يُمثِّل الاهتمام بالتعليم التقني والمهني خيارًا استراتيجيًّا لتعليم يتناغم مع اقتصاد المعرفة، وينقل المحتوى التعليمي من التنظير إلى التطبيق، وهو أحد المرتكزات التطويرية المعبِّرة عن مرونة النظام التعليمي وقدرته على تحقيق تحوُّل أفضل للتنويع في المسارات، الأمر الذي يمنح الطلبة فرصًا أكبر للانخراط في سوق العمل والتوجُّه نحو إكساب المهارة حسَّ الإنجاز وقيمة التأثير وفقه الممارسة وإخراجها من حالة التراكمية السلبية إلى الإنتاجية. ولم تعد مسألة الاهتمام بهذا النوع من التعليم حالة خاصة بأنظمة التعليم في الدول النامية أو الأقل تطورًا، بل قد اعتمدته أفضل الأنظمة التعليمية نجاحًا في العالم، لتجعل من التعليم التقني والمهني خيارًا ذا أولوية في خططها الدراسية في التعليم المدرسي، وضبطت ذلك بالمزيد من السياسات والمرتكزات والمبادئ والتشريعات التي تحفظ حقَّ المخرجات في التوظيف واكتساب المعرفة المتجدِّدة المرتبطة بتجدُّد الميكنة الصناعية والأدوات المستخدمة فيها، ومنحهم فرصًا أكبر في الاستفادة من نواتج التعليم في مسارات حياتهم القادمة.
ولعلَّ سرَّ هذا الاهتمام يرجع إلى كون التعليم التقني والمهني ركيزة من أهم الركائز التي يعتمد عليها النمو الاقتصادي، حيث يعمل هذا النوع على إيجاد التعددية في المِهن والحرف التي تُلبِّي متطلبات مؤسسات العمل الوطني، والتي تشهد نشاطًا استثماريًّا متزايدًا وحراكًا اقتصاديًّا يتزامن ومتغيرات دولية وإقليمية، وتحوُّلات كبيرة في منظومة الاقتصاد والعمل الوطنية الناتجة عن إعادة هيكلة الجهاز الإداري للدولة، وافتتاح ميناء الدقم والمنطقة الاقتصادية التي ستقدم فرصًا استثمارية كبيرة في مجالات الصناعات التحويلية واللوجستيات، وإنتاج الطاقة والطاقة المتجدِّدة، وتسعى إلى تحقيق مفهوم أعمق للاستدامة الاقتصادية من خلال التركيز على الاقتصادات الواعدة، ما يعنيه ذلك من أهمية تطوير هذا النوع من التعليم والتدريب بغية التنمية التقنية والمهنية للقوى العاملة الوطنية والموارد البشرية التي تُشكِّل رافدًا أساسيًّا في تنفيذ الخطط الاقتصادية والاستراتيجية التنموية للبلاد، الأمر الذي يضع من اقتصاد المصانع والمهارات الحياتية والمهارات التقنية في أولويات التعليم لِسَدِّ النَّقص الحاصل في القوى العاملة الوطنية في القطاع الحاص، وتقليل مسار الاتجاه إلى الوظيفة الحكومية في ظل تشبُّع الجهاز الإداري للدولة، والذي يمكن أن يسهم فيه التعليم التقني والمهني بشكل نوعي في ظل إعادة تصحيح مسار القطاع الخاص وحوكمته وجهود الحكومة نحو توجيه الشباب نحو اكتساب ثقافة العمل الحُر القائم على الاعتماد على النفْس والتركيز على كفاءة ريادة الأعمال والتوسُّع في الأنشطة الاقتصادية للمؤسسات الصغيرة والمتوسطة.
