد هذه الأُسَر بالمُؤن والسلع، كما يتيح لها فرص تقديم النقد لها لفك الكربة أو دفع بعض الفواتير والمستحقات المرتبطة ببعض الالتزامات الناتجة عن غلاء الأسعار وارتفاع الفواتير وغيرها؛ فإنَّ المؤمل اليوم في ظلِّ هذا الهاجس الذي بات يلازم الأُسَر المُعسِرة ومحدودة الدخل والأُسَر التي سُرِّح عائلها أنْ تكون الصورة النشطة للعمل الخيري الذي يستشعر نفحات شهر رمضان الفضيل والحكمة العظيمة من تشريف الله عزَّ وجلَّ لأُمَّة الإسلام بزكاة الأبدان وعيدَيْ الفطر والأضحى، محطَّة متجدِّدة لاستدامة استحقاقات العمل الخيري في جميع الأشهر وسائر الأيام.
من هنا نعتقد بأنَّ معطيات الواقع الاجتماعي اليوم فيما يتعلق بتأثير الظروف الاقتصادية التي أسهمت في بروز هذه الفئات في المجتمع، تؤسِّس لدَوْرٍ أكبر تقوم به المحافظات، ممثَّلة في المجالس البلدية ومكتب المحافظ والولاة والمساعدين في ولايات المحافظات، نحو بناء روح تواصلية مع المجتمع، في رصد أعداد هذه الفئات خارج الضمان الاجتماعي والتي تعيش اليوم حالة صعبة بكُلِّ ما تعنيه الكلمة من معنى، وأنْ تنشط الفرق الخيرية في تقديم الدعم والمساندة الفورية لها، على أنْ تلتزم في نهجها مسار الاستدامة والاستمرارية وعدم الاقتصار على المواسم التي أشرنا إليها، لتصبح قافلة العمل الخير تجوب الأحياء السَّكنية وتقدِّم نواتج الخير لكُلِّ المحتاجين من أبناء ولايات المحافظة دُون استثناء، آخذةً في ذلك بمبدأ الأولويات والضرورات، وتحديد طبيعة الاحتياج ونوع السلع الاستهلاكية والمواد الغذائية والكماليات التي تحتاجها الأُسَر في إطار من التشخيص والتحليل والرقابة والتقييم المستمر لنواتج هذا العمل، حاملةً معها الحلول التي تحفظ لهذه الأُسَر تماسكها وودَّها. وتبقى الإشارة إلى أنَّ تحقيق تحوُّل ملموس في ممارسة العمل الخيري ونقله من الوقتية والمزاجية إلى الاستدامة والمهنية وفق منظومة وطنية تمتلك الصلاحيات والممكنات والجاهزية، ويقوم على رعايتها المخلصون من أبناء ولايات المحافظة، وتنشط خلالها لجان العمل التشخصية والتحليلية والرقابية والتقييمية التي يتمُّ تشكيلها على مستوى الولايات لضمان شمولية واتساع حصر هذه الفئات وامتلاك أدوات دقيقة وعملية وأكثر مرونة وتجددًا في البحث والاستقصاء لتسجيلها، بعد اكتمال البيانات حولها وتوفر المعلومات الدقيقة والواقعية بشأن ظروفها، ذلك أنَّ الوصول إلى تحقيق بحث اجتماعي حول حالة الأُسَر وظروفها بحاجة اليوم إلى قواعد بيانات متكاملة ومحدَّثة بأعداد هذه الأُسَر، وظروف عائلها وأعداد المسرحين أو الباحثين عن عمل فيها أو الأطفال والكبار الذين هم بحاجة إلى رعاية خاصَّة، الأمْرُ الذي يقدِّم صورة مبتكرة وأكثر عملية واحترافية في سرعة رصد هذه الفئات وتقديم الاستجابة الفورية لهم، وتقديم الدعم لهم، والظروف التي تواجهها، وحجم المعاناة التي تعيشها.
أخيرًا، يبقى العمل الخيري أعظم صُوَر البِر والإحسان، ويعكس عُمق الإنسانية في أعظم تجلِّياتها وهي تستشعر مسؤولياتها الأخلاقية وأمانتها على الأرض، في سُموِّها ورُقيِّها، وتخلِّيها عن أنانية النَّفْس وأثَرَة الذَّات، لتتجه بإرادة واعية، ورغبة أكيدة، وحسٍّ مسؤول، وصدق ضمير إلى خدمة الآخرين وعونهم، والوقوف معهم، ومساعدتهم بالمال والنَّفْس. إنَّها أصدق تعبير للإنسانية، إذ يتخلَّى فيها الفرد عن فوقيَّته فيتماهى مع المجتمع بقلبه وعقله وفكره وإنجازاته، فيقدِّم مصلحة الآخرين على نَفْسه، وينزِّه نَفْسه عن كُلِّ أشكال الأنانية والأثَرَة، وينزل من حاجز السُّلطة والفوقية ليشارك المجتمع أهدافه وغاياته، ويضحِّي بوقته وجهده من أجل إسعادهم. إنَّ العمل الخيري بذلك نافذة للحياة في ظلال الإسلام والسلام والأمن والإنسانية والتسامح، تستوعب الظروف التي يمرُّ بها الآخر، وتقف على واقع التحدِّيات التي يواجهها المواطن، لتبقى الممارسات الإيجابية النافذة التي يسطرها بأحرُف من نور شواهد عمل راقية، وثوابت إنجاز ساطعة، واقع العمل الخيري في بعض ولايات سلطنة عُمان وقراها وأحيائها السكنية، رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه، أخلصوا العمل وأدَّوا الأمانة، والتزموا المسؤولية في حجم ما يبذلونه من جهود في نشر مظلَّة العمل الخيري في بلدانهم، وحثِّ المجتمع على الصدقة والبِر والإحسان، وتقديم المعروف والدعم المالي والمادي للكثير من الأُسَر المُعسِرة ونظيراتها من الأُسَر خارج منظومة الضمان الاجتماعي حتى انبرى فيهم الصغير والكبير والغني وصاحب الفضل ليقدِّم ما لديه مشاركة منه في الفضل وسعيًا منه في لَمِّ الشَّمل، فلهم التقدير وعظيم الامتنان.
د.رجب بن علي العويسي