على أن اتساع مفاهيم التعليم التقني والمهني ومدلولاته المعبِّرة عن دراسة التقنيات والعلوم ذات الصِّلة، واكتساب القدرات العملية، والمواقف، والإدراك والمعارف ذات الصِّلة بمِهن الحياة الاقتصادية والاجتماعية على اختلافها، ودَوره في تعميق مسار التعليم للحياة، وخلق تناغم بين التعليم كمنهج ومسار ومنظومة تعلُّم توظف أبجدياتها في اقتصاد الصناعة والزراعة والتجارة والمِهن التقليدية؛ وتعميق حضور هذا النوع من التعليم في فكر الأجيال منذ سنوات مبكرة ليصبح التعليم التقني والمهني قاطرة عبور للمستقبل ومحطَّة تحوُّل تصنع في المخرجات قيمة المهارة وتعظيم الإدارة وقوة المعرفة والاتجاه إلى التجريب والتطبيقات العملية، والتي بِدَوْرها تؤصل في مسار التعلم مبدأ الابتكارية والتجديد والتنوع واكتساب المهارة وتجريبها في مواجهة سلوك التقليدية والتكرارية والروتين التي قد يواجهها المتعلم في أنظمة التعليم الأكاديمي العام، وهو بذلك يتعدى حدود التخطيط الاقتصادي البحت، إلى كونه جزءًا من رؤية موسعة لتعزيز التنمية المستدامة وخلق الفرص للإنسان لحياة أفضل، وتوجيه التعليم التقني والمهني إلى تقديم حلول للمشكلات المرتبطة بالباحثين عن عمل والمسرَّحين من أعمالهم وإعادة إنتاج مفهوم العمل الحُر، بالإضافة إلى تقديم حلول مقنعة فيما يتعلق بمشكلات البيئة والنظافة والتلوث وغيرها من الممارسات التي باتت تقرأ في فاعلية هذا النوع من التعليم وانتقاله إلى الممارسة الحياتية الشاملة، مساحة تحوُّل تصنع لحضور التعليم التقني والمهني في التعليم المدرسي تحوُّلًا في إعادة إنتاج السلوك وإكساب المهارات العملية الناعمة والتقنية، والتوظيف الأمثل للمهارات الذاتية والتسويق لها، الأمر الذي يتطلب اعتماده على سياسات أكثر نضجًا وابتكارية واستدامة واحترافية تؤدي بِدَوْرها إلى خلق استراتيجيات تعلُّم وتعليم جديدة للتعليم مرتبطة بالتدريب التقني والمهني المؤصل للمهارة، بالإضافة إلى اعتماد مفهوم أوسع للتعليم التقني والمهني يتجاوز سطحية النظرة؛ باعتباره ركيزة من ركائز التعليم مدى الحياة، لهذا يتوقع من عمليات إعادة هيكلة بنية التعليم وتعظيم دَوْر التعليم التقني والمهني في مرحلة التعليم المدرسي، أن تُشكِّل مُكوِّنًا أساسيًّا في الوصول إلى مستهدفات رؤية عُمان 2040 التعليمية، وتعزيز حضور التعليم في بناء الاقتصاد وتحقيق الاستدامة.
من هنا، فإن الوصول بالتعليم التقني والمهني إلى تحقيق المواءمة مع مُكوِّنات المجتمع؛ باعتباره طريق القوة الاقتصادية، يتطلب اليوم بالإضافة إلى ما أشرنا إليه جملة من الموجِّهات التي يجب أن تعمل المنظومة على تحقيقها في الواقع، من حيث رفع درجة الاستحقاق لهذا النَّوع من التعليم، فهو لا يتَّجه إليه الطلبة ذوو المستويات التحصيلية المتدنية، بقدر ما هو مسار مفتوح لجميع الطلبة، كما أن لا يحصر المدخلات التعليمية في مساره التقني والمهني بقدر ما يفتح الخيارات لطلبة التعليم الأساسي لاختيار نوع التعليم الذي يتناسب مع ميولهم وقدراتهم ويحقق رغباتهم، وأن يبني في مدخلاته قناعات أخرى تقوم على قاعدة أن النجاح في البرامج التقنية والمهنية يمكن المتعلمين من الانتقال إلى المجالات الأكاديمية، فهو ليس دائرة مغلقة منتهية بتوظيف الخريج وانتقاله إلى التطبيق بقدر ما تفتح له المجال نحو الانتقال للتعليم الأكاديمي وغيره وفق معايير مقنعة ومعلومة من جميع الطلبة، وبالتالي أن تقوم مؤسسات التعليم بالعمل على تعزيز برامج الجودة والتحسين المستمر في إطار إيجاد معايير ومواصفات دقيقة ذات علاقة بمتطلبات المواصفات الوظيفية، بحيث تراعي جودة البرامج التدريبية، والتقييم المستمر للنظام، وانتهاج سياسات لتحديث أنظمة التعليم والتدريب التقني والمهني والخطة الدراسية بإدخال أنماط جديدة إليها؛ بهدف تسهيل الجمع بين العمل والدراسة وإحداث تحسين في أنظمة التقييم وآليَّات التدريب وبرامج العمل والتخصصات والمساقات المطروحة، بحيث يضمُّ برامج تؤهل للحصول على المؤهل الجامعي في دراسة تطبيقية تعطي الفرصة لذوي الميول والقدرات التطبيقية في تحقيق مؤهلات أعلى تتناسب وقدراتهم وميولهم لذلك كان من الأهمية أن تكون حلقات هذا التعليم متواصلة ومفتوحة مع حلقات التعليم العام وتسمح بحركة ومرونة الانتقال بينهما في يسر حسب متطلبات الاقتصاد الوطني وتطلعات وقدرات المخرجات الوطنية.
عليه، فإن سعي سلطنة عُمان إلى تحقيق الاستدامة الاقتصادية، وتعزيز بناء مفهوم ذاتية الاقتصاد والاستفادة من الفرص الوظيفية في القطاع الخاص والتي توفرها اليوم المدن الاقتصادية في الدقم وصحار وصلالة وغيرها تستدعي تعظيم الفرص الداعمة لوضع التعليم التقني والمهني للمنافسة في الاقتصاد العالمي القائم على المعرفة، وأن تمهِّد التوجيهات السَّامية لجلالة السُّلطان المُعظَّم حول التعليم التقني والمهني إلى تبنِّي سياسات تعليمية أكثر مرونة في أنظمة التعليم التقني والمهني. فمن جهة نعتقد بأن الخطة الدراسية التي عملت عليها وزارة التربية والتعليم بحاجة إلى تنشيط لكل حلقاتها وبرامجها التوعوية والتثقيفية والإعلامية، وعبر تحسين صورة التعليم التقني والمهني لدى الطلبة وأولياء الأمور ومؤسسات الاقتصاد وتعزيز فرص توظيفهم وترقيهم وابتعاثهم، وأن تتجه الجهود نحو إزالة سوء الفهم واللبس والنظرة السلبية الضيقة حول نظام التعليم التقني والمهني، بالإضافة إلى حوكمة قطاع التعليم التقني والمهني وعبر وضع التشريعات والأنظمة والضوابط والمحفزات والإجراءات العملية التي ترفع سقف التوقعات الوطنية في هذا النَّوع من التعليم، وترقع مسار الجودة والفاعلية في السياسات لتغيير أوضاع التعليم والتدريب التقني والمهني، وإزالة الحواجز بين التعليم العام والتعليم التقني والمهني، فإن توفير خريجين يمتلكون المعرفة والمهارات المطلوبة لتلبية احتياجات قطاع الأعمال والقطاع الصناعي، يؤسس لمرحلة متقدِّمة في مسار الإنتاجية والتطبيقات العملية في بيئات التعليم بالمدارس ذلك أن التعامل مع المواد الدراسية في هذا النَّوع من التعليم والمرتبطة بالعلوم والتقانة ومواد التعليم والتدريب التقني والمهني لا يُمكن تحقيقها بفعالية ما لم تنشأ شراكة قوية بين المؤسسات التعليمية وشركات القطاع الخاص بحيث تتبنى الأخيرة نماذج تدريسية معتمدة؛ باعتبارها نظام محاكاة لتدريس المعارف والمهارات ذات الصِّلة بهذه المواد في المدارس ليتمَّ تطبيقها من بعد في شركات ومؤسسات قطاعَي الأعمال والصناعة. إن التحدِّي الأكبر الذي نعتقد بأن مؤسسات التعليم التقني والمهني أن تتعامل معه يكمن في طبيعة الدَّور الذي يُمكن أن تقوم به مؤسسات القطاع الخاص في توفير ممارسات عملية داخل الغرف الصفية ذات صلة أكبر بسوق العمل، بالإضافة إلى توفير المعلِّمين المتخصصين في نقل أثر التدريب إلى الواقع التقني والمهني، والآليَّة التي يُمكن بها تدريس المواد الدراسية للتعليم التقني والمهني في النظام المدرسي في سلطنة عُمان.
أخيرًا، تبقى هذه المعطيات مساحات للتأمل وفرصة للحوار المشترك للوصول إلى التكاملية بين منظومة التعليم ومنظومات الاقتصاد والعمل والإنتاج، إنها محطَّة لتحقيق مفهوم التعليم المنتج في المدارس، ووضع مسار أكبر للتطبيقات العملية وتدريس المهارات وتعظيم مفاهيم الإنتاجية والجودة والمواءمة كمحددات ومرتكزات تبني عليها نجاح التعليم التقني والمهني في سلطنة عُمان، فهل نمتلك التشريع الداعم لهذا المسار؟ وهل تتوافر بالمدارس الورش والتطبيقات العمليات ومراكز الإعداد، والتجريب؟ وهل بدأنا بتبني إطار واضح في تحديد الاحتياجات التدريبية من المعلِّمين ذوي الاختصاص التقني والمهني للقيام بهذا الدَّور؟ وهل نمتلك خطَّة استجابة فورية للتعامل مع الصعوبات المتوقعة؟ وهل بدأنا باستفتاءات ومسوحات كمية ونوعية لإصدار قرارات واضحة حول ما نسعى إليه في ظلِّ الخطَّة الدراسية؟ وقبل ذلك كله، هل أدركنا حقًّا بأننا نمتلك الإرادة والعزيمة لمقاومة التعلق بالأنانيات التي ما زالت حاضرة؟ تساؤلات ونقاشات تُحدِّد ماذا يجب أن نفعل؟
د.رجب بن علي العويسي